لدينا اليوم ما يسميه المصريون بـ«وعاظ الروشنة» المتمثلين في خطباء التلفزيون، والمتأمل في لغة هؤلاء يلحظ سيطرة العامية التلفزيونية، ويكتشف أن وعاظ التلفزيون العرب هم نقل حرفي لوعاظ التلفزيون البروتستانت في التلفزيون الأميركي، من أمثال بات رابنسون وجيرمي فولول وغيرهما...وهنا لا يقلد الواعظ الإسلامي حداثة الغرب وأدواته في استخدام التلفزيون للدعوة فحسب، إنما يتشبه هؤلاء بأداء الوعاظ البروتستانتيين أيضاً! فهنا لا يسيل الديني في الدنيوي فقط، بل تسيل المسيحية البروتستانتية في الإسلام من حيث الشكل والأداء واستخدام اللغة أيضاً.ما نراه الآن هو تلوث للغة المقدس من خلال تبني لغة الشارع كأسلوب سهل لتوصيل الموعظة الدينية، فالذين يرون في ظاهـر التمدد البشري في الشارع اتساعاً لدائرة المقدس هم مخطئون إلى حد كبير، إذ إن الشواهد تقول إن الدنيوي بدأ في غزو المقدس فحوّل لغته ورسالته من الديني إلى السياسي، ومن المقدس إلى الدنيوي، لينتج لنا خطاباً خليطاً يمتزج فيه الديني بالدنيوي ويخلق حالة من عدم الوضوح، ربما كان هذا السبب الذي يدفع الناس للبحث في مساحات أخرى لإيجاد علامات فاصلة توضح المتدين من غيره من خلال رمزيات فردية كالحجاب بالنسبة للنساء وإطالة اللحية بالنسبة للرجال، ففي عالم تختلط فيه الأمور لابد من محاولات لإيجاد الفواصل والحواجز، ولكن هل هذا يكفي في عالم يدفع باتجاه التداخل بشكل أكثر تعقيداً على حساب تقسيم المكان والزمان.السيولة بين الأشياء، خاصها وعامها، الديني فيها والدنيوي، ليست مقتصرة على علاقة الشارع بالمسجد فقط إنما تتعداها إلى علاقات كثيرة كعلاقة غرفة النوم بالشارع مثلا... فقد لفت نظري خلال فترة عشتها بالقاهرة في ثلاث مناطق: العجوزة، والمطرية، وشبرا، ومن التدقيق في سلوك البشر اليومي، أن بعض أهالي شبرا أو المطرية أو إمبابة وحتى العجوزة، لا يرون غضاضة في أن تتمدد حجرة نومهم حتى تصل إلى محطة المترو أو محطة الأتوبيس أو الشارع الرئيسي، إذ يكون طبيعياً أن يذهب الفرد لشراء الإفطار في الصباح لابساً ملابس البيت بدرجات مختلفة حتى تصل إلى الخروج بالبيجامة أحياناً، فقط يلبس الناس لبس الخروج إذا كانوا سيذهبون إلى منطقة أخرى.إن أضفنا إلى هذا السلوك الذي يتمدد فيه الخاص باتجاه العام، أو غرفة النوم إلى محطة المترو، ظاهرة المساجد المقامة أسفل العمارة، «كنت أقيم في عمارة فيها مسجد، قيل لي إن صاحبها بنى هذا المسجد كمحاولة لتفادي ضريبة المباني، وذلك لأن الحكومة تعفي صاحب العمارة التي فيها مسجد من الضرائب العقارية»، يكون طبيعياً ومنطقياً أن ترى الناس في الصلاة أسفل العمارة في هذا المسجد الجديد يرتدون البيجامة والجلباب، إلى آخره، لأن هذا سياق طبيعي لتمدد غرفة النوم في الشارع، وبالتالي تمدد غرفة النوم في المسجد.إذن دخل المسجد في الخاص «العمارة»، ودخل الخاص في المسجد «البيجامة» في حالة من الارتباك، ودخل الخاص في العام «الخروج إلى الشارع بالبيجامة». في ظل هذه «اللخبطة» يبدو طبيعيا أن تسمع في وسط خطبة الجمعة، عبارات على غرار «خدني بحنانك». تداخل الزمان في التواريخ المكتوبة وتداخل الشارع في المقدس، يوجدان معماراً جديداً يحتاج إلى نقاش جاد.هذا الخطاب الخليط الذي يمتزج فيه المقدس بالدنيوي فيخلق حالة غائمة من عدم الوضوح، هو من الأسباب، التي دفعت الناس إلى التشبث بعلامات فاصلة توضح المتدين من غيره من خلال رمزيات فردية كالحجاب بالنسبة للنساء، فأصبح الحجاب هو المقدس بحد ذاته ولا يجوز حتى انتقاده، ويكفي أن نرى كيف قامت الدنيا ولم تقعد عندما أشار وزير الثقافة في مصر، فاروق حسني، إلى غطاء رأس المرأة على أنه «عودة إلى الوراء» أو نقل لعادات دخيلة غريبة عن الثقافة المصرية، فدخل الوزير في حيص بيص، واتسعت الرقعة عن الرتق، ودخل المجتمع المصري بأكمله في حوار لا يستطيع الإنسان وصفه، ولكن مؤشراته كلها تدل على ثقافة أحسن ما يقال عنها أنها ثقافة فاشلة، يختلط فيها الحابل بالنابل، وتخلو من أي معايير تحكم الحوار، علمية كانت أم دينية، حواراً هو المعادل الموضوعي لأغاني شعبان عبدالرحيم، أي أنك بعد أي مقال تقرأه، لا ينقصك إلا أن تضيف في آخره... وإإإإيه. [c1]* كاتب مصري [/c]
|
فكر
هل يتمدد الجامع في الشارع أم العكس؟
أخبار متعلقة