الهدف من أي مفاوضات هو تقريب الفجوة بين المتفاوضين وصولا الي حل وسط يحصل كل منهما فيه علي شئ يرضيه في مقابل شئ يتخلى عنه دون أن يؤذيه, وتنجح المفاوضات بهذا المعني عندما يكون العائد الذي يحصل عليه طرفاها أكبر, لدي كل منهما, من الثمن الذي يدفعه ومن شروط المفاوضات, التي تعتبر واعدة أو مبشرة, أن يتوافر حد أدنى من التوافق علي الركائز التي تقوم عليها, أو ألا يكون هناك خلاف جوهري أو كبير علي هذه الركائز.فلا يكفي أن يكون الطرفان متفقين علي مبدأ التفاوض, وراغبين في اجراء مفاوضات بناءة, اذا اختلفا علي أسلوب التفاوض أو افترقا بشأن النقطة التي تبدأ منها المحادثات بينهما.وهنا, تحديدا وبمنأى عن تفاصيل كثيرة بلا نهاية, تكمن أزمة مؤتمر أنا بوليس للسلام الذي دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش الي عقده لاستئناف العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين: فالطرفان متفقان علي ضرورة التفاوض, وسبق لهما ان تفاوضا مرارا وتكرارا. ولكنهما يختلفان بشدة اليوم علي النقطة التي يبدأ منها هذا التفاوض, وبالتالي علي احدى أهم ركائز العملية التفاوضية.وانعكس هذا الخلاف في التباعد الشديد بينهما بشأن الوثيقة التي سيقدمانها بشكل مشترك الى مؤتمر أنا بوليس, لتكون أساسا للمفاوضات التي سيطلقها هذا المؤتمر وفقا للآلية التي حددها الداعون اليه, فهو مؤتمر لإطلاق مفاوضات, وليس للتوصل الى اتفاقات.وقد بدأ الطرفان في اجراء مساومات حول هذه الوثيقة من موقفين متباعدين غاية التباعد, وكأنهما نقطتان علي طرفي خط مستقيم, فقد تطلع الفلسطينيون الي اتفاق اطار, بينما سعيىالاسرائيليون الي بيان مشترك.والمقصود باتفاق الاطار نوع من التعاقد المبدئي يلتزم به الطرفان وتقوم علي أساسه المعاهدة النهائية بينهما, ولذلك فهو يتميز بأنه محدد شديد التحديد, ومحكم الى حد كبير, ومفصل الى أقصي درجة, ومرتبط بجدول زمني واضح لالبس فيه, ونموذجه, في تاريخ عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية, هو اطار كامب ديفيد بين مصر واسرائيل الذي تم ابرامه في سبتمبر1978, ومهد لمعاهدة السلام في مارس.1979وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يطمح في أن يقبل رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولمرت التوصل الي مثل هذا الاتفاق وتوثيقه في مؤتمر أنا بوليس, بحيث يتسني ابرام الاتفاق النهائي بعد ستة أشهر علي هذا المؤتمر أي قبل ان يرحل بوش ويأخذ معه ما يسميه رؤيته لدولتين متجاورتين, غير أن أولمرت, المقيد بائتلاف حكومي غير متجانس ويتمتع المتشددون بنفوذ قوي فيه, لايريد أكثر من أن يرجع من أنا بوليس محافظا علي السلام في داخل حكومته, ولا يفيده في شئ ان يتقدم خطوة ملموسة الى الأمام نحو السلام في المنطقة اذا كانت نتيجتها خطوة كبري الي الوراء بالنسبة الي تماسك حكومته المتداعية أصلا.ولذلك سعى أولمرت الى بيان عام غير محدد ولامفصل ولامرتبط بجدول زمني, أي من نوع البيانات المشتركة شديدة العمومية التي تصدر عقب محادثات روتينية بين دولتين, ولاجدوى لمثل هذه الوثائق بطبيعة الحال, في عملية سلمية يختلف الطرفان علي كل شئ فيها بدءا من مرجعيتها ووصولا الى مداها الزمني المفتوح أبدا عند الإسرائيليين.ولكن أولمرت, الذي يعرف صعوبة تسويق فكرة البيان المشترك, اخترع تعبيرا جديدا هو بيان مصالح يستلهم خطة خريطة الطريق التي تقادمت زمنيا دون ان يستنسخها, وخصوصا فيما يتعلق بتبادلية الالتزامات في عملية تدريجية لايمكن الا أن تكون طويلة, ويعني ذلك أن رئيس الوزراء الإسرائيلي, الذي يشعر بأنه ذاهب الى حقل ألغام بالنسبة الي حكومته وليس الى مؤتمر سلام, قرر أن يناور للحفاظ على السلام داخل حكومته بدلا من السلام مع الفلسطينيين.وهذا سلوك طبيعي من جانب أي سياسي في موقع أولمرت, وفي مثل ظروفه, فعندما يكون التحرك الي الأمام مكلفا الي هذه الدرجة, يلجأ رجل السياسة إما الى السير في المكان أو الى الحركة الدائرية كسبا للوقت, وخصوصا في غياب ضغط يتعرض له ويفرض عليه أن يعيد حساباته.فالوسيط الرئيسي ومنظم المؤتمر في الوقت نفسه, يتمني على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يسير خطوة ولو صغيرة الى الأمام, ولكن دون ان يلزمه بشيء بل يتواطأ معه فعليا على نحو لاينسجم مع الدور الذي يفترض ان يلعبه وسيط أخذ على عاتقه مهمة عقد مؤتمر ويفترض أن له مصلحة في نجاحه.وما أبعد هذا الدور عن ذلك الذي قامت به ادارة بوش الأب خلال الاعداد لمؤتمر مدريد في1991 فقد حرص جيمس بيكر وقتها, بخلاف رايس الآن, علي ايجاد صيغة تنطوي علي حد أدني من التوازن يقوم عليه المؤتمر عبر توجيه رسائل ضمانات, ولم يعبأ بغضب إسرائيل عندما اعترضت علي مضمون الرسالة الموجهة الي الفلسطينيين, وقد أدت تلك الرسائل حينئذ الوظيفة التي يفترض ان تؤديها الوثيقة المشتركة المختلف عليها الآن.هذا الفرق بين الدور الأمريكي1991 وفي2007 يعبر عن حجم التغيير الذي حدث ليس فقط في سياسة واشنطن, ولكن ايضا في معادلات الصراع وموازين القوي في المنطقة, وفي موقع قضية فلسطين فيها, ولذلك فليس هناك مايبشر بامكان تحسن المنهج الذي اتبعته رايس في زيارتها الأخيرة في منتصف أكتوبر الحالي, والسابقة عليها في19 و20 سبتمبر الماضي.فالفرق بين منهجي رايس2007 وبيكر1991 يبدو بحجم المسافة التي تفصل بين اتجاهات ادارتي بوش الابن وادارة بوش الأب, وبين فلسفتي المحافظين التقليديين والمحافظين الجدد.[c1]- عن / الأهرام[/c]
|
فكر
من «مدريد» إلى «أنا بوليس» بين بوش الأب والإبن!
أخبار متعلقة