في مثل هذه الأيام من هذا الشهر، قبل أربعين عاما، شنت إسرائيل حربا صاعقة هزمت فيها مصر وسوريا، في حرب اصطلح على تسميتها بالنكسة، وأصبح معها مصطلح النكسة دالا على وعي عربي نكسوي، يجيد الاحتيال والهروب من مواطن الأسئلة الحقيقية. قيل الكثير وسيقال عن هذه اللحظة المفصلية في تاريخ الدول العربية، وبالذات في مصر وسوريا ولبنان. كثيرون غيروا قناعاتهم وتحولوا فكريا وسياسيا عقب هزيمة حزيران المذلة، كثيرون ممن يمتلكون حدا أدنى من احترام الذات، شعروا أنهم أمام لحظة كاشفة تتطلب استجابة حقيقية وانتفاضة وعي جديد، لكن هؤلاء، على كثرتهم، انغمروا في بحر ظلمات شاسع، بحر ظلمات عربي يبتلع في سواده وظلامه كل ومضة عقل أو التماعة نقد. وعاد الحواة والبهلوانات يعيدون وعي ما قبل 67 نفسها وكأن شيئا لم يحصل، كأن خطابا سياسيا عربيا كاملا لم يتقوض صبيحة السادس من يونيو، بعدما تكرست مأساة الفلسطينيين، وأصبح لدينا لاجئو 67 بعد نازحي 48، الحجج، نفسها الحكي نفسه عن الأمة العربية الواحدة، نفس الوهم عن توازن القوى، الدجل ذاته عن اتحاد العرب ضد الامبريالية والصهيونية، ونفس التكاذب عن وحدة المصير العربي. يفترض في الأحداث الضخمة، ذات الوقع المدوي، أن تتنج وعيا جديدا ومختلفا، ربما يصل إلى حد القطيعة مع الوعي الأول، حتى المستوى الفردي والتجربة الشخصية المباشر، لو أن إنسانا طعن بوفاء اقرب الأصدقاء إليه وتبين له انه كان يعمل على تدميره، من المؤكد أن ذلك سينتج لديه أسئلة جديدة تجعله يعرف مدى الوهم الذي كان يعيشه مع هذا الصديق الخائن، وتجعله بالتالي يقرأ الأوراق من جديد، ولكن هذه المرة يقرأ السطور وما بين السطور، وما يظهره الحبر العلني والسري، وسيتضح له حينها واقع آخر، ويتبين له مشهد جديد كان غائبا عن عينيه لأنه لم يكن يبصر إلا ما يريد الوهم أن يريه إياه، كما قال الشاعر الأموي الأول:أري عيني ما لم تبصراه / كلانا عالم بالترهات! هذا في تجربة شخصية موغلة في خصوصيتها، الفردية، فكيف بهزيمة وعي كبرى كالتي حدثت في 67؟! لماذا عاد الخطاب نفسه وتكررت الوجوه، وقيل لنا بعد « النكسة» ما كان يقال لنا قبلها ؟! هل صحيح أن الزمن العربي بطبيعته زمن دائري، يلف ويتحرك ليعود الى نقطة البداية نفسها، ويعيد الكرة ذاتها؟ لماذا لا تحدث القطيعة المعرفية مع الجزء الميت من تاريخنا؟! كعربي، لن تدهش إذا ما عادت الهزيمة، وبنفس الخطوات، من دون أي توقف أو لحظة مكاشفة للذات وإقلاع نحو أفق وعي جديد؟ العرب لا يغادرون ماضيهم، وهم أسرى أزمنتهم، بعجرها وبجرها. هل يمكن أن يعود الغرب إلى لحظة الحروب الكبرى بين البروتستانت والكاثوليك؟ هل يمكن أن تعود الثورات التي كانت تطيح أنظمة الحكم إلى عواصم أوروبا؟ هل يمكن أن يعود الغرب إلى زمن مملكة بروسيا أو حتى بسمارك. الزمن هناك يمضي بشكل تصاعدي، يقطع مع الماضي، بعد أن يهضمه ويدخله إلى نسيج الحاضر، لكن الماضي لا يخنق الحاضر عندهم بل يغنيه، فيرتاح الماضي من ضغط الحاضر، ويتحرر الحاضر من قيد الماضي. لكن عندنا: لا ! فالماضي يظلل الحاضر ويحجب عنه عين الشمس، والحاضر يتسول فتات إنجاز من الماضي، فلا هو بالذي عاش منفردا مسؤولا بعيدا عن اللواذ بالماضي كالأطفال، ولا هو بالذي ترك الماضي طبيعيا غير مضخم ولا مشوه، ولا حتى ملعونا كلما هزم الحاضر أو «انتكس»! زمننا دائري، ومشكلاتنا تدور وتدور، ويدوخ معها العقل، منذ أربعين سنة ونحن نتحدث عن النصر، بلا نصر،، ونبشر بالوحدة، ولا وحدة، رغم ان هذه الوحدة المبشر بها ليس من الضرورة أن تكون هي الحل، كما انه ليس من اللازم ان تكون فكرة واقعية تنسجم مع شروط الجغرافيا والتاريخ... ولكن هكذا كان يقال، وما يزال، في تكرارٍ مضحكٍ مبكٍ! رمز الهزيمة الإعلامية، محمد هيكل، ما زال يتحدث.. ويتحدث.. ويتحدث.. في منبره على «الجزيرة»... ماذا يعني هذا ؟! يعني أن النقد فضيلة لا تمارس عندنا، ويعني أننا خلاقون ومبدعون في فن التعود والتعويد على الوهم. كان من المفترض أن تنطلق حركة وعي جديد، تلقي برموز تلك المرحلة إلى خارج التدوال الثقافي والاجتماعي والسياسي، كان من المفروض أن نراجع تاريخنا وكلامنا كله، ونعرف حجمنا الحقيقي، بدون كذب، ونحدد قدراتنا، ونتبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب في سمائنا، كان من المفروض أن تحدث هزة عقلانية تنفض التاريخ، وتكنس الحاضر، ونعرف لماذا هذا الجزء من العالم الذي نقع فيه، عصي على التطور والقوة والنماء؟! تصوروا: بعد أربعين سنة من الهزيمة، وبعد الوعود الغزيرة عن حرب الرد واستعادة الكرامة، نتحدث الآن عن «فتح الإسلام» و«عصبة الأنصار» و«جند الشام» في مخيمات الشتات الفلسطيني؟! وفي غزة، حماس تتذابح مع فتح، والعالم تعب منا ومن أزماتنا التي لا تنتهي. صدق نزار قباني: ماذا نخبركم يا أحباب؟ عن أدبِ النكسة، شعر النكسة، يا أحباب.. ما زلنا منذ حزيران.. نحنُ الكُتّاب نتمطى فوق وسائدنا.. نلهو بالصرف وبالإعراب يطأ الإرهاب جماجمنا ونقبِّلُ أقدام الإرهاب نركب أحصنةً من خشبٍ ونقاتل أشباحاً وسراب.. وننادي: يا ربَّ الأرباب نحن الضعفاء، وأنت المنتصر الغلاّب لحظة واحدة فقط، لحظة تكسر فيها هذه الدائرية الزمنية، وتنعتق الأسئلة من سجن الدائرة لنرى، مرة واحدة، عالمنا بلا غطاء، وثقافتا بلا بخور الكذب الداكن، حينها، وحينها فقط، سيتمدد الزمن، زمننا، متخلصا من عبء التكوم في حدود الدوائر المغلقة.[c1]كاتب وصحفي سعودي [/c]
|
فكر
نكسة الزمن الدائري
أخبار متعلقة