في هذا المقال سنتحدث عن ضمير القاضي المسلم الذي يختار الحكم المناسب للحالة المطروحة أمامه، والذي يتحرى العدل في أحكامه على الناس.هذا القاضي نشأ في مجتمع يملك دولته ويديرها ، والقاضي في هذه الدولة من (أولي الأمر ) بل في مقدمتهم . هذا يدعونا إلى مزيد من التدبر في جملتين من القرآن الكريم (وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) و(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) لنتفهم أكثـر أهم وظيفة للدولة الإسلامية ، وهي وظيفة القاضي على النحو التالي :[c1]القاضي نتاج مجتمع يقوم بنفسه يحقق القسط طاعة لله جل وعلا[/c]هنا نتوقف مع معنى (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) فى قوله جل وعلا : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)( الحديد 25 ). بايجاز نقول :1 ـ الهدف الوحيد من ارسال الرسل وانزال الكتب السماوية هو (أن يقوم الناس بالقسط ).2 ـ معنى أن (يقوم الناس بالقسط ) هو قدرة المجتمع بنفسه على إقامة القسط نتيجة إيمانه بالرسالة السماوية الداعية لاقامة القسط . 3 ـ وإقامة القسط تبدأ بنشر ثقافة القسط المستمدة من القيم العليا التي يحث عليها رب العزة في كتابه باعتبارها المعروف المأمور به ، ومنع الظلم والاستبداد وكل أنواع المنكر المنهي عنها. 4 ـ إقامة القسط بين الناس تشمل كل أنواع العدل ، فالقسط في السياسة يعني الديمقراطية المباشرة ، والقسط في الاقتصاد يعني حرية السعي فى سبيل المعاش واستغلال موارد المجتمع بأمثل طريقة لفائدة المجتمع ، وتكافؤ الفرص، وحق الفقراء والمساكين وغيرهم في التكافل الاجتماعي. وإقامة القسط على المستوى الفردي في التعامل بين الجيران و داخل الأسرة وفي العمل وفي الييع و الشراء وسائرمستويات التعامل الاقتصادي ، و حتى في التعامل مع البيئة والموارد الطبيعية بعدم تجاوز الميزان أو التوازن البيئي قال تعالى : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ )(الرحمن 7 : 9 ). 5 ـ إقامة الناس لكل أنواع القسط يستلزم مجتمعا حيّا نشطا حرّا متفاعلا بالحركة ، تدفعه ثقافة ايمانية بأن العدل هو أساس شرع الله جل وعلا وأساس كل الرسالات السماوية، وأساس حفظ المجتمع وحمايته ، وراحة أبنائه وأمنهم ، بعكس الظلم الذى يجعل المستبد خائفا من شعبه ويجعل الشعب خائفا من المستبد ، ويتطور خوف المستبد الى تحصين نفسه بالمزيد من إرهاب الناس وظلمهم وكلما تضاعف ظلمه تضاعف رعبه وخوفه الى أن يسقط ،أو يسقط المجتمع في الفوضى. 6 ـ إقامة الناس للقسط يعني المساءلة لكل مسئول من اولي الأمر ، فتحقيق القسط قد يعني وجود ظلم أو حقوق ضائعة أو تفريط فى المسئولية . وبالتالي تكون وظيفة القضاء هي أبرز مهام الدولة في الاسلام . وهي تتنوع لتشمل الفصل في الخصومات بين الأفراد مدنيا وجنائيا ، والفصل في النزاع بين الأفراد وأجهزة الدولة ، والعكس، والنزاعات بين المجموعات ، وبين أجهزة الحكم أو (أولي الأمر)، أي تمتد اختصاصات القضاء وتتنوع من شئون الأسرة والشجار بين الزوجين وحضانة الأطفال الى مراقبة أجهزة الدولة لبعضها البعض ، فالكل مسئول والكل مساءل ، ولا أحد فوق القانون. هذه هي الخلفية التي يتكون فيها ضمير القاضي في الدولة الاسلامية الحقيقية، وهو فيها أهم أجهزة الدولة ، ولكنه مساءل فى أحكامه أمام هيئات أخرى من الناس ، فالله وحده هو الذى لامعقب لأحكامه (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) (الرعد 41). [c1]القاضي أحد أولي الأمر[/c]هنا نتدبر قول الله جل وعلا : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء 58:59)الآية الأولى هنا تأمر بتأدية الأمانات (الحقوق) لأصحابها ، وأن يحكم المسلمون فيما بينهم بالعدل ، وأن هذا هو نعم الوعظ وأجمل النصح ، وأن الله جل وعلا هو الذي يراقب ويسمع ويرى مبلغ تطبيقهم للعدل وإعطاء الحقوق لأصحابها . الملاحظ هنا أنه جل وعلا لم يقل( تأدية الأمانة ) ولكن قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا).استعمال لفظ ( الأمانة) مفردا جاء في القرآن الكريم بمعنى التكليف للانسان وحريته في الطاعة والمعصية ومسئوليته أمام الله جل وعلا يوم القيامة (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) (الأحزاب 72). وتأتي أيضا مفردة في وجوب أن يعطى الفرد الأمانة التي عنده لمن إئتمنه عليها (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) ( البقرة 283 ).ولكن يتغير المعنى حين تكون بالجمع ( أمانات ) وحين يكون الخطاب للمؤمنين في مجتمعهم ودولتهم ، هنا يأتي التحذير للمؤمنين من خيانة الأمانات، وتكون تلك الخيانة ليست موجهة فقط للمجتمع ولكن لله جل وعلا و رسالته ، وهذا هو معنى قوله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (الأنفال 27 ). وفي المقابل فالمؤمنون المفلحون الفائزون بالجنة يوم القيامة هم أولئك الذين يراعون العهد والأمانات ، وقد تكرر هذا مرتين في القرآن الكريم : (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) (المؤمنون 8 ، المعارج 32).الواضح هنا من السياق ارتباط الأمانات بالعهد ورعايتهما وأن الخيانة هنا تكون خيانة لله جل وعلا ورسوله.أي إن الأمر ليس مجرد مال أودعه شخص عند شخص ، فقد جاء ذلك في تشريع تفصيلي خاص بالتعامل المالي والديون و كتابتها (البقرة 282 : 283 ). الأمر هنا يتعلق بحقوق الناس أو حقوق الانسان المقررة ضمن منظومة القيم العليا فى الاسلام ، أو المعروف المأمور به والمنكر المنهى عنه . هذا في السياق العام لمصطلح الأمانات.أما فى السياق الخاص داخل الآية نفسها فالتوضيح داخل الآية نفسها ، فالأمر بتأدية الأمانات يشرحه الأمر التالي وهو الحكم بين الناس بالعدل ،( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) فبالعدل يتم إعطاء الناس شتى حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية . وتلك وظيفة القضاء في الاسلام : أن يتمتع كل مواطن في الدولة بكل حقوقه ، بما فيها حقوقه المالية إذا استودع شخصا أمانة فجحدها ذلك الشخص ، عندها يقوم أولو الأمر في السلطة التنفيذية والسلطة القضائية بإلزام الجاحد تأدية الأمانة لصاحبها بالعدل.ولأن عدم تأدية الأمانات خيانة لله جل وعلا و رسوله وتشريعه وكتابه فلا بد للمؤمنين من الطاعة في تنفيذ الأمر. لذلك تأتي الآية التالية تأمر بطاعة الله جل وعلا فيما أنزله في رسالته التي بلّغها رسوله عليه السلام ، والتي بعد موت خاتم النبيين يكون تنفيذها بيد أولي الأمر من داخل المؤمنين ، يقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ). المطاع هنا واحد ، هو الله جل وعلا في رسالته السماوية ( القرآن الكريم ) والتي يقوم عليها أولو الأمر من داخل المؤمنين . أي ليست طاعة لأشخاص وانما طاعة للواحد القهار.والعصيان هنا بعدم رعاية العهد والأمانات (أي عدم إعطاء حقوق الناس )هو خيانة لله جل وعلا و لرسوله . وليست أمور التعامل بسيطة واضحة ، بل تكون أحيانا معقدة وشائكة و تستدعي التنازع ، عندها يتم التحاكم الى كتاب الله، أي القرآن الكريم ،أو بالتعبير القرآني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ). التحاكم يكون دائما للقرآن الكريم فقط (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) ( الأنعام 114 ) ،أي فالتحاكم الى القرآن هو التحاكم الى الله جل وعلا عند الاختلاف (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) ( الشورى 10 ). ولا يعني التحاكم الى القرآن الضمان الحقيقي للعدل و رد الحقوق لاصحابها وحل النزاعات بين المسلمين ، ولنتذكر كيف رفع عمرو بن العاص المصاحف على أسنة الرماح في معركة (صفّين) طالبا الاحتكام لكتاب الله جل وعلا ، وكانت خدعة استباح فيها عمرو بن العاص حرمة الكتاب الكريم ، واستخدمه كيدا وعدوانا وخيانة لله تعالى ورسوله ،ولا يزال الاستخدام السيىء للقرآن تجارة رابحة .ومن هنا نتوقف بكل إكبار لقوله جل وعلا في تذييل الآية (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي يكون الاحتكام الى كتاب الله مدفوعا ومقترنا بالايمان بالله جل وعلا و اليوم الآخر ، بما يعني أن كل حطام الدنيا لا يستحق لحظة عذاب في النار أو لحظة نعيم في الجنة . نعيد التاكيد هنا في موضوع (أولى الأمر ) على الآتي :1 ـ أن ( الأمر ) هنا ليس الحكم ولكنه الشأن ، فأولي الأمر هم أصحاب الشأن المتخصصين فيه،أو اهل الخبرة ، ومنهم من يكون متخصصا في القضاء ، ومنهم من يكون خبيرا في الأمن ، وفي دولة النبي محمد عليه السلام الاسلامية كان من المنافقين من تخصص في نشر الاشاعات ، وقد كان لهم دور خائن في محنة المسلمين في حصار الأحزاب للمدينة حتى لقد حذرهم رب العزة من ترويج الاشاعات ( الأحزاب 13 ـ ، 18 ـ ، 60 )، وكان هناك خبراء في الشئون الأمنية في دولة الاسلام في عصر خاتم المرسلين ، وقد تجاهلهم المنافقون أصحاب الشائعات وقت الحرب ومكائد العدوان ، وكان الأولى بالمنافقين الرجوع الى أولئك المتخصصين الأمنيين، والله جل وعلا يقول (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ( النساء 83 ). هنا الموضع الآخر المذكور فيه مصطلح (أولى الأمر ) ، بما يؤكد أنهم أصحاب الخبرة ، وطاعتهم في مجال تخصصهم ، وفي إطار طاعة الله جل وعلا في كتابه الكريم .2 ـ إن التعبير جاء بالجمع أي (أولو الأمر ) ولم يأت مفردا ( ولي الأمر ) وهذا مفهوم في الدولة الاسلامية ذات الديمقراطية المباشرة حيث يكون الناس جميعا قائمين بالقسط ، وكل منهم مسئول ومساءل أمام الآخرين ، وهو يراقب أي تجاوز كما يراقب الآخرون أي تجاوز يقع منه. أي هو مفهوم يحمل في طياته ما يقال الآن في الثقافة الغربية الفصل بين السلطات ومراقبة بعضها البعض ، ومنها بل وفي مقدمتها سلطة القضاء، والتي يتربع على عرشها ضمير القاضي المسلم ، الذي يعرف أنه مساءل في الدنيا أمام الناس ، ومساءل في الآخرة أمام رب الناس. 3 ـ وجاء التعبير بقوله جل وعلا (وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) و(أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ) ، أي فهم من بين الناس أي من داخل المجتمع، تم إختيارهم وانتخابهم من المجتمع باعتبار كفاءتهم في (الأمر) أو ( الشأن ) المتخصصين فيه . وأيضا فهم من ذلك المجتمع نفسه الذي تشرّب ثقافة الديمقراطية المباشرة أو (الشورى الاسلامية ) الحقيقية ، بحيث لا يستنكف عن المساءلة ، وبحيث يعرف أنه يأخذ أجره من المجتمع وأنه أجير لدى المجتمع بعقد مؤقت ، يتعرض للعزل والعقاب أو للمدح و الثناء حسب تأديته لوظيفته. هذا بينما يعتقد المستبد أنه هو الذى ينفق على الناس ، وأنه هو الذي يتفضل عليهم بالمكرمة الملكية ، ولا يفتأ يمتن عليهم بها متقمصا دور الله جل وعلا ، وهو وحده الرزاق ذو القوة المتين ، وهو وحده صاحب الحق في المنّ على عباده .المساءلة هنا أهم مؤثر في تأدية منصب القضاء والحكم بين الناس ، فالقاضي يدرك أنه يعيش في مجتمع يفور بالحيوية ، والشفافية والأنوار المضاءة ، وأن خلفه آلاف الأعين وآلاف الآذان تراقبه وتقيم أحكامه. نتحدث عن كل قاض من المحكمة الابتدائية الى المحكمة الدستورية العليا أو ما يشبهها في الدولة الاسلامية الحقيقية .[c1]النبي محمد عليه السلام كان أول قاضفي الدولة الإسلامية[/c] ولأن القضاء هو أهم وظيفة للدولة في الاسلام فقد كان الوظيفة المناطة بالنبي محمد عليه السلام في المدينة . هنا نفاجأ بنوعية مختلفة في الخطاب القرآني للنبي وهو القائد ــ وليس الحاكم ـــ والقائد هنا بمعنى المرشد النبي الذى يأتيه الوحي فيقوم بتطبيقه، وحين انتهى الوحي نزولا كانت كل ملامح الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي المدني قد اكتملت.إن الله تعالى لا يخاطب النبي باعتباره حاكما للناس أو يحكم الناس، ولكن باعتباره قاضيا يحكم بين الناس، وتلك هي المهمة الأولى والأساسية للدولة الإسلامية، بل هي المقصد الأسمى الذي من أجله نزلت الشرائع السماوية على الأنبياء (الحديد 25).وقوله تعالى “ليقوم الناس بالقسط” وثيق الصلة بمفهوم السلطة السياسية في المجتمع، وكيف أن المجتمع أو الناس هم مصدر السلطة وهم القائمون بها، وعليه فإن تحقيق القسط فيما بينهم وظيفتهم أيضا، أي أنهم هم القائمون بحكم أنفسهم وهم أيضا القائمون بالقسط وتحقيق العدل فميا بينهم وفق آليات يختارونها، بشرط أن تنجح تلك الآليات في تحقيق العدل، وليس من العدل على الإطلاق أن ينفرد شخص ما بالحكم أو بالثروة والنفوذ. والمثل الأعلى في ذلك كان خاتم النبيين في دولة المدينة، إذ لم ينفرد بالنفوذ ولا بالثروة. وإنما كان ذلك جميعه للمجتمع والناس. وكانت مهمته (بعد التبليغ) في دولته هي القضاء والحكم بين الناس، وليس حكم الناس.والوظيفة المدنية الوحيدة للنبي عليه السلام فى دولة المدينة كانت القضاء. وفي ذلك يشترك نبي الله داود عليه السلام مع خاتم النبيين عليهم السلام. والنبي حين يقضي بين الناس فهو بشر يمكن أن يخطيء ويصيب، مع إيماننا بأنه يتحرى العدل وأنه مأمور به، والنبي محمد عليه السلام أمره الله جل وعلا أن يقول للناس :(وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) (الشورى 15).ولكن تحري الحكم بالعدل عملية معقدة ومركبة لا تتوقف فقط على ضمير القاضي وورعه، ولكن على نزاهة الخصوم، وأكثر الخصوم يريد الحكم لمصلحته ولا يرى غير مصلحته حيث أن أكثر الناس ظالم لنفسه، ومن هنا كان الخطاب الإلهى لنبي الله داود بالحكم بين الناس بالعدل : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (ص 26) ، فمع أن الله تعالى يجعله خليفة في الأرض إلا أنه لم يكن يحكم الناس وإنما يحكم أي يقضي بين الناس. ولأنه بشر فقد حذره الله تعالى من الحكم بالهوى وأمره بالحكم بالحق.وكما أمر الله تعالى خاتم النبيين عليهم السلام بالعدل(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ( الشورى 15) فقد حذره أيضا من الهوى ومن أن يخدعه أصحاب القضايا: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ )( المائدة 48، 49).وحدث أن تعرض النبي عليه الصلاة والسلام لخديعة نتج عنها أن حكم بتبرئة سارق وإدانة بريء بناء على مكيدة تم فيها وضع الدرع المسروقة في بيت يهودي مظلوم، وحكم النبي بتبرئة الجاني السارق وإدانة المظلوم. ونزلت آيات القرآن تنبه النبي وتلومه وتثبت لنا إمكانية أن يقع القاضي في الخطأ في الحكم حتى لو كان في نزاهة النبي وحرصه على العدل،(النساء 105 : 113) لأن تحقيق العدل مهمة ينبغي أن يضطلع بها الجميع من خصوم وشهود وقضاة ومجتمع بأسره.[c1]ضمير القاضي انعكاس لمجتمعه[/c]وحيث ان القاضي هنا يمثل ضمير المجتمع فلا بد من تزكية المجتمع وتثقيفه وتربيته خلقيا وحضاريا بالقيم العليا التي حفل بها الجانب الخلقي من القرآن الكريم ، في وصاياه من الأمر بالعدل والاحسان و العطاء و العفو و الرحمة و المغفرة والكرم والوفاء بالعهد والاعراض عن الجاهلين ( الأنعام 151)(النحل 90 : 97 )(الاسراء 23 : 39 )( الفرقان 63 )(الشورى 36: 43) ومن المجتمع المتحضر ينبت القاضي العادل كما كان في عصر النبوة . وكما أسلفنا فإن الخطاب يتوجه للناس والمؤمنين أو المجتمع حتى في الحكم بالعدل ، وهنا تقوم تشريعات القرآن بتربية العقل الجمعي على أسس العدل والقسط، وذلك أيضا موضوع شرحه يطول، ولكن نكتفي منه ببعض الإشارات .قلنا إن الله تعالى جعل إقامة القسط وظيفة المجتمع (الحديد25 ) وإقامة القسط عملية مركبة شديدة التعقيد أفقيا ورأسيا.أفقيا : فإقامة القسط تعني ألا ينفرد شخص أو طائفة بالحكم السياسي بل يكون الحكم مشاركة وحقاً لكل فرد في المجتمع وفق نظام الشورى الذي أشرنا إلى بعض ملامحه. ويعني ألا ينفرد شخص أو طائفة بثروة المجتمع على حساب المحرومين.. أي القسط في الثروة وفي السلطة وفي الجاه والنفوذ، وفي استحقاق الحماية والأمن.رأسيا : أي إقامة القسط على مستوى القضاء بين الناس على جميع المستويات ، وهذا يستلزم قاضيا عادلا وشاهدا صادقا وموظفين أمناء ومجتمعا فاضلا يعرف الصدق صدقا فيتبعه ويعرف الفساد فسادا فيجتنبه. وذلك كله يستلزم تربية حقيقية تقوم على الخشية من الله وتقواه قبل أي اعتبار آخر. وهنا يختلف تشريع القضاء في القرآن عن مثيله في الدول العلمانية المدنية الديمقراطية . فالمتهم هناك بريء حتى تثبت إدانته، فإذا لم تثبت إدانته فهو بريء حتى لو كان أعتى المفسدين، فالعبرة هناك بالضبطية القضائية وإثبات التهمة عليه، وإلا كان بريئا وأصبح من حقه - حتى لو كان أعتى المجرمين - أن يعود على السلطات بدعوى تعويض. أما في تشريع القرآن فليست العبرة فقط بالضبطية القضائية ولكن بضمير الإنسان نفسه، أو بتعبير القرآن بالتقوى، ولذلك فإن آيات التشريع في القرآن تختتم بالحث على تقوى الله وخشيته والتعامل مع الله قبل التعامل مع الناس. ومن هنا يبادر الشخص إذا كان جانيا أو شاهدا أو قاضيا بقول وفعل ما يرضي الله تعالى قبل أي اعتبار آخر.( لاحظ أننا هنا نتجاهل تشريع الاستبداد حيث تكون مهمة النظام هي تلفيق الاتهامات ويكون البريء متهما حتى لو ثبتت براءته )والآيات التي تأمر المجتمع بالقسط والعدل كثيرة خصوصا في التفصيلات التشريعية، ولكن نكتفي منها ببضع آيات. يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(النساء135) .فالأمر هنا للمؤمنين بأن يكونوا قوامين أي دائمي القيام والمحافظة على القسط، وأن يشهدوا ابتغاء مرضاة الله على ذلك، ولو كان ذلك على حساب أنفسهم أو أقرب الناس اليهم. أي يراعوا العدل والقسط ولو على حساب أنفسهم أو أقاربهم. ويتكرر نفس الأمر في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(المائدة 8 ).ويجب مراعاة القسط والعدل عند النطق بالكلمة في أي زمان ومكان، ومن ضمن الوصايا في القرآن قوله تعالى :(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام 152). ولذلك كان التأكيد على الشاهد في القضاء أن لا يقول إلا الحق وألا يكتم الحق وأن تكون له حصانته من الأذى (وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)(وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ) (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(البقرة 283، 282) (الطلاق2).[c1]ميزان العدل الحسّاس في التشريع الإسلامي[/c]وإذا راجع القارئ الآيات القرآنية في هذه الفقرة السابقة - وغيرها من الآيات كثير - لاحظ تكرار اللفظ القرآني “أقام” ومشتقاته، ومنها “ليقوم الناس بالقسط” “كونوا قوامين بالقسط شهداء لله” “كونوا قوامين لله شهداء بالقسط” “أقيموا الشهادة لله”.ولفظ “أقام الشيء” يعني حافظ عليه ورعاه، ومنه إقامة الصلاة بالمحافظة عليها في أوقاتها وعدم تضييع ثمرتها بارتكاب المعاصي. والمقصود أن إقامة القسط لا تعني مجرد الحفاظ عليه وحسب، وإنما أيضا الابتعاد عن أي تسرب للظلم في الكيان القضائي.. فماذا يحدث اذا تسربت نسبة ضئيلة من الظلم إلى الكيان القضائي الإسلامي القائم على القسط؟هنا نناقش الفارق بين لفظين قرآنيين هما: القاسطون، والمقسطون.فالقاسط هو الذي يراعي العدل غالبا، أي بنسبة 90 % أو أكثر، ولكنه لا يبلغ نسبة 100 % لأن المقسط هو الذى يراعي العدل بنسبة 100 % حسب إمكاناته البشرية. (القاسط)على وزن فاعل، وصيغة فاعل لا تدل على اللزوم والاستمرار، فإذا أردت وصف إنسان بصفة لازمة فعليك أن تصفه بإحدى صيغ المبالغة المعروفة في اللغة العربية، ومنها وزن “مفعل” بضم الميم وسكون الفاء وكسر العين، أي لا تقول فيه قاسط، وإنما مقسط.والقاضي ( القاسط ) هو الذي يحكم بالعدل بنسبة أقل من مائة في المائة يعني أنه يتبع هواه أحيانا بنسبة كذا في المائة، إذ يرى الحق واضحا في بعض القضايا ولكن لمصلحة ما أو لهوى في نفسه يحكم في بعض تلك القضايا القليلة بهواه، ومع أنه في أغلب أحكامه يتحرى العدل إلا أن مصيره سيكون حطب جهنم، يقول تعالى : (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) ( الجن 15)وفي المقابل فإن المقسطين هم من يحبهم الله تعالى، تكرر ذلك ثلاث مرات في القرآن :( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة42، الحجرات 9، الممتحنة 8) وذلك في الحديث عن الحكم على غير المسلمين وتدخل طائفة أخرى لتحكم بينهما بالقسط.. والمقصود أن القسط المطلوب اسلاميا هو النزاهة أي الحكم بنسبة مائة في المائة، ذلك لأن حق الأفراد مطلق في القسط والعدل . وأقل نسبة من مائة في المائة تكون ظلما يدخل به صاحبه النار ليكون حطبا لها ( الجن 15).والفيصل هنا هو ضمير القاضي الذى يتحرى العدل، وعلى أساس ضميره سيكون حسابه عند الله وسيكون تقييمه، هل هو ظالم قاسط؟ أم هو عادل مقسط ، وهل تعمد الظلم في حكمه أم مجرد إهمال ؟ وهل أخطأ بحسن نية ،أم تعمد الخطأ..إلخ .. والله جل وعلا وحده هو الذي يعلم خفايا السرائر. أما درجة الحكم نفسها فهي مرتبطة بإمكانات القاضي البشرية، وقد رأينا أن النبي عليه السلام نفسه قد تعرض للخداع فكيف بغيره.القاضي المسلم هو الذي يؤمن ايمانا حقيقيا بالله و باليوم الآخر، ويعلم أنه يتولى أعظم وظيفة ، يخلف فيها خاتم المرسلين ، وكفى بها مسئولية . [c1]باسم من يحكم القاضي؟ باسم الله تعالى أم باسم المجتمع؟[/c]النبي محمد عليه السلام لم يكن يعلم الغيب وهذه حقيقة قرآنية أكدتها عشرات الآيات، ولذلك أخطأ في حكم قضائي بسبب خديعة أشارت اليها سورة النساء ( 105 : 113 ) ، وكان حكمه تعبيرا عن إمكاناته البشرية التي تتقاصر عن علم الغيب. وهذا ينطبق بالتالي على كل البشر من قضاة وخصوم. وبالتالي فإن الحكم القضائي البشري يكون باسم البشر وليس باسم الله، وحيث ان القاضي هنا يمثل ضمير المجتمع فإنه يحكم باسم المجتمع وليس باسم الله، لأن المجتمع هو مصدر السلطات وهو القائم بالسلطات ومن أدواته القاضي، ومن سلطات المجتمع تنفيذ أحكام القاضي سواء كان ذلك الحكم صائبا أم مخطئا.وتأكيد القرآن على أهمية العدل والقسط وتحذيره من الحكم بالهوى كل ذلك يؤكد على مسئولية المجتمع على ما يصدره نظامه القضائي من أحكام. وهذا ما يتضح من سياق آيات التشريع، ونكتفي من ذلك بقوله تعالى يحذر من اضطهاد الشاهد والكاتب (وكلاهما محايد)، “( وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة 282 ) يعني إذا تهددت حصانة الشاهد أو الكاتب فإن ذلك يدل على فسوق يسري في المجتمع، ولابد من علاج ذلك الفساد وتلك مسئولية جماعية اجتماعية.ومن الظلم لله تعالى أن يصدر القاضي أحكاما بشرية قضائية تحمل فيها كل نقائص البشر وأهوائهم ، ثم ينطق القاضي بأن ذلك حكم الله. ذلك يخالف المنطق كما يخالف العقل، وقبل ذلك يخالف الإسلام. فإذا كان النبي لا يستمد سلطته السياسية من الله فإنه أيضا في أحكامه القضائية كان لا يستمدها من الله تعالى، ولذلك فقد نزل الوحي الإلهي يعاتبه ويلومه في كثير من الأحوال. وكان ذلك الوحي ينزل تاليا لأقوال النبي وأفعاله البشرية. أي أنه في أقواله وأفعاله البشرية هو بشر، ثم يأتي الوحي يوضح ويهدي. وذلك معنى قوله تعالى للنبي : (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (سبأ 50) وقوله تعالى له: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (النساء 79).وبعد اكتمال القرآن وانقطاع الوحي فليس لأحد من الناس أن يدعي ما لم يعطه الله تعالى لخاتم النبيين، أو أن يدعي أنه ينطق باسم الله تعالى في أقواله أو في احكامه. وهذا فى الدنيا. أما في الآخرة ويوم الفصل فالقاضي الأعظم هو الله تعالى، وهو الذي يصدر أحكامه يوم التغابن حيث لا ظلم مطلقا. يقول تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الأنبياء 47) .إن القاضي الأعظم رب العزة هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يقول تعالى عن ذلك يوم الحساب والعرض على الله جل وعلا : (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) (غافر 16: 20 ) هنا يكون الحكم لله تعالى وحده وباسمه جل وعلا وهو تعالى أحكم الحاكمين.[c1]ختاماً [/c]تطبيق القسط طبقا لما جاء في القرآن الكريم كان الأساس الذي أقام عليه نبي الإسلام دولته، وتنكب الخلفاء الراشدون سنته فوقعت الفتنة الكبرى التي أسفرت عن قيام الملك الأموي المستبد. وخلفتها الدولة العباسية التي أسست الدولة الدينية بكل ملامحها، وفي رحابها تمت صناعة المذاهب الدينية الأرضية للمسلمين ، وتم تدوين التراث الذي يلائم الدولة الدينية بتطرفها وتعصبها واستبدادها.وتدوين التراث تم على أساس الآتي: - 1 - تجاهل تدوين التراث الحقيقي للدولة الإسلامية في عصر النبي لأنه يخالف الاستبداد العباسي، ونعطي لذلك مثلين: فالنبي عليه السلام قضى عشر سنوات في المدينة يخطب الجمعة أسبوعيا، ومع ذلك فإن أمهات كتب الحديث في العصر العباسي ليس فيها تدوين لخطبة واحدة من خطب النبي. والنبي عليه السلام قام بتعليم المسلمين أصول الحكم والقيادة في مجالس الشورى، وتردد ذلك في سورتي النور والمجادلة، وتلك المجالس مع خطب الجمعة كانت تلبية لوظيفة أساسية من وظائف النبي عليه السلام، وهي تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة ليكونوا صالحين بهذه الثقافة لإقامة القسط .ذلك التجاهل للخطب ومجالس الشورى قد حرمنا من التعرف على الإطار الفكري والعملي لدولة النبي محمد عليه السلام . ولم يعد لدينا سوى استتنطاق الآيات القرآنية وتدبرها .2 - بعد تجاهل التراث البشرى لدولة النبي محمد عليه الصلاة والسلام كان سهلا أن يتعاملوا مع القرآن بنفس التجاهل. فالذي لا يلائمهم في تشريع القرآن أبطلوه تحت دعوى النسخ، مع أن النسخ في القرآن يعني الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء، وقد صدر لنا كتاب بهذا العنوان. والذي يريدون فرضه مخالفا للقرآن الكريم اخترعوا له حديثا نسبوه للنبي عليه الصلاة والسلام، أو وضعوا له تأويلا للآيات تحت اسم التفسير. وبهذا عالجوا الفجوة والتناقض بين تشريع القرآن وتشريعاتهم وتراثهم، وأضفوا مشروعية زائفة على ذلك التراث، إما بنسبته للنبي عند أهل السنة، أو بنسبته لآل البيت عند الشيعة، وعلى هذا المنوال سار الفقه وعلوم التراث خلال الدول الدينية المختلفة إلى العصر العثماني.وبسقوط الخلافة العثمانية وتكوين الدولة الحديثة في مصر جرت محاولة لإحياء الخلافة ودولتها الدينية وذلك عن طريق حركة الإخوان المسلمين الذين احتضنوا ونشروا الفكر الوهابي في مصر و الملك فؤاد الذي كان يتطلع لوراثة عرش الخلافة العثمانية بعد أن ألغتها ثورة أتاتورك وأقامت على أنقاضها أول نظام جمهوري في العالم الاسلامي . وقد نجح الإخوان مع الضباط الأحرار في تفجير ثورة 23 يوليو 1952، وجرى الصراع بينهما، وجاء السادات فتحالف مع الإخوان وأعطاهم السيطرة على الإعلام والتعليم والثقافة، فتم صبغ الثقافة والتدين بالصبغة السلفية. وأصبح واضحا ذلك الصراع بين نظم الحكم القائمة في الوطن العربي، ودعاة التطرف الديني السياسي.وتقف الثقافة السلفية الوهابية عقبة في قبول الديمقراطية الغربية النيابية ، وبالتالي تقف ضد الديمقراطية الاسلامية المباشرة . ومن هنا يجب تعاون اهل القرآن مع المثقفين الديمقراطيين لمواجهة تلك الهجمة السلفية و آثارها المدمرة.والله جل وعلا هو المستعان .[c1] عالم أزهري ـــــ رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم[/c]
|
فكر
ضــمــير الـقــاضـــــــي المـُــسـلـــــم
أخبار متعلقة