في كتابه الموسوم بعنوان (طلبة العلم الشرعي) الصادر عام 2002م ، كتب المفكر الباكستاني البروفيسور أحمد القريشي عن الإستراتيجية الأمريكية المعروفة بخطة بريجينسكي بشأن استخدام الإسلام السياسي ، وإحياء الخطاب السلفي الطائفي الموروث عن العصور الغابرة بهدف شحن الحرب ضد الشيوعية والاتحاد السوفييتي من جهة ، والتصدي لمشروع إقامة إمبراطورية إسلامية شيعية بعد قيام الثورة الخمينية في إيران من جهة أخرى.بعد صدور ذلك الكتاب بشهرين قال المستشرق اليهودي الأمريكي برنارد لويس في مقال شهير نشرته صحيفة “الواشنطن بوست” إنّه أشرف شخصياً على رأس مجموعةٍ من الخبراء والمستشرقين الأميريكين والبريطانيين على إعداد مناهج التعليم في المدارس والمعاهد الدينية في جنوب شرقي آسيا والشرق الاوسط واليمن والخليج ، وتمويل آلاف الكتب التي تسترشد بموروث الفقه الإسلامي السلفي المتشدد، مشيراً إلى أن هذه العملية تمت في أروقة جامعات أمريكية وباكستانية وخليجية، حيث تمت طباعة هذه الكتب في المدن الباكستانية وبعض المدن العربية بتمويل حكومي أمريكي تؤكده وثائق وزارة الخارجية الأمريكية التي نسقت هذه العملية مع مكتب إسلام أباد التابع لصندوق الإنماء الاقتصادي الأمريكي USAID حيث تم دفع مبلغ وقدره واحد وخمسون مليون دولار سنوياً على مدى عشر سنوات من حساب هذا الصندوق، إلى جامعة نبراسكا خلال الفترة 1984 – 1994م ، بالإضافة إلى طباعة بعض المناهج بتمويل حكومي غير مباشر من بعض دول الخليج تحت واجهة مؤسسات دعوية وجمعيات خيرية إسلامية، حيث كانت محصلة هذه العملية إعداد مناهج دراسية وطباعة وتوزيع كتب فكرية وتعليمية ذات طابع ديني تحض على التشدد والانغلاق والجهاد والتكفير والتحريض الطائفي وإثارة الكراهية والنعرات ضد أتباع الأديان الأخرى و بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة في آن واحد .صحيح أنّ جانباً من هذا المخطط نجح في تسهيل مهمة الحركة « الصحوية » السلفية ضد الشيوعية والاتحاد السوفيتي تحت واجهة الإسلام السياسي، لكنه من الصحيح أيضاً أنّ الجانب الآخر في إحياء موروث النعرات الطائفية بين الشيعة والسنة تحت مسمى “ا لروافض والنواصب “ ارتدت على المخطط الأمريكي نفسه ، حيث اندلعت نار الفتنة الطائفية في وقتٍ مبكرٍ داخل صفوف المجاهدين الأفغان الذين انقسموا الى سنة وشيعة منذ البداية، وقد جاء مقتل الشيخ عبدالله عزام في وهو سني على أيدي مجموعة سنية بسبب رفضه التضييق على أنصار أحمد شاه مسعود الإسماعيلي في شمال أفغانستان، وجماعات شيعية أخرى في الوسط، ليدل على أبعادٍ خطيرة ومزدوجة لمخطط إحياء النعرات الطائفية الذي تبنته المخابرات الاميركية في مطلع الثمانينات من القرن العشرين المنصرم !.في الحلقة الماضية من هذا المقال تحدثت مطولاً عن الأبعاد الطائفية لحركة التمرد المذهبية التي فجرها حسين بدر الدين الحوثي ويواصلها أتباعه من ضحايا التعبئة الطائفية في صعدة . وحرصت في تلك الحلقة على وضع التمرد في سياقه الموضوعي باعتباره عملاً خارجاً عن القانون والشرعية الدستورية ومعادياً للديمقراطية والوحدة الوطنية بكل ما ينطوي عليه ذلك التمرد من أفكارٍ وأهداف وتوجهات وشبهات. كما حرصت في الوقت نفسه على الربط بين التمرد المتجدد في صعدة منذ مطلع العام الجاري 2007 ، وما يحظى به من تناولاتٍ إعلامية وسياسية خارجية مغرضة، وبين ما جرى ويجري من أحداثٍ وتداعيات في الساحة العربية على تربة “ الصحوة السلفية الدينية “ للمنظومات الفقهية الطائفية المتناحرة التي صبغت حقبة طويلة من التاريخ الإسلامي بالدماء وأنهكتها بالجراح والانقسامات والصراعات.تأسيساً على ذلك يصبح من حق بل ومن واجب الدولة إنهاء هذا التمرد بالوسائل القانونية والدستورية وبضمنها استخدام القوة ، باعتبار ما يجري في صعدة عملاً خارجاً عن الدستور والقانون، الأمر الذي يستوجب التحذير من أية مراهنة على استخدام المشاريع الطائفية لمواجهة التمرد الحاصل في صنعاء حتى وإن ارتدى ثوباً طائفياً .. فالطائفية لا تصلح لمواجهة الطائفية، والخطاب السلفي الطائفي المضاد ، ليس مؤهلاً لمواجهة الأبعاد الطائفية لفتنة صعدة على نحوٍ ما نقرأه في بعض الصحف وبعض التصريحات التي تصدر عن شخصيات حزبية وسياسية ودينية غارقة في سلفيتها المنغلقة ، حيث نلاحظ الإفراط في تحقير المذهب الجعفري الإثني عشرية وسب أتباع الحسين بن علي من « الروافض» الذين رفضوا مبايعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية ، على غرار ما كان يفعله الفقهاء والقضاة الأمويون في أزمنة الفتنة الطائفية قبل الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه . لأنّ ذلك يسهم في استفزاز وإثارة الملايين من أتباع المذهب الجعفري الإثني عشرية في العالم العربي وهم شريحة كبيرة في الخليج ولبنان والعراق والشام ، وسوف يؤدي الى إخراجهم ـ كمواطنين عرب من النسيج الوطني للمجتمع العربي ، وصولا ً الى دفعهم للبحث عن ملاذ خارجي وولاء إقليمي على حساب هويتهم الوطنية وولائهم الوطني.لا ريب في أنّ إثارة وإحياء النعرات والثقافة الطائفية يندرج ضمن مخططات ومشاريع التفتيت والتقسيم الجاري تنفيذها في الشرق الأوسط باتجاه إحياء دول ملوك الطوائف. ولا فرق هنا بين أن تتم عملية إحياء هذه الثقافة والنعرات الطائفية بواسطة التعليم الديني السلفي المذهبي المتعصب ، أو الإعلام الطائفي العدواني الصارخ، وبين أن تتم عن طريق خطاب سياسي ينطوي على التكفير والتحقير والتخوين، واستدعاء الدعوات القديمة من غياهب القرون الغابرة – لمحاربة وتحقير من أسماهم فقهاء يزيد بن معاوية بالروافض الذين رفضوا اختزال مبدأ الشورى في الإسلام بمبايعة ولي العهد ليصبح خليفة على المسلمين بعد وفاة أبيه.والحال أنّ الإفراط في مواجهة المشاريع الطائفية الحديثة بخطاب طائفي سلفي قديم ، ينذر بمخاطر دفع الشيعة ـ الذين يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع العربي وأغلبية في بعض البلدان ا لعربية الصغيرة ـ إلى البحث عن هوية وملاذ خارجي على حساب انتمائهم الوطني ، الأمر الذي من شأنه إضعاف وحدة المجتمع العربي وتهديد سيادته الوطنية وأمنه واستقراره وضرب قواعد العيش المشترك بين الطوائف المختلفة على قاعدة المساواة في حقوق وواجبات المواطنة التي لا يعترف بها السلفيون المتشددون . صحيح أنّ هناك أفكاراً خاطئة ومعادية للعقل في الفقه الشيعي والسني على حدٍ سواء.. لكنه من الصحيح أيضاً أنّ بعض معتقدات الشيعة التي لا يقبلها العقل بحاجةٍ إلى نقاشٍ ونقد بوسائل الفكر، كما أنّ بعض معتقدات أهل السنة ايضاً تدعو صراحةً الى تغييب العقل وتغليب النقل وتجعل دور العقل ثانوياً بعد النقل بكل ما يحتويه هذا النقل من أفكارٍ وخرافات وآراء فقهية لا تصمد أمام العقل النقدي الذي يحاربه الفقه السلفي الديني بشقيه السني والشيعي.لا يمكن إنكار حقيقة أنّ جزءاً كبيراً من الصفحات الدامية والأكثر قساوة في تاريخ الحروب بين دولة الخلافة ودول ملوك الطوائف على أطرافها كان يغذيها فقهاء متشددون من مختلف المذاهب المتصارعة ، استناداً إلى ثقافة دينية منغلقة ومتعصبة أسهم في ترسيخها الرواة الذين نقلوا إلينا روايات وأحاديث وأفكاراً وتصورات لا يقبل العقل معظمها . واستنادا ً الى هذه الروايات المنقولة بعد مئات السنين على وقوعها تعرض الفقهاء والمفكرون والفلاسفة وعلماء الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك المسلمون الذين انتصروا للعقل للتكفير والقتل والتصفية الجسدية والسجن فيما تعرضت كتبهم للحرق.ما من شكٍ في أنّ التأمل الموضوعي لحركة التمرد المسلح في صعدة الذي تقوم به منذ ثلاث سنوات جماعة “ الشباب المؤمن”.. الضالة بأبعادها الفكرية الطائفية وتداعياتها السياسية الدموية ، تقدم دليلاً إضافياً على أنّ التعصب الطائفي المذهبي أرهق ماضينا ولا يزال يرهق حاضرنا بأفكاره ومعتقداته المنقولة عبر الرُواة الأسلاف ، وصولاً إلى الإعتقاد بها كمطلقات مقدسة لا تقبل النقاش والمخالفة عبر قنوات التعليم الديني المذهبي غير الرسمية ، حيث لا فرق بين التعصب الطائفي الشيعي وبين التعصب الطائفي السني، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها الحوثيون المتمردون في صعدة يجري تعليبها في لا وعي ضحاياها عبر التعليم الديني غير الرسمي.من نافل القول أنّ مواجهة المشاريع الطائفية لا يمكن أن تتحقق بثقافة طائفية ومذهبية مضادة؛ كما أنّ مواجهة مشاريع التقسيم والتفتيش والحروب الأهلية الطائفية لا تتحقق إلا بمشروع وطني ديمقراطي . ذلك إنّ حركة التحرر الوطني والقومي العربية ما كانت لتنجح في حروب الاستقلال ضد الاستعمار وركائزه العميلة بدون إشراك المجتمع في إطار مشروع سياسي وثقافي وطني وقومي استقطب المجتمع العربي بكل طوائفه وتياراته الفكرية ومذاهبه الدينية وقواه السياسية.ولئن كان غياب الديمقراطية في المشروع السياسي والثقافي لحركة التحرر الوطني العربية أدى إلى انحرافها وسقوط منجزاتها تحت قبضة الاستبداد الداخلي بعد التحرر من الاستعمار الأجنبي ، فإنّ التخلص من الاستبداد والهيمنة والتبعية والحفاظ على السيادة والوحدة والاستقلال وإطلاق مفاعيل النمو لا يمكن أن يتحقق بدون مشروع وطني وديمقراطي يستوعب كل القوى المعارضة للاستبداد والديكتاتورية والقمع من كافة الطوائف والتيارات في مختلف البلدان العربية.مما له دلالة أنّ الحكام المستبدين حرصوا دائماً عبر كل مراحل التاريخ القديم والحديث، على إضفاء شرعية دينية على أنظمتهم، وكان ذلك سبباً في الاستعانة بالمذهبية لإضفاء الشرعية على تسلطهم وجبروتهم على غرار ما فعله نظام الإمامة في بلادنا قبل قيام ثورة 26 سبتمبر وقيام النظام الجمهوري في عام 1962م.ويعلّمنا التاريخ أنّ الدولة الدينية – سواء في التاريخ الإسلامي أو المسيحي – كانت وسوف تكون دولة مذهبية طائفية بامتياز، وأنّ حروب الطوائف كانت ـ وسوف تكون أيضا ً ـ نتاجاً للدولة الدينية سواء تسترت بالإسلام أو المسيحية .. فالصراع بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية لا يمكن قراءته بدون إدراك الأطماع والأهداف السياسية التي دفعت السلاطين الصفويين من ذوي الأصول التركية في إيران الى إعتناق المذهب الشيعي مقابل قيام سلاطين تركيا العثمانية، باعتناق المذهب السني لإضفاء الشرعية الدينية على تسلطهم واستبدادهم وفسادهم ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ سلاطين الدولتين الصفوية والعثمانية كانوابعيدين كل البعد عن المذهب الشيعي والمذهب السني ، حيث تسبب هذا الصراع في إضعاف وحدة العالم الإسلامي وتهيئته للوقوع في قبضة الاستعمار الأوروبي بعد قيام الثورة الصناعية ، وهو ما يجب التنبه اليه والحذر منه عند قراءة المشاريع الطائفية التي يجري تسويقها في العديد من البلدان العربية والاسلامية .[c1]نقلا ً عن/ صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
فتنة صعدة .. محاولة للقراءة 2-2
أخبار متعلقة