توجد الآن جملة مؤشرات تدل على سقوط نهج التطرف الذي هيمن على العالم في العقد الأول من القرن الجديد. وإذا كانت الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة قد أفرزت إدارة جديدة يرأسها باراك أوباما وتتسم بالاعتدال ورفض التطرف، فقد سبق ذلك سقوط نهج إدارة بوش من حيث تعثر هذه الإدارة في تحقيق أجندتها بواسطة القوة العسكرية وبشعارات التطرف التي قامت عليها. لقد عاشت المنطقة العربية حقبة خضعت الأحداث فيها لمتطرفين دينيين وسياسيين تولّوا حكم أكبر قوة في العالم (الولايات المتحدة) وأكبر قوة إقليمية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، بينما لم تغب سمة التطرّف الديني والسياسي أيضاً عن بعض من رفعوا شعار مواجهة مشاريع التطرف الأميركي والإسرائيلي. فقد كان العام 2001 هو عام بدء حكم «المحافظين الجدد» في أميركا مع ما حصلت عليه إدارة بوش من دعم التطرف العقائدي لها بالطابع الديني المسيحي، كما كان عام وصول شارون لرئاسة حكم إسرائيل على قاعدة تطرف ديني يهودي، مع بروز «القاعدة» ووقوع أحداث الإرهاب في أميركا وغيرها على أيدي جماعات متطرفة بطابع ديني إسلامي. السمة المشتركة بين كل جماعات التطرف هنا وهناك، أنها استخدمت العنف المسلح بأبشع صوره ولم تميز بين مدني وعسكري، مما جعل «الحرب على الإرهاب» حرب مزيج الخطايا الّتي يخدم كل منها الآخر عملياً، وإنْ كان يناقضه نظرياً. وكانت إدارة بوش هي المسؤولة عن إشعال مشاعر الغضب، في العالم بأسره، ضد الولايات المتحدة حينما قامت بشن حرب على العراق دون أية مشروعية دولية ولصالح أجندة الحاكمين في واشنطن. وكانت السياسة الأميركية في العراق هي المسؤولة عن تشجيع الفلتان الأمني فيه وتحويله لساحة صراع مع جماعات التطرف العربية والإسلامية الّتي انتقلت من حال التمركز في العراق إلى توسيع الدائرة الإرهابية في عموم المنطقة. وما بين التطرّف هنا، والتطرّف المعارض هناك، تهددت وحدة بعض الكيانات العربية، وتهدّد الاستقرار والأمن والاقتصاد والحياة الاجتماعية في أكثر من بلد عربي. إدارة بوش كانت ترى أنَّ «الفوضى» في المنطقة العربيّة قد تكون مدخلاً لأوضاع أفضل، في حين أنّ هذه «الفوضى» حملت مؤشرات لحروب أهلية وشروخ في المجتمعات العربية وبيئة ممتازة لمزيد من جماعات العنف المسلح والإرهاب، وكانت هذه «الرؤية» الأميركية لمستقبل المنطقة مدعومة بقوات أميركيّة وبعناصر ضغط سياسي واقتصادي وأمني على أكثر من صعيد. أما نهج التطرّف الإسرائيلي، الذي استفاد أولاً من هذه الأحوال كلّها ومما حدث في سبتمبر 2001، فقد وصلت أيضاً ممارسته العدوانية الإرهابية على الشعبين الفلسطيني واللبناني إلى طريق مسدود، بل إلى عجز عن إنهاء ظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال، رغم كل المحاولات الإسرائيلية والأميركية للمزج بين الإرهاب المرفوض والمقاومة المشروعة. لقد كانت حقبة سوداء ظالمة ومظلمة عاشتها المنطقة العربيّة في السنوات الماضية ومما لا شكَّ فيه أنّ ضعف التطرف في أحد الطرفين سيضعف حتماً التطرّف في الطرف الآخر. وأعتقد أنَّ السسنوات القليلة القادمة ستشهد انحساراً واسعاً لقوى جماعات التطرّف في العالم كله، لكن سيبقى السؤال في المنطقة العربية عن مدى جاهزية الأطر البديلة فكرياً وعملياً لنهج التطرف! فالمشكلة الآن على المستويين الداخلي والعربي العام، هي في غياب الرؤية المشتركة التي منها تنبثق برامج العمل المناسبة للمرحلة القادمة ولكيفية التعامل مع المتغيرات الحاصلة دولياً وإقليمياً. إن الواقع العربي الرّاهن يعاني من حال التمزّق على المستويات كلها، بما فيها حال الأوضاع في فلسطين والعراق ولبنان، وهي الساحات التي شهدت معظم الصراعات في الحقبة الماضية. كذلك كان الانقسام جارياً حول القضايا التي لا يجوز أصلاً الفصل بينها. فشعار الديمقراطية كان نقيضاً لشعار التحرّر الوطني، أو بالعكس! والولاء الوطني تحول إلى تنكّرٍ للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاختلافات الدينية أصبحت خطراً على الوحدة الوطنية! ولأنّ الحركة السليمة هي الّتي تنبع من فكر سليم.. ولأنّ الفكر السليم هو الّذي يستلهم نفسه من الواقع ليكون حلاً لمشاكله، فإن المرحلة القادمة تستوجب من المفكرين العرب العمل لبناء نهضة عربية تكون بديلاً لطروحات التطرف الديني والسياسي، ومدخلاً لمستقبل عربي أفضل. إن الوصول للنهضة يتطلّب التشجيع على الحياة الديمقراطية السليمة في كل البلاد العربية. كما تتطلّب الديمقراطية التمييز بين أهمية دور الدين في المجتمع وفي الحياة العامة، وبين عدم الزج به في اختيار الحكومات والحاكمين وأعمال الدولة ومؤسساتها. إن النهضة العربية المنشودة تعني القناعة بوجود هوية عربية حضارية مشتركة بين البلاد العربية، وبأن تحقيق النهضة يستوجب الضغط على كل المستويات الرسمية العربية من أجل تحقيق التكامل العربي والسير في خطوات الاتحاد التدريجي بين الدول العربية. إن النهضة العربية تعني انتقالاً من حال التخلف والفساد والفقر والأمية، إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدم العلمي. مجتمع تشارك فيه المرأة العربية بشكل فعال في مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. الحال نفسه ينطبق على ما تعيشه الأمة العربية الآن من ظواهر انقسامية مرضية بأسماء طائفية أو مذهبية أو عرقية، حيث ينظر البعض إليها من أطر جغرافية ضيّقة، وبمعزل عن الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهوية القومية اللذين يقوم كلاهما على التعددية ورفض التعصب أو الانغلاق الفئوي. إن الدعوة للنهضة العربيّة والوصول إليها يفرضان التمييز بين الإرهاب المنبوذ وبين الحق المشروع في مقاومة الاحتلال على الأرض المحتلة. أيضاً، الالتزام برفض أسلوب العنف في العمل السياسي داخل المجتمعات العربية، وباختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيقها. لكن لا يجوز طرح «الفكر الديمقراطي» بمعزل عن حرية الأوطان وهويتها العربية، أو عن وحدة المجتمعات وقضية العدالة الاجتماعية، فذلك يعيد الفكر العربي إلى «الأحادية» التي ميزت في القرن الماضي الطروحات الفكرية العربية. فالفكر الليبرالي العربي المتأثّر بالغرب، كان في مطلع القرن العشرين يطرح نفسه نقيضاً للدين وللهوية القومية، في مقابل تيارات دينية أو قومية أحادية التفكير أيضاً. ثمّ جاءت نهاية القرن العشرين لتسود فيها طروحات الفكر الإسلامي التي تصادمت في معظمها مع الهوية القومية ومع المسألة الديمقراطية، كما أنّ بعض الحركات الإسلامية استباح استخدام العنف المسلّح ضد أبناء الوطن الواحد لمجرد الاختلاف معهم أو بحجة العمل لتغيير المجتمع! فلا الفكر القومي العربي استقام في القرن العشرين على ركائز سليمة، ولا طروحات الفكر الإسلامي كانت ناضجة وواضحة المفاهيم أو مكتملة العناصر، ولا الطروحات الديمقراطية وحدها الآن تغني من جوع أو تحرّر أرضاً أو تحفظ وحدة شعب. إنّ تباشير قرب نهاية نهج التطرف، ودخول العالم في أولويات الأزمات الاقتصادية، هي سمات لمرحلة قادمة يحتاج فيها العرب إلى فكر معتدل ينهض بهم، وإلى تكامل بين أوطانهم يحسن استخدام ثرواتهم ويحصن مجتمعاتهم المعرضة لكل الأخطار. [c1]*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن [/c]
|
مقالات
ماذا بعد نهاية حقبة نهج التطرف؟
أخبار متعلقة