صفعة عبدالعزيز عباس
تحليل: محمد الامير وجه الاستاذ الكاتب والمسرحي والقاص عبدالعزيز عباس " الصفعة" -المنشورة في العدد 13339 بتاريخ 21 مارس من العام الجاري يوم الاحد- لحالة الغيبوبة والاستسلام والضعف والهوان التي تسيطر على نفسية الأمة والمجتمعات اليوم .وكانت براعته في الاستهلال القصصي فائقة لشد الانتباه منذ اللحظات الاولى .حيث يصور لنا قصة رجل فرغ لتوه من مشاهدة نشرة الأخبار التي أعلنت في خبر ما عن رصد مبلغ خمسة وعشرين مليون دولار للقبض على مشتبه به .وعمد البطل في القصة على إستفزاز زوجته . إذ كان يفكر بصوت عالٍ عما يمكنه أن يحقق من مشاريع لو حصل على مبلغ كهذا .ويبدأ النقاش بذات الهدوء الذي يسبق العاصفة لإيثاره أخذ والديه للعمرة والحج متجاهلة إصطحاب حماته " أمها".ويزداد النقاش حدة . ثم تأتي مرحلة الصراخ " حتى لعلعت وهي ترد له الصاع".ولتصل ذروة العمل القصصي الى الحبكة الدرامية " ودخلت إبنتهما ورمت بكل ما تحمله من كتب على الارض غاضبة ".لتطلب الرسوم الدراسية ، ويتبدد الحلم وتبدأ الحلم وتبدأ الصفعة هنا قاسية كجثمان كابوس ثقيل فهو :" لايملك ثمن قطعة سمك ليوم غد ".وجلس مهدوداً لشعور يتضاعف بالذنب وقد تنبه الى واقع رسمته زوجته و " على وجهها آثار دموع ".ويبدو التعمد واضحاً لدى الاستاذ عباس مع سبق الاصرار في إختيار عنوان قصته بانتقائية شديدة بل وحنكة زائدة لتدعيم مضمون رسالته / قصته . بعيداً عن المبالغة والإثارة ، وهو الذي بوسعه أن يستعين بمخزونه اللغوي .إلاّ أن هذه الانتقائية المتعمدة للفظ " الصفعة" نابع في الاصل مما يريده بعدها من الدعوة لليقضة والاستيقاظ.والاشارات التي لاتحتاج الى جهد أو عناء كبير حتى تتعرف على عوالمها الرمزية الواضحة .والقصة تقدم دراما مكتومة بقلم شجاع يعبر عن ضياع الانسان العادي اليوم في زحمة الحياة المعاصرة الممتلئة بالعنف والدم " نشرة الاخبار" .فيما نرى إن وضع القاص للبطل أمام التلفاز هو الحركة الآلية الوحيدة التي قدمها ثم تراه وقد ترك الامور تسير على سجيتها وعفويتها طوال أحداث القصة .ويفاجئنا - القاص - بالرقم خمسة وعشرين مليون دولار :" وقد صرح مصدر مسئول أن حكومته قد رصدت خمسة وعشرين مليون دولار لن يدلي أو يساعد على القبض على المشتبه به ".فلماذا هذا الرقم بالذات ؟لماذا خمساً وعشرون مليوناً ..؟ وبالدولار ..؟لقد تم إختيار هذا الرقم بالذات .. لأنه الرقم المميز الذي طغى على الساحة السياسية الدولية في الآونة الاخيرة ، بعد أن ثبتت القوة القطبية العظمى الوحيدة سياستها قسراً على مجريات الاحداث في العالم . مما يجعل الرقم - هنا- يعطي الايحاء الراسخ بالعسكرة الاقتصادية للعالم.وحساسية الرقم في القصة كونه كان المحمور الاساسي لمجريات أحداثها .ولذا فإن هذا الرقم الخيالي المتخم لن يثير رجل لايملك " ثمن قطعة سمك ليوم غد" وحسب بل حتى شهية رجل أعمال في أرقى الدول الصناعية .وهذا التوظيف للرقم في القصة جعل النظرة للرقم تبين المقياس الساحق لما أحدثت العسكرة الاقتصادية بالمجتمعات . وكأن لسان حال المؤلف يخلص الى أن هذا الرقم أطلق عسكرياً لكي يدوش من لايصيبه .وتحول هذا الرقم الى وحش يدلف غرفة نوم رجل يعاني شعور طاغ بالظلم والضياع وعدم الشعور بالامان والحماية ، وأرغمه أن ينكفئ على ذاته بدلاً من النزوع للتمرد والانطلاق .رجل لايملك سوى أن يطلق العنان .لقد أستسلم لسلطان الاحلام المطلق كان يريد أن يحلم فقط وهيأ نفسه لهذه اللحظة الوردية :" أغلق التلفاز .. وأستلقى .. وضع يديه بشدة" وآثر أن يحلم ولكن ليس من تلك النظرة التي تتطلع الى أبعد من واقع حياة معينة ولاشيء وراءها .بل حلم أبعد من السحاب يجتثه تماماً من هذا الواقع المدقع يريد أن يجد فضاء آخر تحلق فيها خواطر النفس بعيداً عن أي رقابة قد يفرضها العقل .وجعل القاص عبدالعزيز عباس الحلم تعبيراً مرادفاً للهزيمة النفسية .لقد آثر الحلم ولجأ إليه - البطل في القصة - لأنه ليس هناك طريقاً آخر للحل بعد أن فقد الوسائل والاساليب التي يجب أن يسلكها .لم يعد لديه طموح في أي تغيير سوى أن يحلم وتجد إن " عيناه مثبتتان في السقف " تعبران عن حالة من اليأس التي تخلقها فجوة العزلة بين عوالم شتى اليوم .ويلاحظ أن القاص استخدم وسائل اللغة بتتابع بما يشبه متوالية لغوية تفضي الى الانكسار "أغلق .. إستلقى .. وضع .. جلس .. سكت .." وكل الألفاظ السهلة تعني ماضٍ ممضٍ مرير .وليثبت مدى الانهزامية النفسية :"لو إنني فعلت ماطلبوه مني وحصلت على ذلك المبلغ ..يا آلهي " ثم .." سأفعل .. سأبدأ .. سأشتري .. سأترك ".ولأنه آثر أن يحلم بصوت عال لاستفزاز زوجته دون أن يدرك عواقب اوتداعيات ماجره عليها الرقم الصاخب فقد أراد الكاتب - بأسلوبه الخاص- أن يصور مدى عمق الأزمة في النفس وفي المجتمع .فنجد إن زوجته لاتدع له فرصة الولوج الى الحلم ، فنرى بعد هنيهة وقد إنقلب السحر على الساحر فبعد أن كان يستفزها راحت هي في استفزازه حتى جعلته يحتد : " وأحتد هو الآخر" و " نسي هدوءه" .ويكثف عباس الحدث ويحوله الى جدل ومعاناة " إنقلبت إليه بفضول لايخلو من حدة " و "قاطعته بحدة" و " قاطعته صارخة وقد أستوت على ركبتيها " و " شدته من كتفه مقاطعة صارخة بجدية وبنبرة آمرة "و " أحتدت أكثر.. " .لقد دخلا في جدل بيزنطي وصراع حاد لا من أجل نيل هدف بعينه . فلم يكن ثمة هدف ولم يحاول القاص أن يعبث بمجريات الاحداث فهو لا يحرك البطل بطريقة آلية ، وإلاّ لحرضه وحثه للعمل من أجل الوصول الى حل .مما يجعل الانعطاف الذي أحدثه عباس رصد لواقع حقيقي في قاع مجتمع / مجتمعات تتراكم فيها عثرات كثيرة محزنة وموجعة وقاسية .فزوجته بقدر اعتياديتها - إلاّ إنها الواقع الذي يريد الهروب منه الى الحلم الوردي بينما نرى إنها تعيد / تصارعه كي لا يعذب نفسه في طموح هو يقين إنه لن يتحقق على أي مقياس من المقاييس . وذلك عبر حركتها الديناميكية المتواصلة :" قاطعته .. شدته .. إحتدت .. إنقلبت .. إنفجرت .. لعلعت ..".لقد حاول عباس أن يصل في مبضعه الى حيث الألم الناتئ ليرينا قدراً متخماً من مأساة عميقة عبر لحظات قصيرة خاطفة يعيشها / يعانيها رجل مسحوق بالواقع والحلم معاً .ثم ..تأتي الصفعة في لحظة مباغتة عندما دخلت إبنتهما لا لتشاركهما الحلم ولا لتنازعهما عليه :" دخلت ابنتهما قادمة من كليتها على صراخهما رمت بكل ما تحمله من كتب على الارض غاضبة صارخة "..لقد قدر عباس إن صراعهما في الحبكة الدرامية التي وصل فيها التصعيد حتى "حمى فيها وطيس النقاش" لن يصلا الى حل .والاجيال القادمة لن تنتظر حتى ينتهي الـ:" صراخ وشتم وتداخل كلامهما وصوتهما معاً .."لذا فقد دخلت ابنتهما قادمة .. وعندما دخلت :" رمت بكل ماتحمله..." لتهشم حلمه .. وتأتي عليه تماماً وتضيق الحلقة حول البطل وتحد من إنطلاقه وتبدد حلمه بعد أن رمت " إبنتهما " حملها على حلمه .فالرمي هنا استخدم ببراعة القاص بحنكة وتوظيف محكم لخدمة غرضه الذي أراد أن يوحي لنا عن مدى الانهيار الاجتماعي الذي تتهده حالات الفقر وإنعدام النظرة عبر الأفق ، ومدى خطورة التهديد القادم للأجيال التي " رمت بكل ما تحمله" .وظهرت خشونة المنظر الاجتماعي من الداخل : "غرف فيها كل منهما بهمومه حتى العمق "ثم .. يأتي القاص وكأنه أنجرف معهما بفعل الاستنزاف النفسي ويضع موسيقى تصويرية تضاعف الألم لدى القارئ بل وتضاعف من حجم الشعور بالذنب :"أدار لها ظهره لايريد أن ترى ضعفه .."و " تنبه .. أخذ نفساً عميقاً .. حاول جاهداً أن يرسم على وجهه ابتسامة ودودة ، تحول إليها فوجدها قد نامت وعلى وجهها آثار دموع ".وإن تكن الصفعة قاسية ، إلاّ إن الاستاذ عبدالعزيز عباس أجاد تقديمها وتوجيهها في عمل أدبي قصصي هام ، من تلك الابداعات النادرة التي تتصدى لعصر السيطرة الجارفة على شتى مناح الحياة المعاصرة.