نهلة عبداللهتحدَّثنا كثيراً عن الأدب الشعبي الذي يضمُ تحت خيمته كل ما يفضله الأطفال من حكايات وأساطير وأراجيز، ولكننا لم نتحدث عن دوره في خلق وسائط ذهنية أخرى (كالمحازي) بصيغة الجمع، أعني أن تصبح المحزاية مثل أي شكل آخر ضمن هذه المنظومة تساهم في تشكيل وعي المتلقي.إذن كيف يمكن أن تمثل المحازي وغيرها من الأحاجي التي يختزنها الموروث الشعبي (Genes) عامة والسرد الشفهي على وجه الخصوص نمطاً من أنماط التنوع الثقافي بخصائصه ومميزاته التي تعرف بها الثقافة الشعبية في (عدن) و(اليمن) عامة بغير استثناء؟فعلى الرغم من تميز عادة القص التقليدي للمحزاية على بقية الأشكال التعبيرية الأخرى، إلا أنّها لم تلقَ أهمية موازية على مستوى الفنون السردية الأخرى مما جعلها تنزوي على نحوٍ يلفت النظر، وهذا ما يفسِّر ظواهر تراجعها في مرحلةٍ من مراحل تصدر الحكاية الشعبية في (عدن) خصوصاً في ظل التقليد الأسري القديم – الذي كان يعطي كثيراً من الاهتمام للأطفال – القائم على إشباع حاجتهم المعرفية بذلك القدر الهائل من القصص والألغاز والخرافات التي تحمل في طياتها معظم الأشكال التي أنتجتها الثقافة الجمعية بما في ذلك المحازي التي جرى توظيفها داخل بُنية الموروث السردي.ومثلما عبّرت الحكاية عن دوافع ارتباطها بالتراث والتاريخ استطاعت المحزاية الإفادة من حصادها المعرفي، رغم اختلافها عن الحكاية إلا أنّها تمتلك أحد شروطها الوصفية المهمة كما هو الحال مع مفتتح سائر الحكايات الشعبية : (يا حزي بحزي لك، عن قبة خضراء مليانة عبيد سود، ومن غير باب، لو فكيته يشتي مفتاح والمفتاح بلا سنون إيش با تكون ؟وبعد استقصاء قد يطول أو يقصر يجيب (الحبحب)، فيقول له الراوي : (أيوه شاطر حزيته) وفي كل مرة يبدأ فيها الراوي محزاية بقوله ( يا حزي بحزي لك) إنّما يتركز على إجابة معتادة تماماً من المتلقى الذي يرد عليه بقوله : (يا حزي) أي أسرد محزايتك ومنها جاءت التسمية محزاية بصيغة المفرد.. ويأتي في مقدمة المميزات التي انفردت بها المحازي هو نزوعها نحو تصوير الأشياء بإشارات ذكية، فضلاً عن أسلوبها في مراعاة المستويات المختلفة للأطفال فزمنها محدود للغاية، وبنيتها مستقلة وتخضع لنسق معروف يعتمد على التخمين وينتهي بالسؤال المباشر، لذلك نجد أحياناً أنّ اللعبة الذهنية في المحزاية تأخذ شكل الوصف للشيء المعروف أو المبهم، وتعتمد على الوقفات القصيرة حسب طبيعة السؤال، ناهيك عن حرصها الشديد على مطابقة اللغز بدقة للموصوف، ولكنها مع كل ذلك تختلف عن الحكاية من حيث صناعة الحدث وتعدد والشخصيات، وترقب ما سيأتي بخوف من المجهول، إضافة على فضاء الحكاية أو المكان الذي ربما قد تكون عناصره خيالية أو خارقة للمألوف.وأبرز ما يثير الاهتمام في هذا الموضوع بشكل خاص هو أن يطلق أهالي عدن على الحكاية مصطلح محزاية مما يعني عدم وضوح للمصطلح الذي ولا شك لا يتفق ومضمون الحكاية التي تحمل دلالتها أو ترمز إليها هذا أولاً، وثانياً المحزاية بسردها السريع تتصف بنوعٍ من الديناميكية التي تقارب وعي الأطفال ولا تبتعد كثيراً عما يتكهنوه وبحيث يمكن مراعاة مستوى وعيهم على اختلاف درجات ذكائهم أو إعاقتهم.هكذا أعطت المحزاية شيئاً من ملامح المكان والزمان الذي يشير إلى مفردات البيئة العدنية، وهذه السمة لا تختلف في جوهرها عن مضمون تراث الشعوب جميعها على ضوء مقارنتها من حيث أوجه الشبه والاختلاف بين توليفة وأخرى فيم كان يُعنى منهج الانتماء أو ما نسميه طابعها المحلي وتوكيد ما تعنيه.إجمالاً لا يمكننا تصنيف الجانب التوصيفي للمحزاية أعني ليس لديها شخصيات معيّنة باستثناء شخصية الراوي، ولا أسماء محددة ولا بطولات فردية أو جماعية ولا أحداث، ولكن أداتها تضطلع بمهام البطولة دائماً، معتمدة على الراوي ومجموعة من المتلقين باعتبارهم اأضلاع جسم هذه اللعبة الذهنية وحسب ما تقتضيه شروطها بما فيها تنوع عناصرها وتعدد موضوعاتها.والآن أصبحت المحازي الشعبية لا وجود لها! أي تراجعت أهميتها بالنسبة للحكايات وضاع ضلع مهم اكتمل به الأسلوب والمضمون للمحزاية بعدما اتجه الأطفال إلى حل رموز أحاجي التسالي عبر كتب الجيب والمجلات المختصة.إلا أنّ تركيز المخيلة الشعبية على المحزاية يذكرنا بالنماذج المختلفة التي ما زالت تحتفظ بها الذاكرة الجماعية على الرغم من تعثرها بسبب غياب الاهتمام بالموروث الحكائي، سرعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها المنطقة، ظهور مصادر تثقيف وترفيه عصرية كالتلفاز والفيديو والديجيتال وألعاب الكمبيوتر، وهكذا نجد تراجعاً في عادة قص المحازي – إن لم تكن اختفت تماماً، وبروز العديد من الوسائل المبتكرة التي لم تكن موجودة منذ قرون.وعليه نكتفي بالوقوف عند بعض نماذج من هذه المحازي التي يمكن تقسيمها على ثلاث مجموعات :(1)النموذج الأول المحازي التعليمية التي تعكسُ صورتها الألغاز الشرطية، مثلاً : يا حزي بحزى لك من حاجةٍ حية مولودها ميت ولكنه بعد ولادته بأيام يعود للحياة من ثاني إيش هووه.الإجابة : الدجاجة والكتكوت.(2)النموذج الثاني المحازي الهزلية التي تعكسُ صورتها المعرفية :بروح النكتة السجعية مثلاً :يا حزي بحزي لك / من طاسة غطاسة بالبحر غواصة إيش هيه؟الإجابة عين الشمس.(3)النموذج الثالث المحازي التكهنية مثلاً :يا حزي بحزي لك من قبة بيضاء بلا أبواب وغير مكسية بثياب، ملساء ملساء إيش هيه؟طبعاً البيضة.أو عندما يُقال مثلاً يا حزي يحزي لك من جمل بارك خطامه بالسماء والإجابة هي الموفى أو (التنور).وهذه المحازي لم تثنِ المخيلة الشعبية عن التطرق إلى غيرها من الأشكال المتداخلة في بنائها الخاص ضمن بنيتها التقليدية، أقصد المحازي القصصية المتحررة من قيد المحزاية اللغز، وعلى نحو يختلف عن فكرتها أو فحواها، وهناك كثير من القصص التي يمكن الحديث عنها هنا في شكل تلك المحازي المكتنزة بالخرافات التي تبتعد في جوهرها عن المحزاية اللغز.مما يدفعنا للحذر من الوقوع في ازدواجية المصطلح بين المفهومين لنؤكد أنّ قصص المحازي بالمعنى الحرفي للكلمة ما زالت مسيطرة على السرد الشفهي للمحزاية الخرافية التي انتهت المنافسة مع المحزاية اللغز لصالحها.وبصرف النظر عن حفظ الذاكرة الجماعية لهوية الشكلين الأدبيين في التراث الشعبي رغم اختلافهما، إلا أنّها لم يعد في مقدورها أن تحافظ عليهما طوال هذه القرون كنتيجة مباشرة لغياب التدوين أولاً، ولافتقادها للتواصل مع بقية الأجناس التراثية الأخرى ثانياً، ويضاف لها مجموعة الأسباب التي تنتجها الوسائط العصرية من كمبيوتر وتسال ونينتندو.هوامش :(1)المحازي باللهجة الدارجة هي الألغاز أو الأحجية وتعرف ببعض الأقطار ا لعربية بالفوازير أو لعبة حزر فزر.باللهجة الدارجة أيضاً يُقال فلان عاده يتحزى على وزن يتهجى والهجاية تعليم الحروف قبل القراءة والكتابة، والمحزاية هي التفكير في السؤال الذي يفترض التعلم بواسطته للحصول على إجابة واضحة أو مقاربة.. ويُقال أيضاً بالدارجة (يتحزى) للشخص الذي يفتش عن رد أو حل لموضوع ما أو مشكلة أو استفسار.(2)طاسة : بالمفهوم العام هي المطيبة أو الجفنة المعدنية الخاصة بالسمن أو الزيت بشرط أن تكون مدهونة بالنيكل حتى تعطي لمعة أو يكون لها لمعان مثل قصعة (اللانجوس) أو الصلصة بحيث تنعكس عليها الأشعة.(3)غطاسة : تغطس بالماء.(4)الخطام هو الحبل الطويل الذي يشد به لجام الجمل (على فكيه) وهي دلالة على تشبيه الدخان بالخطام كناية عن طوله الذي يصل على عنان السماء.(5)بارك / (أناخ وجثم) هذه من المفردات العربية التي توصف بها جلسة الجمل ومعناه برك بالدراجة أي جلس مستريحاً لمدة طويلة.النينتندو / ألعاب الفيديومصادر الدراسة :(1)رواة شعبيون من عدن منهم : المرحومة فطوم بغدادي شخصية اجتماعية معروفة في عدن، كانت تقدم للأطفال في الأعوام 1964، 1965 و1966 برامج مسائية تحتوي على قصص أطلقت عليها محازي الأطفال.(2)مجموعات حكايات للأطفال قامت بتقديمها في تلفزيون عدن في منتصف الستينات (صفية لقمان) واللقمانيين من البيوتات المشهورة في عدن لاهتمامهم بالثقافة والتراث والفنون.(3)تم الرجوع في هذه الدراسة للأساتذة :حمزة علي لقمان رحمه الله.علوي السقاف رحمه اللهمراجع :(1)أشكال التعبير في الأدب الشعبي نبيلة إبراهيم.(2)تراث الإسلام / الجزء الثاني / تاليف شاخت بوزورث.مراجعة د . فؤاد زكريا(3) انظر من أخبار العلماء وأسماء ما صفوه من الكتب في أخبار السامرين والمخرِّفين وأسماء الكتب المصنفة من الأسماء والخرافات التي لا يعرف مصنفوها ولا مؤلفوها / الفهرسة لابن نديم.
|
ثقافة
بنية القص التقليدي لمحازي الأطفال
أخبار متعلقة