الشعر الشعبي صوّر عادات وتقاليد المجتمع اليمني تصويراً صادقاً وأميناً
محمد زكريا الأديب القاص والكاتب الكبير الراحل حسين سالم باصديق , كتابته الأدبية المتنوعة تنساب بالشفافية والأحاسيس الرقيقة الصادقة النابعة من أعماق خلجات النفس . ولقد رسم بقلمه الأنيق التراث الشعبي اليمني في لوحة رائعة الجمال ، زاهية الألوان .في بحر التراث اليمنيوالحقيقة أن من يطلع و يقرأ كتابه الذي حمل عنوان (( في التراث الشعبي اليمني )) سيلفت نظره الجهد الذي صرفه في إصدار مثل هذا الكتاب القيم والذي ضم في ثنايا صفحاته الكثير من قضايا التراث المختلفة المرتبطة بحياة الناس اليومية , وعاداتهم وتقاليدهم . والحقيقة أن كتابه ذلك يعد مرجعا أساسيا وهاما للمهتمين والباحثين في تراث اليمن . وفي الحقيقة أن الكتاب يعد من أفضل الكتب التي خاضت في بحر التراث اليمني الأصيل والواسع والعميق وإن لم يكن أفضلها . وكما هو معروف ، أن التراث مادة جامدة ومجردة مثله مثل التاريخ . فنفخ الأديب الكبير حسين سالم باصديق فيه من روحه الإبداعية , فصارت تتدفق بالحيوية والحركة والنشاط , وإذا ما تصفحت الكتاب فإنك ستجد مادته التراثية سهلة سلسة تنفذ إلى الأعماق . جمع التراثولقد طرح حسين سالم باصديق في مقدمة كتابه قضية منهجية علمية تتمثل في جمع مادة التراث , بأنها تعد من أعقد القضايا وأصعبها للباحثين والدارسين والمهتمين بالتراث الشعبي اليمني وذلك بسبب أن التراث اليمني متناثر ، ومتباعد - وبسبب كذلك - أن العناية والاهتمام بالتراث حديث العهد به أي أنه لم يحظ بالرعاية إلا في الوقت القريب . وفضلا عن ذلك لم توجد خطة علمية في كيفيه البحث والتنقيب عن التراث ، كل تلك العوامل مثلت سدا منيعا لكل من يحاول أن يخوض في كتابة تراثنا اليمني . وفي هذا الصدد ، يقول حسين باصديق : " وكان من الصعب على المرء .. أن يجد العون السهل لتحصيل المعلومات حول التراث الشعبي وهو يجمعه من كل مكان ، فذلك أمر عسير ، يتطلب جهدا كبيرا وسعيا متواصلا واهتماما كبيرا ، وأنه تنعدم في الساحة اليمنية المعلومات المطلوبة ، مجموعة في كتاب أو كتب معينة إلا ما ندر جدا " . وبناء على ما طرحه حسين باصديق أن جمع التراث اليمني لا يستطيع أن يتحمله باحث أو مجموعة من الباحثين فالقضية أكبر من ذلك , فإنه يحتاج إلى هيئة أو مؤسسة علمية قادرة على جمع التراث من ناحية ونشر الإصدارات التراثية بصورة منهجية علمية ، وأن يكتب لها الاستمرارية من ناحية أخرى . لنصونه من الضياعويتطرق الأستاذ حسين باصديق في مقدمة كتابه بأن الحفاظ على تراثنا من الاندثار والضياع ، يجب أن يواكب عملا علميا بعيدا عن العشوائية والارتجالية وألا سيكون ضربا من العبث أو خبطة في الهواء , فيقول في هذا الصدد : " لقد ظل تراثنا الشعبي اليمني طيلة قرون محافظا على قوته وخصوصياته ، وكان كامنا وخشي عليه من الاندثار والضياع " . ويضيف قائلا : " وعلينا الآن في ظل وعينا الجديد, وتوجهاتنا الواعية أن نحافظ عليه بترديده وحفظه وتبادله وتوثيقه في سجلات كيفما أمكن لنصونه من الفقدان والضياع ". تراثنا والتراث الإنساني ويربط حسين باصديق بين تراثنا الأصيل والتراث العربي والإسلامي و الإنساني ، بمعنى أدق أن التراث اليمني له هويته الخاصة به ولكنه في نفس الوقت يعتبر جزء من نسيج التراث العربي والإنساني - وأيضا - التراث العالمي , فيقول في ذلك الشأن : " وتراثنا الشعبي ليس مفردا بخصوصياته ولكنه مرتبط ارتباطا كبيرا في كثير من العوامل بالتراث العربي والإسلامي , وكذلك بالتراث الإنساني العالمي ، مادام الإنسان اليمني نفسه مرتبطا بوجوده في الحياة بأخيه الإنسان في كل مكان من الأرض تغمرهم جمعيا رعاية الله ورحمته ". ما معنى التراث ؟ويعرف الأستاذ حسين سالم باصديق التراث لغويا , فيقول : " فالتراث لغة تعني الإرث ، وهي كلمة مأخوذة في الأصل من ورث ــ يرث ـــ إرثا ". ويشرح ويفسر كلمة تراث , فيقول : " والإرث هو من مخلفات الآباء والأجداد للأجيال اللاحقة ". ويقسم حسين باصديق الإرث إلى نوعين ، نوع مادي , ونوع ثقافي , فيقول في هذا الصدد : " وقد يكون الإرث نقدا أو إرثا ماديا ... أو إرثا ثقافيا ... " ويواصل حديثه ، فيقول : " وفي مجال الآداب والفنون تطورت كلمة الإرث إلى كلمة تراث لتصبح مفهوما ذات وحدة لها معان مختلفة وشاملة . فالتراث كمفهوم يعني كل ما خلفه الإنسان القديم أو الناس قديما للأجيال اللاحقة الأكثر تطورا منهم ليبقى لديهم تراثا يتداولونه جيلا بعد جيل ". التراث الثقافيوكما قلنا سابقا أن حسين باصديق قسم التراث ثقافي أي معنوية ، مادي , يعني بالأخير بالآثار والقطع الأثرية . " وقد يكون تراثا طبيعيا كمدينة أو قرية أو مزرعة أو غيرها . وقد يكون قطعا أثرية في متحف أو حرفا شعبية " . وأما عن التراث الشعبي الثقافي المعنوي , فيحدد ملامحه , كالآتي : الشعر الشعبي ، الحكايات الشعبية والأساطير ، الخرافات ، والخوارق ، الرقص الشعبي ، المعتقدات العادات والتقاليد ، الطب الشعبي ، الألعاب الشعبية . وأما ما يخص الأغاني الشعبية فهي كثيرة ومن أهمها : أغاني الأعراس والزواج ، أغاني الأعياد الدينية ( الموشحات الدينية ) ، أغاني البطولة والفرح والعمل ، أغاني الدان ، أغاني الزامل أغاني الصيادين .الشعر الشعبي والأمثالوالحقيقة أن الشعر الشعبي أو قل إن شئت أن الشعراء الشعبيين حافظوا على التراث ـــ بقصد و دون قصد ــ وذلك من خلال أشعارهم الشعبية ، فالشعر الشعبي يتميز عن النثر بأنه أكثر سهولة في حفظة وخصوصا بين العامة , حيث يتداول شفويا من جيل إلى آخر . وهذا ما أكده الأديب حسين باصديق ، إذ يقول : " وقد لعب الشعر دورا كبيرا في نقل هذه الموروثات الشفوية لسهولة حفظه وتداوله في الألسن ولسهولة ترديده بألحان وأهازيج مختلفة بخلاف النثر الذي تمثل في رواية الأساطير والحكايات الشعبية والخرافات والخوارق فقط " ويضيف قائلا : " وما عدا ذلك من سائر مواضيع التراث الشعبي التي ذكرناها فقد صيغت كلها بالشعر حتى الرقص الشعبي منها والألعاب الشعبية والنصائح في استعمالات الطب الشعبي وأدرج فيها الشعر بأشكاله المختلفة والشعراء الشعبيون الذين ضربوا الأمثال في ذلك كثيرون ومعروفون وأشهرهم ذكرا علي بن زايد الذي قال : ذي ما يجيب داعي الصوت يدعي وما حد يجبيه ومن يغيب ساعة الصدق يغيب وما حد يريده وقال ــ أيضا ــ : وصيك يا جمال لا تسافر عند مطلع سهيل أو في مغيب الظوافر يا الله جارك من مغيب الظافر عنيت الأول ما عنيت الآخرالليل برد والنهار ــ هواجرومثله قال الشاعر حميد بن منصور ( *) :" احفظ لسانك تسلم وألا يدقون لك قيدالذيب لا تأمن الذيب ولو عرج لك برجلهوقال ـــ أيضا ـــ : با عمل على ثور زاحفولا تكاليف لأصحاب ومثلهما قال أيضا الشاعر الشعبي المعروف ( بو عامر ): يقول بو عامر رأيت العقل مضوي كل هم وراحة الدنيا ولذتها مع الصم البكم ومما قاله من الحكم المتداولة : يقول بو عامر خيار القول ما دريت إن شفت شيء ما قلت شيء وإن حد حكى لي ما حكيت ( * )أغاني البحارةويتحفنا الأديب الكبير حسين باصديق بشعر شعبي ملتصق بحياة الناس اليومية ، معبرا عن همومهم وطموحاتهم هي أغاني البحارة والصيادين المصورة للمخاطر التي يخطونها في وسط أمواج البحار الهائلة والعواصف العاتية. وفي هذا الصدد ، يقول : " إن أغاني البحارة الشعبية رائعة ورصينة تكتسب رصانتها من قوة الكلمات التي يعدها الشعراء الشعبيون ... وهذه الكلمات القوية هي تعبير عن العمل القوي الذي يقوم به البحارة في أعماق البحار, ويختلف عن ذلك العمل المؤدي في البر ... من شدة حب البحار للغناء في البحر بشكل خاص . يؤكد روبرت سارجنت ــــ الضابط السياسي البريطاني في حضرموت وقتئذ ـــ أهمية الشاعر عند الملاحين ، فقال : " إن لكل مركب شراعي ضاربا خاصا على الطبل أثناء مختلف الأعمال في البحر , وهو رجل من الأهمية بمكان بحيث يأتي في الترتيب الثالث بين أصحابه الملاحين بعد القبطان ونائبه ". وفي نفس السياق ، يقول حسين باصديق : " تلك الحياة القاسية التي كا يعيشها البحارة ولا يزالون يعيشونها فرضت عليهم أن يغنوا الأراجيز المختلفة التي يسلون بها أنفسهم ، ويبعدون بها عن أنفسهم الخوف من تلك المخاطر الجسيمة". ترنيمات البحارةويواصل حسين باصديق حديثه عن أغاني البحارة والصيادين , فيقول : " وفي المكلا تستمتع كثيرا ، وأنت تستمع إلى ترنيمات البحارة مساء وهم قابعون عند رأس شارع المكلا أو وسط السوق ... وكذلك في مدينة الشحر وهم يغنون ويرقصون ( الغية ) و ( النوح ) ، و ( المريكوز ) . ويشير حسين باصديق إلى أن الكثير من أغاني البحارة قد انقرضت ، وطواها النسيان . وفي هذا الصدد ، يقول : " الحقيقة أننا لم نرث كثيرا من هذه الأغاني الشعبية الخاصة فكثير منها انقرض مع ضياع المواقع التي نشأت فيها , ما بقيت إلا القليل , وعاش البحارة وذووهم يتداولون تلك الموروثات الشعبية ولا ننسى من تلك الأغاني الشعبية , أغاني التجلوب وهي تقول : يا قريب الفرج يا قريب الفرج يا الله مع الصابرين يا قريب ويمضي في حديثه :ومن أغاني التجلوب كما يسميها البحارة ما كانت النساء يرددنه مع أطفالهن وهن يستقبلن رجالهن البحارة الذين يصطفون على جانبي السفينة عند دخولها الميناء، فيزغردن ، ويرقصن ويغنين قائلات بفرح وافتخار : حيا ومرحيب بالهادف ومن هو حضر رجال مثل النمارة ما تهاب الخطر " وعندما يتم اللقاء في الساحل ويتصافحون يردد الجميع أهزوجة جميلة مهنئين بسلامة الوصول قائلين : ( سلومة ، سلومة ) ، أي الحمد لله على السلامة والعافية بوصولكم ".أغاني الزواج ويرسم حسين سالم باصديق لوحة جميلة عن أغاني أعراس الزواج الشعبية , وعندما يتحدث عن أغاني الزواج ، فإنه يوضح صور أعراس العادات والتقاليد والأعراف في المناطق اليمنية التي تختلف من منطقة إلى أخرى أو بدرجات متفاوتة أو متقاربة في احتفالات الزواج , وفي هذا الصدد يقول : " مثلما نسمع أغان شعبية في مختلف المجالات : في العمل ، في صيد الحيوان , في صيد الأسماك ، في الأسفار وغيرها كذلك نسمعها في حفلات الزواج وفي مناسبات الأعراس المتنوعة التي يقيمها الشعب اليمني بمختلف فئاته ونقصد بمختلف فئاته من حيث اختلاف المناطق ، المرتفعة منها والساحلية , الريفية والمدنية " . ويضيف قائلا : " والأغاني الشعبية في كل المجالات هي نفسها بمضامينها وأهدافها وتراكيبها ". ويعطينا حسين باصديق مشاهد عن عادات وتقاليد الزواج في الريف ، وما يقال من أغاني شعبية بتلك المناسبة السعيدة ، إذ يقول : " والزواج في الريف يحضره ضيوف من القرى المجاورة ومن القرى البعيدة المصاهرة لها مصطحبين أعدادا من الكباش على حسب العادة . وعندما يصل الضيوف ، تستقبلهم مجموعة من أهل العريس ، وعند التلاقي ينشد الوافدون , قائلين : " جينا نجبيكم كرامتكم وسلم حالكم نخدم حريوا السعادة عندكم والجمالة هي لكمونلعب البالة الليلة على بلباكم " نجيم الصباح" وبعد ذلك تقدم الذبائح وتقام الولائم ، ويسمر الناس على البالة وهي أغان شعبية مع الرقصات ... ". وأما في المدن فعلى سبيل المثال مدينة ، فإن الظروف الاقتصادية تختلف أو تكاد تختلف اختلافا بينها وبين حياة الريف علاوة على تباين العادات والتقاليد في الأعراس التي تحتفل في الريف أو الحضر , ولذلك " ... تقل الذبائح والولائم في المدن ، وتنحصر في المناسبات النهائية التي يكثر فيها الفرح والغناء والرقصات , وخاصة مع العريس ، وأهل العريس . ومن أكثر ما يغني في مثل هذه المناسبات أغنية ( نجيم الصباح ) التي تقول : نجيم الصباح ,إيش جلسك بعد ما غبنانجيم الصباح ، سامر على الورد والحنا نجيم الصباح ، سامر على الفن والمعنا نجيم الصباح ، هذا مبرح وذا مثنى نجيم الصباح , اعطف على الصاحب المضني ويسترسل :وينتقل بنا حسين سالم باصديق إلى الكلام عن عادات وتقاليد الزواج في حضرموت الغنية بتراثها الأصيل , فيورد بعض أغاني الزواج التي تقال في تلك المناسبة , إ فيقول : " في حضرموت تتخذ عادات وتقاليد الزواج طابعا أكثر تشددا بحكم التقاليد المتوارثة والمستمرة ، بما يسمونه ( العس ) ـــ فتحة على العين ، وسكون على السين ــــ أي البحث عن العروسة ( العروس ) ثم الخطبة التي يتم فيها الاتفاق على المهر ، وموعد الزفاف ولوازم أخرى منها تقديم العربون . وبعد ذلك تأتي مرحلة الوعد , وبعدها يقام فرح وتوزع القهاوي ، ويتم الغناء ويتم الطرب ، وتزغرد النساء وتغنين ، قائلات : " يا مسهل تسهل سهل لنا الخير كله يا ليلة السعد عودي عودي لنا بالسهالة يا عمر بن طهلي حضر ساواهاياحصاة الفقيهبيني لي كرامة يا الله لنا بالجمالة "أغاني الدان و يستحضر الأديب حسين باصديق ذكريات الطفولة ، عندما كان يصحبه والده إلى مسجد الهاشمي في الشيخ عثمان ، ليستمعا إلى أغان الداني الشعبية , ويشاهدون الرقصات , وذلك بمناسبة مولد الهاشمي , وتسمى في عدن والشيخ عثمان بـ (( الزيارة )) حيث يتقاطر أهل عدن والشيخ عثمان والمناطق الريفية أو الداخلية إلى ضريح الهاشمي . و في تلك المناسبة كانت تقام هناك الاحتفالات المختلفة على سبيل المثال الجمال وهي ترقص على إيقاع الطبول والمزامير والدفوف وعلى أصوات مغني الدان . فندع القاص والكاتب حسين باصديق . يروي ذكرياته عن (( زيارة )) الهاشمي قبل الحرب العالمية الثانية بوقت غير طويل , إذ يقول : " في بداية الأربعينات من القرن العشرين أو قبيل حرب الطليان ( كما يقولون في عدن ) وهي الحرب العالمية الثانية , أتذكر أنني كنت أخرج مع والدي ، رحمه الله ، وأنا صغير إلى زيارة ولي الله الهاشمي بالشيخ عثمان . كانت الساحة في مسجد هاشم بحر حتى المجزرة الحالية خالية من المباني ، والسكان ، وكانت تمتلئ بالناس من كل مكان يحضرون لمشاهدة (( محف الجمال )) في تلك الساحة وكذا الرقصات ، والاستماع إلى ألاغاني الشعبية التي كانت تقدم في حلقات بعيدة عن مدارة الجمال التي كانت تأتي من بعيد وعليها ركابها فتدخل المدارة وتحف فيها أي تدور راقصة مثنى مثنى وبشكل جميل وسمعت مما سمعته من الأغاني الشعبية قولهم ، يرددون : " دانى على امدانه يا دانى دانا دان "على نغمة الألحانوعن الدان في لحج الخضيرة ، لحج الجمال , والفل ، والياسمين ، والكاذي , وكان من الطبيعي أن يخرج من تلك التربة الخصبة أغاني الدان الشعبية الرائعة , وخصوصا أن لحج كانت مليئة بالشعراء الشعبيين الكبار وعلى رأسهم أحمد فضل العبدلي المعروف بـ (( القومندان )) والذي كان له دورا رائدا وكبيرا في نهضة والحركة الثقافية في لحج ومنها الدان الشعبي . ومن الشعراء الشعبيين الكبار في لحج وعدن الشاعر الموهوب بصفة خاصة واليمن بصفة عامة , المرهف المشاعر عبد الله هادي سبيت الذي قال في قصيدته الغنائية بعنوان (( ألا رد صوت الدان )) الذي نشرها في ديوانه الموسوم (( الدموع الضاحكة )) وفيها ، يقول : " سلامي على من دام وافي لأحبابه سلامي على الولهان سلامي على من هام والحب وصى به على نغمة الألحان سلامي على الأحلام من طرفك النابه وفي حلمي اليقظان " الصراع بين الاصالة والحداثةوالحقيقة أن الشعر الشعبي كان دائما وأبدا مرآة صادقة لعادات وتقاليد المجتمع اليمني. فقد صور الحياة اليومية للناس تصويرا دقيقا وصادقا بل أنه كان يصاحب الظواهر الاجتماعية التي طرأت على الناس وحياتهم مثل ذلك (( الشاي )) في عدن وحضرموت , والذي أخذ يزاحم البن ( أي الأصالة ) شيئا فشيئا حتى أحتل مكان الصدارة في الحياة الاجتماعية . ولقد دار صراع حامي الوطيس بين الشعراء المناصرين للبن والمؤيدين للشاي ذلك الوافد الغريب على اليمن أوبالأحرى على شجرة البن وعاداتها وتقاليدها الضاربة جذورها في تربة بيئة المجتمع اليمني . وبعض الشعراء الشعبيين يزرفون الدموع الحارة على جنوح القهوة إلى المغيب , بعد شروق شمس ( الشاي ) على حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم , وصار ( الشاي ) يزاحم القهوة أو قولوا شجرة البن . وهذا الشاعر الشعبي كور سعيد يصور في أبياته الشعرية الرقيقة وفاء تلك الشجرة النابعة من تربة اليمن بالرغم أنه هجرها وارتمى في حضن ( الشاي ) أو قل إذا شئت صار من زمرة أنصار الشاي , وسمي قصيدته بــ ( شجرة البن ) , فيقول فيها : " وبلحظة عادات تسابق ظلها وأنساب من فمها الرقيق سلامها واستقبلتها مهجتي جذلانةبتحية حري تعز مقامهاوتوقفت ، هل أنت ثانية هناما الخطب يا هذا ؟ . وطال مقامها ويواصل الشاعر في الحديث عن شجرة البن والذي شبها بكائن حي أو بفتاة حسناء تزين وجهها عينان نجلاوين جميلتين , إذ يقول :وتعلقت عيناي في عين ألمهاوسبحت فيها ما خشيت ملامهاوبسم العنقود عن كرم الرضاودنت لتشكو في الهوى آلامهاالبن في عيون الشعراءوالحقيقة لقد تفنن الكثير من الشعراء الشعبيين في وصف شجرة البن مثلما مدح الشعراء الشعبيين ( الشاي ) . فقد ظل الكثير من الشعراء أوفياء لشجرة البن الأصيلة . وفي هذا الصدد يقول الأديب والقاص والكاتب الكبير الراحل حسين سالم باصديق : " ومن حب الإنسان اليمني للبن وشجرة البن وحقول البن على مدى الحياة . فقد صور الأدباء والشعراء منهم أجمل ما يحبون بحقول البن لخضرتها وجمالها . ونستدل بذلك ما قاله الشاعر الشعبي وهو يشبه خدي فتاة جميلة وقد انتثرت فيهما بعض حبيبات الشباب يشبهها بحقول البن قائلا : حقول البن في خديك موال جميلتركت الأهل والأصحاب ولك وحدك أميل الشعر والشاي وعن تاريخ دخول الشاي إلى حضرموت وخصوصا سيؤون , يقول حسين باصديق : " وقد دخل الشاي إلى حضرموت ، كما قال الشيخ عمر محمد باكثير عام ( 1319هــ / 1901 م ) . وأول من استعمله في سيؤون ، وطبخه بنفسه المرحوم الشاعر علي محمد الحبشي عام ( 1326 هـ / 1908 م ) . حتى عم البلاد كلها ، كما قال في ذلك الشاعر علي أحمد باكثير : " ولقد زاد بلاء أنه في قطر ناعمفهو في القصر وفي البيت وفي الكوخ المرمم "** ويمضي حسين باصديق ، قائلا :"ولما قدمه المرحوم الشاعر علي محمد الحبشي ، كان يقول فيه كلما اشتاق له : إليك اشتياقي طال يا علبة الشاهي فما أنا بالناسي العهود ولا الساهيويواصل الشاعر علي الحبشي في مدح الشاي ، فيقول : لله مشروب حلا شربه قد أكسب الشارب منه الطرب يحسبه الشارب من لطفه كأنه راح علاه الحببفإنه الشاي ولا يحتسي كؤوسه إلا رجال الأدبالشعر والقاتولقد حظي القات ـــ أيضا ــــ بمكانة عالية في الشعر الشعبي لم يحظ مثلها الفل , والياسمين ، والورد ، والكاذي . وكما كان لشجرة البن شعراء يدافعون عنها . كان ــ أيضا ـــ لشجرة القات شعراء يذودون عنها بقوة , ويكتبون عنها قصائد طويلة , ويتفننون في وصفها , والبعض يصف أوراقها بالزمرد والياقوت . وهذا شاعرنا الكبير شاعر لحج وعدن أحمد فضل القومندان يتغنى بـقات ( المثاني ) ـــ وهو من أجود أنواع القات اليمني ـــ . " وفيه قال القومندان يخاطب صديقه اللحجي : هل أسمعك فضل يوما في الغنا ما أعانيوكيف صاد المها قلبي وماذا شجانيوأنت بالعود تتهنا وطعم المثانيفهل دعاك الهوى يوما كما قد دعاني ( * )قمري البانةويواصل الشاعر القومندان الحديث عن القات في شعره, ويلوم نفسه ومنه عندما ينتهي من مضغه حيث يشبه غصن القات بـالفتاة الحسناء الهيفاء أي ( قمري البانة ) . وفي هذا يقول : " يا قمري البانة ليه البكا والنوحالنوح يشجيني ظمآن باشربه للهائم المجروح وشهد في صيني ماء ورد من فرقك ليه ياحياة الروح بالنار تكويني القات والمعارضةومثلما كان لشجرة القات أنصارا ، كان ـــ أيضا ـــ معارضون لها وذلك بسبب تداعيات القات السلبية والوخيمة على الحياة الاقتصادية في المجتمع اليمني أو بعبارة أخرى على المولعي بالقات. وهذا الشاعر الشعبي محمد بن محمد الذهباني يوضح في أبياته آفة القات وأثرها السيئ على ماضغه . فيقول : " وآكل القات مودف يومه وليله خسارهبالقات يبقى مكيف والشغل ينسى ثمارهحين يذبل القات يحلف لا يقطعه طول دهرهيبقى لذقنه ينتفكم قد أكل من ظمارهولليل تبقى منشف وهمتك مستعارهوالصبح تصبح مغفغفللأكل مابش حرارةدمك من القات مسعف ما عاد به إلا آثاره وفي صورة مغايرة تماما عن الصورة التي ذكرناها قبل قليل . نجد أحد أعضاء حزب القات المتعصبين ، وأقصد أحد الشعراء الشعبيين ـ يتفنن في وصف القات ويشبه أوراقه بالزمرد ، وأن الحياة مع القات صفاء وهناء , ويؤكد لخصوم القات أنه لم ولن يتركه أبدا . وفي هذا يقول : "زمردا يقطف الأصحاب منه قاتايصفو به العيش أحيانا وأوقاتا ياعاذلي عن حصول القات مت كمدالا نترك القات أحياء وأمواتا الهوامـــــــــش حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414هـ / 1993م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ــــ ( * ) أمثلة ابن زايد ، وحميد منصور و ( بوعامر ) معروفة ومشهورة ومحفوظة وهي أيضا مأخوذة من كتاب ( شعر العامية في اليمن ) للأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح . ( *) يقصد القومندان (( بفضل)) ، فضل محمد اللحجي . وكان صوتا شجيا في عموم اليمن , وصديقا حميما للقومندان .