خالد عبدالله محمد من أرشيف الذاكرة, وبعض قصاصات من ورق هنا وهناك كنت أسجل فيها ملاحظات عن بعض المواضيع كنت قد قرأتها.. لازلت أتذكر موضوعاً قرأته فيما قرأت من المواضيع, ورغم تراكم الأعوام وتبدل الصور اليومية في الحياة لازال لفحواه صداه في نفسي, لم يغب عن ذهني, الا لقوة ذاكرتي الحديدية التي هي ليست كذلك, ولكن لأن المخزون النفسي لكل انسان وماتلقاه من معارف ايجابية يتفاعل مع "ايقاعات الحياة تساعده على التذكر اللا ارادي ولست أدري ما الذي حداني لتذكر واقعة أدبية جرت في بريطانيا في ثمانينات القرن الماضي, ومع ذلك لازالت لهذه الواقعة تأثيرها العميق في نفسي حتى هذا اللحظة وكأنني كمن فرغ تواً من قراءتها.. ربما تكون مغزاها العميق الذي يحمل دلالات في طبيعة حياة الناس لأن حلبة الحياة متنوعة الصفات وتتعدد وتتزاحم فيها عناصر متباينة وتكثر فيها المسميات والالوان, فليس أبناء التسعة سواء في هذه الحلبة الشاقة!!هذا الموضوع الذي لازال عالقاً في ذاكرتي المتواضعة هو موضوع الكاتبة البريطانية "دوريس ليسنج" وهي من أشهر الروائيات في بريطانيا والتي أقتحمت عالم النفاق في الثمانينات من القرن الماضي لتخوض تجربة فريدة من نوعها ويالها من تجربة, حيث قدمت روايتها الجديدة "يوميات جارة طيبة" - حين ذاك- باسم مستعار لم تتلقفها دور النشر بتلك الحفاوة والترحيب المعروفين حين تقدم روايتها باسمها المعروف والمشهور بل وجدت الرواية الكساد والبوار كاليتيمة المنكوبة تنتقل من دار نشر إلى آخر.. قبل ان تصل الرواية المخطوطة بالألة الكاتبة إلى ناشر وافق على نشرها, وقد قرأتها احدى رؤساء تحريرها والتي وافقت على نشرها وتدعى (فيليبا هاريسون) وذكرت في تقرير قبولها لهذه الرواية ان الراوية تذكرها بدوريس ليسنج في شبابها!! وقررت دار النشر منح المؤلفة سومرز ليسنج - الاسم المستعار- مبلغ ألفي جنيه استرليني مقدماً وهو مبلغ محترم بالنسبة لما يتقاضاه المؤلفون المغمورون!!كما طالبت دار النشر باجراء بعض التعديلات في الراوية والتي تولت الكاتبة الحقيقية "دوريس ليسنج" باجرائها في روايتها المنكوبة!!وفي هذه المحطة الصعبة التي واجهتها الروائية الكبيرة "دوريس ليسنج" كشفت المؤلفة الحقيقية عن حقيقة مؤلفة هذه الرواية لرئيسة التحرير "فيليبا هاريسون" وأتفقتا على ابقاء الأمر سراً كون الأمر تجربة نادرة وفريدة ولتريا معاً تحصيل حاصل التقبل البطيئ والممتعض من المجتمع لرواية ناضجة لروائية ذات باع طويل في مجال كتابة الروايات طبقت شهرتها الآفاق في هذه المعمورة, ولتريا معاً كيف ستحبو هذه الرواية (على اعتبار انها رواية وليدة) في مجتمع يؤمن بالأسماء الكبيرة ولو جاءت بالغث, ولايعر بالاً إلى فحوى ماكتب ولو كان سميناً بل إلى كاتبه!ماذا جنت المؤلفة الكبيرة من تجربتها الفريدة هذه؟ربما أضمرت الروائية السرور المشوب بالكدر, وهي ترى ثمرة تجربتها, ورأت مدى تأثير النفاق الاجتماعي في رفع أو خفض قيمة عمل ما. الا ان المسلم به ان الرواية عانت الكثير من التنكيل ان صح التعبير. ويمكن القول:1- لم تجن المؤلفة الكبيرة غير عناء طباعة روايتها.2- خسرت العائد المادي التي ستجنيها لو أنها طبعت روايتها باسمها الحقيقي.3- عدم اهتمام النقاد والمستغلين بالأدب بالأسماء الجديدة.4- لم تحظ الرواية للتناول سوى من الروائية "مارجريت فورستر" والناقدة "أنطونيا بيات" وقد وصفتا الراوية بأنها رواية لابأس بها.إلا ان مجلة "بوك سيللر" إلى حد ما قد وصفت الرواية في نبذة مختزلة وذكرت ان رواية " يوميات جارة طيبة" كان من الممكن ان تصاغ بنحو أفضل, لكون المؤلفة وهي صحفية ناشئة في أول الطريق لم تستطع تذليل صعوبات السرد وصياغة الرواية باسلوب الراوي المتمرس والذي هو لسان حال بطل الرواية!!وذكر مصدر آخر عن الرواية بأنها متفاوتة الأجزاء من حيث الجودة!ولم تصفها بالمرة صحف أخرى مثل "صنداي تايمز" و " ديلي وصانداي تلجراف" و "التايمز" و" ديلي اكسبرس" و " ملحق التايمز الأدبي" كما لم تشر اليها برامج الكتب الجديدة في الاذاعة البريطانية.ونظراً لرداءة استقبال الرواية رفضت اعادة طباعة الرواية في طبعة شعبية لمبررات كاتبة الرواية أو الجدوى التجارية.. الخ .. الخماذا بعد الخدعة الأدبية الكبيرة ! !وكان لابد لليل أن ينجلي .. ولابد للحقيقة أن تسطع هاهي "صنداي تايمز" تعلن الحقيقة وتفجرها بقلم ناقدتها الأديبة "كلير تومالين " ففي لقاء أجرته مع الروائية الشهيرة "دوريس ليسنج" حول رواية "يوميات جارة طيبة" ذكرت الروائيات الكبيرة بأنها رغبت في الخروج من جلباب شهرتها ومداعبة دور النشر والنقاد والقراء. ولكنها جلبت لنفسها هموماً أثقلت كأهلها.إنقلاب حال الرواية التعيسة وبدء تصاعد شهرتها ! !وبعدها؟ ياللهول.. ماذا جرت للرواية. أمن الحضيض إلى ذرى النجوم تصاعداً لترتفع بها إلى عالم المجد درجات درجات من العلى والسمو ؟!!ألم تصنف الرواية بأنها كيت وكيت ومن حظائر الكتاكيت؟؟إذن هو النفاق يسلب عقولنا ويسفه جهودنا. فلا جدوى للعقول والجهود في عالم النفاق؟؟تباً لهذا النفاق, فكم في عالمنا من قتيل النفاق!!مع اكتشاف الخدعة أهتزت الدوائر والمحافل الادبية والاجتماعية في بريطانيا وتسابقت الصحف بهمة عالية لتتناول الرواية نقداً وتحليلاً, وتبدلت النظارات السوداء بأخرى شفافة, والرؤية السلبية إلى ايجابية, والازدراء إلى تقدير, وصار العمل- الرواية من التقزم إلى التعملق.. وانقلبت الرواية من حال البوار إلى الرواج وتسابق الناس إلى اقتنائها حتى حازت أرقاًماً قياسية في مبيعاتها! !وازاء هذا الانقلاب الذي حدث في حال الرواية برزت "الصنداي تايمز" ان الصحف تهتم بكبار الكتاب والمشاهير ولاتكتشف الكفاءات الجديدة وان حال النقد والنشر بحاجة إلى صحوة ومراجعة الخ... وأخيراً.. إن كان هذا الحال في بلاد الضباب.. ترى كيف الحال في بلداننا العربية وعندنا ! !
|
ثقافة
دوريس ليسنج .. واقتحام عالم النفاق
أخبار متعلقة