كل تلك الشلالات من الدماء التي أغرقت غزة، كل تلك الآلاف من الشهداء والجرحى، كل تلك الآلاف من العائلات التي شردت وهامت على وجوهها، كل تلك الأشلاء التي ملأت الشوارع والتي ما زالت تحت الأنقاض، كل ذلك الدمار الهائل والخراب الشامل، كل ذلك الترويع الرهيب الذي سيظل في نفسيات أطفال غزة إلى أمد بعيد، كل تلك العذابات التي نزلت بأهالي غزة... لم تستطع إقناع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” كي يعترف بحجم الخسارة والدمار الذي لحق بغزة ومقاومتها. ظهر مشعل - باسماً ضاحكاً- في الفضائيات ليبشرنا بقرب هزيمة إسرائيل وليقول: اطمئنوا يا عرب فالمقاومة بخير، ولم نتعرض إلا لـ”أذى عابر”! لو كان غيرك قالها يا مشعل، لقامت دنيا العرب عليه ولاتهمته بالعمالة لإسرائيل، أكثر من 1300 شهيد، وآلاف الجرحى، وخراب وتدمير واستنزاف في غير طائل، كل ذلك مجرد “أذىً عابر”!لقد دمرت إسرائيل معظم الأنفاق وأحكمت السيطرة على المنافذ وعلى تهريب السلاح حتى في أعالي البحار وبتعاون وضمان دولي ومراقبة أطلسية، فقل لي يا مشعل، كيف تعوّض سلاح المقاومة من جديد؟ ومن أين تأتيك تلك الصواريخ التي ضررها أكبر من نفعها؟!دعونا نتساءل: لماذا يستهين مشعل بحجم الدمار والخسائر؟ وما دوافعه؟ هل يضحك على نفسه أم على الشارع العربي أم يهزل حيث ينبغي أن يكون مسؤولاً وجاداً؟ إن المقاومة مسؤولية بالدرجة الأولى، و”حماس” إذا تولّت حكم غزة فهي مسؤولة عن حماية أهلها وليس من المسؤولية الاستخفاف بما أصابها، لتحقيق مكاسب سياسية ونصر إعلامي وهمي.الجماهير العربية وغير العربية التي عانت وعاشت وقلوبها تكاد تنفطر حزناً وكمداً وعلى امتداد أسابيع من العذاب وهي تشاهد صباح مساء ما ينزل بأهل غزة من أهوال وتسمع صرخات وأنات الأطفال والمحرومين، واستغاثات العائلات من جراء القصف والغارات الوحشية وهدير الآلة الحربية الإسرائيلية وهي تزلزل وتدهس وتخرب وتفتك بوحشية مجنونة بالسكان العزل، لن تستمع إلى تصريحات خالد مشعل، ومن حقها أن تقول له: وهل هناك شيء لم تطله يد البطش والدمار الإسرائيلية في غزة؟!إن دوافع مشعل في الاستهانة بحجم الخسائر والدمار في غزة، دوافع أيديولوجية صرفة، وهي في تصوري، ترجع إلى سببين جوهريين كامنين في عمق العقلية الأيديولوجية، هما:1 -إنه لا قيمة ولا اعتبار للإنسان عند الأيديولوجيين، والزعيم الأيديولوجي يهون عليه شعب بأكمله في سبيل تحقيق أهدافه السياسية في التمكين والسيطرة والاستحواذ على السلطة المطلقة، يغامر بالوطن ويتلاعب بمقدراته ويعرِّض الناس للمخاطر ثم يفتخر بأن ذلك مقاومة مشروعة وجهاد في سبيل الله، الويل كل الويل لشعب يحكمه مغامر أيديولوجي، وهذا تماماً ما قاله الزعيم الحماسي إسماعيل هنية وهو قابع في مخبئة الحصين تحت الأرض: “لن نستسلم ولن نتراجع ولو أبادت إسرائيل غزة ومن فيها”. ما أرخص دم الإنسان عند الجهاديين الأيديولوجيين! صاحب السلطة الأيديولوجي لن يتوقف ويحكم عقله ليتساءل كما تساءل تركي الحمد: ما نفع المقاومة إذا أُبِيد من يُقاوِم لأجلهم، أي الإنسان الفلسطيني؟ ما فائدة الأرض إذا أُبيد الإنسان؟ ما فائدة أي شيء وكل شيء إذا كان الإنسان هو الثمن؟ لا يتساءل المقاوم الأيديولوجي: أليست المقاومة هي من أجل الإنسان في فلسطين؟ من أجل حريته وكرامته وحقه في العيش الكريم؟لن يقول الجهادي الأيديولوجي: إن المقاومة إذا لم تحقق تلك الأهداف فهي عبث، ولن يعترف بذلك أبداً، لأن العقلية الأيديولوجية لن تستوعب تلك التساؤلات العقلانية التي ترفع من قيمة الحياة، ولأن كل هم القائد الأيديولوجي تحقيق الهدف السياسي بأي ثمن ومهما كانت التكاليف والتضحيات ومهما كانت العوائق واختلال موازين القوى، إنه أشبه بناطح صخر، يدمي رأسه كل يوم، ولا يتوقف ليتعلم من أخطائه، يستهويه من يشجّعه ويزيّن له طريق التهلكة والانتحار فيتخذه حليفاً، وينصرف عمن ينصحه ويبصره ويحذّره ويظن به السوء ويتهمه. مصيبة الجماعة الأيديولوجية أنها عندما تصل إلى السلطة وتحكم سيطرتها فإن الشعب وبخاصة النساء والأطفال والمدنيين هم الذين يدفعون الثمن الأعظم لسبب بديهي وبسيط، لأن هؤلاء المدنيين يعيشون مكشوفين لا حماية ولا ملاجئ تؤويهم، أما القادة والرموز فهم في مخابئ حصينة، أما القادة في الخارج فهم آمنون مطمئنون في سربهم مع أفراد أسرهم، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.2 -إن المقاومين الأيديولوجيين، قد اخترعوا معياراً جديداً للهزيمة والنصر لم يسبقهم به أحد من العالمين، وهو غير المعيار الذي تعارفت عليه البشرية منذ آدم وحتى يومنا، وهو اختراع عربي صرف، يقوم هذا المعيار على فرضية عجيبة تقول، إن مجرد صمود المقاومين أو بقاء قادتهم تحت الأرض أو في المنفى، أو مجرد بقاء السلطة الأيديولوجية، هو في حد ذاته يعد انتصاراً أي هزيمة للعدو! إسرائيل دمّرت لبنان تدميراً وقتلت وجرحت وشردت الآلاف في حرب صيف 2006 وخرج زعيم “حزب الله” معلناً انتصاره “الإلهي” على إسرائيل، لا يهم الدمار والخراب والقتل والتشريد، المهم -أولاً وأخيراً ودائماً- بقاء الحزب، وبقاء الزعيم حياً يخطب ويصرخ ويحرض ويتهم ويوزع التخوين على معارضيه، هو المهم وحده، وكل ما فوق التراب تراب! وهكذا انقلب صاحب النصر الإلهي من شوكة في ظهر إسرائيل إلى شوكة في خاصرة لبنان، على أن هذا الاختراع الفذّ لمقاييس الهزيمة والنصر ليس من اختراع المقاومين الجدد -ابتداءً- فقد سبقهم إليه الثوريون بعد هزيمة 1967 المُنكرة، إذ خرج المنظِّر الأكبر لفلسفة الثورة ليقول، نحن لم نُهزم... لماذا؟! لأن إسرائيل لم تحقق هدفها في إسقاط النظام والقائد المناضل، فالنظام قائم والقائد لا زال يخطب والجماهير تهتف بحياته. هذا المعيار الذي يربط النصر والهزيمة ببقاء الزعيم أو النظام أو الحزب معيار زائف وغير أخلاقي وغير إنساني، لأنه لا يأبه لحياة الإنسان ولا يقيم وزناً لحياة البشر ولا يراعي أي اعتبار للدمار الذي يلحق بالوطن.الفلسطينيون ذبحوا من الوريد إلى الوريد، وحجم الدمار فاق كل خيال كما قال عباس، وهم يقولون انتصرنا وهزمنا إسرائيل!... فصاحب العقلية الأيديولوجية وإن عاش بيننا لكنه يغيب عن حقائق الواقع، فعقله هناك في عالم الأوهام والشعارات والأمنيات والخطب الحماسية وتصفيق الجماهير، ذلك عالمه الحقيقي، وعلى الجماهير أن تصدقه وأن تدفع الثمن، فلا تعجب إن رأيت -غداً- المسيرات الجماهيرية ابتهاجاً بالانتصار! هل رأيت بلاءً أعظم منه؟![c1]* عن / صحيفة (الإتحاد) الإماراتية [/c]
|
مقالات
الأيديولوجيون ... مقاييس الهزيمة والنصر
أخبار متعلقة