على رغم ارتفاع أصوات الصحافة الغربية التي تردد نفير التراجع والانسحاب من العراق، ومطالبة الصحافة البريطانية الجادة حكومة توني بلير بفعل ذلك قبل أن تتحمل خسائر كبيرة في الأرواح جنوب العراق، وهو أمر بدأ رئيس الوزراء البريطاني بتهيئة الجمهور ليتقبله استعداداً للرحيل من دون تحقيق «نصر» كان موعودا، في الوقت نفسه تتزامن معزوفة الانسحاب التي تتكرر في الأوساط السياسية الأميركية، فالغرب لا تحتمل معدته حربا طويلة الأمد وسط حرب أهلية مستعرة.المعاكس لذلك التوجه هو طبول الحرب التي تصدح من جهة أخرى، من اجل شن حملة عسكرية ضد إيران. وهذه الحملة تكاد في بعض الأوساط الغربية أن تكون واقعة وتحصيل حاصل. تعيين التوقيت وضبطه لبدئها هو الذي يحتاج إلى قرار.على الرغم من النكسات التي لحقت بالعسكرية الغربية (الأميركية البريطانية) في العراق والوضع المأسوي الذي وصلت إليه الحملة المكلفة، كما الحملة الأخرى في أفغانستان، فان البعض في الغرب بدأ يروج لرسم صورة أخرى مفادها: إن أردتم خروجا معقولا ومشرفا من العراق، ووضعا مسالما في أفغانستان، لا بد من الاشتباك مع إيران وضبط تصرفها فهي رأس الشرور. وتذهب هذه الفكرة للقول إن الغرب قدم لإيران في السنوات الأخيرة أفضل ما يمكن أن يقدم إلى دولة استراتيجياً، خلّصها من عدو في الشرق هو حكم «طالبان» الذي ناصبها العداء، وعدو في الغرب هو حكم البعث وصدام حسين الذي اشتبك معها في حرب ضروس لثماني سنوات، إلا أنها لم تقدم الامتنان المتوقع منها عن طريق كف يدها عن الامتداد إلى مناطق النفوذ الغربية. فهي تناصر جماعات في أفغانستان ضد الوجود الغربي، وتفعل الشيء نفسه في العراق، بل تقدم دعما لجماعات متهمة بالإرهاب. هكذا يدار النقاش في الأوساط الغربية صاحبة النفوذ السياسي التي تصل في النهاية إلى القول: إن أردنا أن نقلل الخسائر في العراق وأفغانستان علينا أولاً بتوسيع الحرب وحرمان إيران من قنص ما مهدنا له في الشرق الأوسط.هل تستطيع المنطقة الخليجية أن تتحمل أعباء صراع دولي رابع جديد خلال ثلاثة عقود فقط من التاريخ الحديث؟ ثم ما هي الكلفة البشرية والمادية لمثل هذه الحرب إن وقعت وأكثر من ذلك ما هي نتائجها المباشرة على المنطقة؟ المؤسف أن أهل المنطقة آخر من يستشار حول ضرورة أو عدم ضرورة مثل هذه الحرب القادمة، وما هي الأثمان المتوقع دفعها من أهل المنطقة أو النتائج التي يمكن تحقيقها؟ كل تلك الأسئلة لا تتوفر لها إجابات بعد.يبدو أن الغرب لسبب لا يعرفه إلا القلة مصمم على خوض «أم الحروب» وهي الحرب ضد إيران لعدد من الأسباب منها:1- ان حصول إيران في وقت قريب نسبيا على سلاح نووي يجعلها مهيمنة على منطقة حيوية اقتصاديا للغرب، وهو أمر لا تقبل به المصالح الغربية. كما تُطلق في الوقت نفسه سباقا نوويا في المنطقة يهدد السلم الإقليمي وحتى العالمي.2- ان التمدد الإيراني في المنطقة العربية، خصوصاً في لبنان وفلسطين، وإشاعة جو غير مريح في البلدان التي توجد فيها أقليات شيعية، قد يغري إيران بمد نفوذ أجندتها، وهي مقاومة مصالح الغرب، إلى آفاق جديدة، حتى لو كان ذلك عن طريق استخدام وسائل غير تقليدية، وما الحاصل في العراق إلا عينة يمكن أن تتكرر عند مد النفوذ الإيراني المتعاظم.مثل هذه الأفكار تجد لها صدى واسعاً في دوائر التحليل الغربي، وقد تكون مبرراً لصدام إيراني غربي (أميركي في الأساس) من اجل الحد من الشهية الإيرانية في التوسع المعنوي والإيديولوجي ومن ثم الاقتصادي في المنطقة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في أفغانستان والعراق. دون ذلك تذهب هذه النظرية للقول إن الهزيمة في العراق وفي أفغانستان لا بد قادمة، وهي هزيمة للمشروع الغربي، التي قد تؤدي إلى ملاحقة هذا المشروع في أماكن أخرى، كما حاول الرئيس الإيراني أن يفعل بتوجهه إلى « الرافضين» في أميركا الجنوبية الجارة اللصيقة للولايات المتحدة. هكذا يحضر الفضاء العام لتبرير الحرب القادمة.المؤسف أن البعض في إيران لا يريد أن يقرأ جيدا ذلك التحضير والتصميم على مواجه المشروع الإيراني الحقيقي أو المتخيل، كما لا يرى اللوم الواقع عليه في مناطق نفوذه الجديدة، ويسارع الى التحدي وطلب المواجهة أو استعجالها، وهو أمر يصب في خانة الصقور الغربيين، إذ يسعفهم بفرص وقناعات جديدة لحشد تأييد دولي اكبر ضد إيران، وهو ما يتم فعله على الأرض من خلال تصعيد لهجة القرارات الدولية ضد إيران في مجلس الأمن والوكالات الدولية المتخصصة. كما أن المشروع الإيراني لا يأبه بالمخاوف الحقيقية لجيرانه العرب، ولا يفعل الكثير من اجل تخفيف تلك المخاوف، سواء مع حلفائه في إيران أو أصدقائه من الجماعات التي تتبع نظريته في الحكم والولاية. كما لا يرى كثيراً الفروق في حقوق المواطنة بين مختلف مكوناته الداخلية، ما يجعلها سببا في الاضطراب الداخلي سواء كانت في منطقة العرب أو البلوش.وضع إيران الاقتصادي، على الرغم من ارتفاع أسعار النفط، غير مريح. وتبين التقارير الدولية أن الاقتصاد الإيراني يعاني من مشكلات هيكلية، زادت أعباءه بسبب المصروفات الضخمة على المشروع النووي وأيضا على مشروع إرضاء المناصرين خارج التراب الإيراني. وأي «حصار» اقتصادي متوسط أو طويل المدى ومحكم دوليا يمكن أن يأتي بسوء العاقبة على الشعب الإيراني اقتصاديا ومن ثم سياسيا.في دوامة كهذا قد تنشط إيران أكثر مما هي ناشطة الآن في الجوار وربما بشكل عصبي في «محاربة» ما تراه من النفوذ الغربي والمصالح الغربية والأميركية على وجه الخصوص، التي تطوقها في الأماكن التي تستطيع أن تؤذي فيها هذه المصالح. والخليج ثم لبنان وبعض الأراضي العربية الأخرى هي التي ستكون ساحة ذلك الصراع والشعوب فيها ستكون هي الوقود المتقدم للحرب.في أجواء مثل هذه لا يستطيع المراقب إلا أن يرى أجواء الصراع الساخن في التصريحات والتصريحات المضادة من المعسكرين، الغربي والإيراني، وهي تصريحات تشبه كثيرا التصريحات التي كانت تخرج من بغداد قبل زمن من الحرب على العراق.في مثل هذا التشابك الخطر أين يقف الرأي العام العربي؟ حقيقة الأمر انه في معظمه يقف مع سياسة إيران تجاه إسرائيل، فذلك جرح عربي نازف استطاعت إيران حقا أو باطلا الاستفادة منه سياسيا، ويقف في جانب آخر ضد سياسة إيران في كل من العراق ولبنان، حيث يشعر بثقل اليد الإيرانية هناك.لذلك فان الجهود الغربية منصبة على إيجاد مخرج ما في فلسطين، وقتها ستفقد السياسة الإيرانية جزءاً من التعاطف العربي، وتميل الكفة ضدها في الساحتين التي تتمتع بنفوذ فيهما. ومن الأرجح عقليا أن تتضافر جهود إيران لإيجاد حلول مع شركائها العرب، خاصة السعودية ومصر، لحلحلة الوضع العراقي واللبناني، والظهور بمظهر الحفاظ على الوحدات الوطنية في كليهما من اجل موازنة معقولة للنفوذ الغربي الذي يتوجه إليها معلقا كل الشرور. في الحالة الثانية وهي التصعيد في كل من العراق ولبنان ستعجل إيران من اقتراب موعد الصدام.[c1]نقلا عن صحيفة (الحياة) اللندنية [/c]
حتمية الحرب الإيرانية الأميركية
أخبار متعلقة