ارتبط توحيد الوطن وإعلان قيام الجمهورية اليمنية وتدشين التحول نحو الديمقراطية التعددية في الثاني والعشرين من مايو 1990م، بتطور نوعي في منهج دراسة وتحليل تاريخ الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، وخبرتها الكفاحية في مقاومة الاستبداد والاستعمار، وإخراج اليمن من نفق التخلف والتجزئة والعزلة والقهر، إلى رحاب الحرية والوحدة والتجدد الحضاري.ولما كان النضال الوطني في سبيل تحقيق الوحدة اليمنية وبناء المجتمع الديمقراطي من أبرز الأهداف التي ناضلت من أجلها الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، وأكدتها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م، فقد اكتسب الحديث عن واحدية الثورة اليمنية ضرورته الموضوعية بعد قيام الوحدة وتدشين التحول نحو الديمقراطية تجسيداً لحاجة الأجيال الجديدة اللاحقة، إلى صياغة وتأصيل وعيها الوطني على نحوٍ يتسق مع الحقائق التاريخية لكفاح شعبنا اليمني ضد الأوضاع المأساوية التي ارتبطت بعهود الإمامة والاستعمار، وبما يؤمن مواصلة الدفع بإرادة التغيير على طريق أهداف الثورة اليمنية، وصيانة وتطوير مكاسبها العظيمة التي تعمدت بالدماء والتضحيات.تأسيساً على ما تقدّم، يمكن القول إنّ السمات الرئيسية لثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر كانت قد تشكلت على أساس التجربة التاريخية للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، التي اتخذ نشوؤها وتطورها اتجاهاً تحررياً ضد الاستبداد والاستعمار.ومنذ البدء كانت الحركة الوطنية اليمنية، بأهدافها وقواها السياسية وشعاراتها وأشكال وأساليب نضالها، تجسد ارتباط العملية الوطنية التاريخية المعاصرة للشعب اليمني بالمجرى العام لحركة التحرر الوطني العربية.في هذا السياق جسدت ثورة 1948م وما سبقها وما لحقها من انتفاضات وهبّات فردية وجماهيرية وطنية عفوية، بداية استيقاظ الوعي الوطني التحرري لشعبنا في الظروف التاريخية المعاصرة، ذلك الاستيقاظ الذي توافرت له عوامل داخلية وخارجية لتشكل المحتوى الرئيسي للانبعاث الوطني للشعب اليمني في ظروف تاريخية تتسم بأولوية النضال ضد الاستعمار وبقايا القرون الوسطى.[c1]استيقاظ الوعي الوطني[/c]كانت صورة الواقع السياسي والاجتماعي في اليمن تكتسب بداية ملامح جديدة ومتغيرة بتأثير المعطيات والمتغيرات التي أفرزتها الأوضاع في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، في بدايات القرن العشرين المنصرم.ومما له دلالة عميقة أنّ الواقع السياسي والاجتماعي في الجنوب اليمني المحتل كان ينمو ويتشكل وفقاً لمعطيات ومؤثرات الواقع السياسي والاجتماعي في الشطر الشمالي، والعكس صحيح أيضاً، الأمر الذي أسهم في بلورة الهداف التحررية للعملية التاريخية الوطنية المعاصرة للشعب اليمني باتجاه وطني ديمقراطي وحدي في وقتٍ لاحقٍ.ولئن كانت بريطانيا قد حددت شكل سيطرتها الكولونيالية على الجنوب اليمني المحتل بتقسيمه إلى جزئين، الأول / باسم مستعمرة عدن، والثاني : باسم محميات عدن الشرقية والغربية التي انقسمت بدورها إلى سلطنات وإمارات وولايات ومشيخات مختلفة، فقد كان الوضع القائم في شمال اليمن بالغ التعقيد بسبب اندماج بقايا القرون الوسطى بالطبيعة الثيوقراطية الكهنوتية للدولة والحكم الفردي المطلق من جهة، وكذا بسبب اشتداد حملات القمع والتصفيات الدموية ضد المعارضة الوطنية التي حملت لواء الدعوة إلى الإصلاح والتحديث والتنوير من جهةٍ أخرى.كان النظام الإمامي الكهنوتي يلجأ في سبيل تثبيت دعائم حكمه، إلى تسعير الحروب القبلية والعشائرية، ومحاربة أي اتجاه يدعو إلى الإصلاح والتحديث، وبالنظر إلى أنّ المذهب الهادوي لنظام الحكم الإمامي كان يجيز الخروج على الإمام الظالم، فقد شهد الشطر الشمالي من الوطن آنذاك حروباً متصلة بين الطامعين في الحكم والوصول إلى مركز الإمامة، ما أدى إلى نشوء نوعٍ من التجزئة المناطقية التي لم تكرس فقط عزلة معظم أجزاء الشطر الخاضع للحكم الإمامي عن بعضها البعض، بل عزلة النظام الإمامي كله عن العالم.بيد أننا، حين نقرر تأثر اليمن، بشطريه، بهذا النوع من التجزئة والعزلة، فإننا لا ننكر حقيقة أنّ السياسة الاستعمارية والإمامية التي عملت على عزل اليمن وتجزئته، أضعفت، في الوقت نفسه، فعالية هذه التجزئة ولم تسمح لها بأنّ تأخذ أبعاداً استقلالية.بهذا الصدد تبرز قضية مهمة ذات جانبية لا يمكن إغفالهما :أولاً : أنّ مدينة عدن، بحكم موقعها كميناء في طرق الملاحة الدولية الاستراتيجية ومركزاً للإدارة البريطانية، كانت مسرحاً للنشاط التجاري والاقتصادي، الأمر الذي أدى إلى أن تصبح عدن مركزاً للاستقطاب، بالنسبة لمجمل أجزاء الوطن اليمني والمناطق العربية والأفريقية المجاورة، خاصة بعد انتقال عدن والمحميات الشرقية والغربية من إشراف الإدارة البريطانية في الهند إلى إشراف وزارة المستعمرات في لندن عام 1937م، ثم انتقال مقر قيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط إلى عدن في وقتٍ لاحقٍ بعد تأميم قناة السويس وجلاء القوات البريطانية عن مصر على إثر قيام ثورة 23 يوليو 1952م بقيادة المناضل العربي الكبير جمال عبدالناصر، واضطرار الإدارة البريطانية إلى إجراء بعض الإصلاحات الشكلية المحدودة في مجالات التعليم المواصلات والخدمات الصحية والسياحية والإسكان والبلديات.ثانياً : إنّ معرفة الخلفيات السياسية والاجتماعية والميراث الفكري للتيار الوطني المستنير في شمال الوطن. الخاضع للحكم الإمامي، تقود إلى إدراك الخصائص التي حددت شكل ومضمون العمل الوطني في جنوبه المحتل، وعلى وجه التحديد بعد تحول عدن إلى مركز سياسي وإعلامي وتنظيمي للمعارضة الوطنية للنظام الإمامي الاستبدادي.في هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أنّ المعارضة في الشطر الشمالي من اليمن، لم تخل من تيارين أساسيين لعبا دوراً بارزاً في تكوينها التنظيمي ومنحاها الفكري وأسلوب عملها، وهما التيار الحر الذي تعاطى المفاهيم الدستورية والأفكار المستنيرة لمشاهير المفكرين الذين حملوا راية التنوير الديني في العالم العربي أمثال الأفغاني والكواكبي ورفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده وغيرهم.. وكانت العناصر البارزة في هذين التيارين تتكون من ببعض رجال الدين والأدباء الذين تخرجوا من دار العلوم بالقاهرة، وجامعة الزهر، وجامعة بغداد، بالإضافة إلى بعض القضاة والتجار والعسكريين والمشايخ.وقد جمعت النزعة الإصلاحية عناصر هذه المعارضة على أساس دوافع سياسية أو دينية نتيجة لأساليب البطش والإرهاب والتنكيل التي كان النظام الإمامي يمارسها ضد المفكرين والتجار والمشايخ والقضاة، بالإضافة إلى ما يراه القاضي عبدالسلام صبرة الذي اعتبر ثورة بعض علماء الدين على الإمام يحيى بأنّها انطلقت من رفضهم للمادة الفقهية التي وضعها الإمام بهدف تدعيم أركان حكمه، والتي تقول :“من أنتقد الإمام بقلبه منافق، ومن انتقده بلسانه مخطئ، ومن انتقده بيده محارب”.والحال أنّ التوجهات المشتركة لتياري المعارضة الوطنية للنظام الإمامي في شمال الوطن، لم تنحصر فقط في الاعتراض الفقهي على مبادئ الإمامة ونظام الحكم المتوكلي، بل أنّها كانت تمارس المناقشة الفقهية لسياسة الإمام الاقتصادية وأسلوبه في الإدارة ونظام الحكم، وخاصة ما يتعلق بنظام الالتزام الذي يعود إلى القرون الوسطى، ويدخل في أساس نظام الوصاية الإمامي.وكما هو معروف، فقد كان الإمام يتخذ عدداً من القرارات والأوامر التي تتعلق بتحصيل الضرائب والتمييز الطائفي، ويمارس على أساسها الاستبداد المطلق، ولا يسمح بمناقشة قراراته إلا لمن حاز على درجة الاجتهاد في العلوم الشرعية، وينتمي إلى السلالة العلوية الفاطمية، ما أدى إلى اتساع نطاق المعارضة في أوساط قطاع واسع من علماء الدين والمهتمين بالفكر الإسلامي، والذين كانوا يتعرضون للقمع، ويرسلون على السجون أو إلى ساحات الإعدام عقاباً لهم على مناقشة ومعارضة قرارات الإمام.ويرى كثير من المؤرخين أنّ نظام الالتزام دخل إلى اليمن عن طريق الأتراك قبل إدخاله إلى أراضي الإمبراطورية العثمانية، وكانت الإدارة التركية، طبقاً لهذا النظام، تعطي التزاماً مقابل نسبة معينة يتم احتسابها على أساس قواعد الشريعة الإسلامية، لصالح نخبةٍ مختارة من كبار ملاك الأراضي والمشايخ والأغنياء، ونتيجة لذلك تعرض الفلاحون وصغار التجار وصغار الملاك لنهب واسع وإفقار شديد دفع معظمهم إلى الهجرة، فيما كان الثراء الفردي والملكية العقارية يتركزان في نطاق ضيق وهلامي، الأمر الذي أعاق تطور الحياة الاقتصادية.[c1]انبعاث وطني عام[/c]كانت تلك لمحة سريعة للمُناخ السياسي الاقتصادي الذي نشأت فيه النواة الأولى للمعارضة الوطنية التي تصدت لنظام الحكم الإمامي الاستبدادي في شمال الوطن.وعلى تربة هذا المُناخ تشكلت معالم الفكر السياسي الجديد الذي صاغه المعارضون الوطنيون من خلال مجلة “الحكمة” التي أصدرها الشهيد أحمد عبدالوهاب الوريث في صنعاء عام 1938م، وأغلقها الإمام يحيى عام 1948م، قبل مصرعه بأيام، حيث لعبت هذه المجلة دوراً حيوياً في التمهيد لثورة 1948م الدستورية بواسطة المقالات والدراسات التي عكست الميول الفكرية التنويرية للمعارضة الوطنية، وانصبت في اتجاه البحث حول تاريخ النظم الدستورية الأوروبية والدعوة الجريئة والرائدة على تطبيق الدستور في اليمن، والمطالبة بإجراء إصلاحات اجتماعية والحد من سلطات الإمام.ولا نبالغ حين نقول بأنّ المُناخ الفكري الذي أوجدته مجلة “الحكمة” بقدر ما يؤشر على بداية قوية لانبعاث وطني عام في الثلاثينيات، بقدر ما أسهم في بلورة حراك سياسي وطني باتجاه التغيير، انطلاقاً من اللحظة التي ظهرت فيها حركة الأحرار اليمنيين في بداية الأربعينات، مروراً بتأسيس الجمعية اليمنية الكبرى عام 1946م، وانتهاءً بقيام الاتحاد اليمني في مطلع الخمسينات.لعل ما سبق ذكره يُفسر تركيز حركة الأحرار اليمنيين في نشاطها الوطني على معارضة النظام الإمامي الاستبدادي، دون أن تهتم كثيراً بمعارضة الوجود الاستعماري في جنوب الوطن أو التفاعل مع بعض الظواهر السياسية التي أخذت بالظهور كرد فعلٍ للأوضاع الناجمة عن الاحتلال البريطاني.. ومن هذه الظواهر، على سبيل المثال لا الحصر، حركة الجمعية الإسلامية في عدن والتي عنيت بالأمور الدينية والإصلاحية والتربوية، وحركة نادي الشعب اللحجي التي طالبت بدستور تحدد فيه سلطان السلطان، وحركة وحدة حضرموت التي ظهرت في أواسط الأربعينات ودعت على تحقيق وحدة حضرموت بشطريها القعيطي والكثيري آنذاك.وخلال تلك الفترة أيضاً تأسس الحزب الوطني في حضرموت الذي قاد انتفاضة عام 1951م في المكلا، حيث هاجمت الجماهير قصر السلطان ودار المستشار البريطاني ومزقت العلم البريطاني الاستعماري.ومن المفيد – بهذا الصدد – أن نشير إلى حركة سياسية خطيرة كانت قد نشأت في سياق ظهور هذه الحركات والظواهر السياسية المحلية، وهي حركة الجمعية العدنية، التي تأسست رسمياً كتنظيم سياسي في مطلع الخمسينات، غير أنّها كانت موجودة فعلياً، كتيار ومفاهيم منذ أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات.وما من شكٍ في أنّ هذه الجمعية تركت آثاراً بالغة التعقيد على الواقع السياسي في جنوب الوطن المحتل، ولعبت دوراً بارزاً من خلال صحافتها وكتاباه في رفع شعار “عدن للعدنيين” والمطالبة بالحكم الذاتي لعدن ضمن إطار الكومنولث البريطاني.وفي الاتجاه نفسه أسهمت هذه الجمعية، باتجاهاتها الخطيرة ومفاهيمها الانعزالية، في بلورة وتأصيل الاتجاهات الوطنية التحررية التي تصدت لهذه الجمعية، ودحضت مفاهيمها ونزعاتها الانفصالية.تميز تركيب الجمعية العدنية باحتوائه على قطاع من الطبقة المتوسطة التي كان نموها مرتبطاً بالمشاريع الاقتصادية والأنشطة التجارية التي نجمت عن حركة الإصلاحات الشكلية الضرورية التي أدخلها الاستعمار البريطاني على اقتصاد مدينة عدن تلبية لمصالحه آنذاك.ولم يكن غريباً أن تتحالف رموز هذا القطاع مع الاستعمار، بهدف مشاركته في إدارة المدينة، حيث تمتعت تلك الرموز بامتيازات مادية ومعنوية نتيجة لتخلف الهياكل الاقتصادية وتحديداً في مدينة عدن، التي كان نشاط السكان فيها يتوزع بين الصيد والتجارة، ولم يكن ثمة أثر يذكر للصناعة، فيما كان التعليم والثقافة محصورين داخل نطاق ضيق جداً.هكذا ولدت الجمعية العدنية من بين أبناء الذوات وكبار الموظفين الإداريين في الأجهزة الحكومية والشركات التجارية العاملة في عدن، الأمر الذي يفسر تجسيد توجهاتها السياسة لمصالح النخبة الأرستقراطية التي أشرف الاستعمار على تربيتها ورعايتها لتكون سنداً محلياً لأهداف الإستراتيجية البريطانية لشرق السويس إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها.الجدير بالذكر أنّ نشاط هذه الجمعية لم يتم في فراغ سياسي، كما أنّ أجواء الحياة السياسية في عدن حينذاك لم تخلُ من الجدل الثقافي والسياسي تحت تأثير تفاعلات الوضع في المنطقة والمؤثرات الفاعلة في حياة مدينة عدن، حيث ما لبث أن برز تيار أكثر تقدماً من تيار الجمعية العدنية الانعزالي، وهو التيار الجنوبي الذي أخذ تعبيره السياسي والتنظيمي من خلال رابطة أبناء الجنوب التي انطلقت في بداية تأسيسها من الدعوة إلى توحيد كل أجزاء الجنوب.ولئن كانت الجمعية العدنية قد مثلت منذ بدايتها مصالح النخبة المرفهة التي ارتبطت بالإدارة البريطانية لمدينة عدن، واندمجت ثقافتها ومصالحها مع ثقافة ومصالح بعض الجاليات الأجنبية من دول الكومنولث، والتي تسلّمت مراكز قيادية في الأجهزة الحكومية والشركات التجارية والبنوك الأجنبية، فإنّ حزب الرابطة جسد في الأساس مصالح الطبقة الوسطى في مختلف أنحاء الجنوب اليمني المحتل، والتي بدأ نموها غداة الحرب العالمية الثانية، وقد تعرض قطاع واسع منها – وعلى وجه التحديد التجار وملاك الأراضي من أبناء ما كانت تسمى بالمحميات – لمضايقات السلطات البريطانية باعتبار أنّ سكان عدن، من أبناء المحميات، كانوا يُعاملون كأجانب في عدن ناهيك عن الآثار المعنوية التي تتركها في نفوسهم ممارسات ومفاهيم تيار الجمعية العدنية الانعزالي.كان ثمَّة صراع حاد بين التيارين “العدني” و”الجنوبي” وصفه الأستاذ علي باذيب، رحمه الله، بقوله :“أخذ الصراع بين الجمعية العدنية ورابطة أبناء الجنوب، أو بين أنصار الدعوة إلى الحكم الذاتي والدعوة إلى اتحاد الجنوب وقتاً طويلاً، وقادت صحيفة “النهضة”، وفيما بعد “الجنوب العربي” الحملة الاتحادية.. وتجاه خطر المحاولات والدعوات الرامية إلى عزل عدن وتحقيق الحكم الذاتي لعدن ضمن الكومنولث، فقد اندفع الكثيرون من الفئات المتعلمة والكثيرون من المواطنين إلى التعاون مع الرابطة”.هكذا شهدت فترة الخمسينات، وما قبلها بقليل، نمو وتطور الحركة الوطنية اليمنية أثناء الحكم الإمامي في الشمال والحكم الاستعماري في الجنوب، كما شهدت هذه الفترة أيضاً ظهور بعض الشخصيات الاجتماعية المثقفة، والعناصر الوطنية المستنيرة والتيارات السياسية والفكرية ذات الاتجاهات الوطنية والقومية التحررية في إطار الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة.وتستدعي الأمانة التاريخية، القول بأنّ رابطة أبناء الجنوب، مثلت في ذلك الحين إطاراً وطنياً عريضاً انخرطت فيه غالبية العناصر والاتجاهات السياسية والفكرية الوطنية والقومية، إن لم نقل كلها، والتي شكلت فيما بعد أحزاباً وتنظيمات سياسية لعبت دوراً بارزاً في الثورة اليمنية، ذلك أنّ الرابطة كانت تمثل خلال فترات متعاقبة من الخمسينات ما يشبه التنظيم الجبهوي الواسع الذي يضم مختلف القوى والاتجاهات على أساس محاربة الاستعمار.كانت كل تلك التطورات التي شهدها الواقع السياسي في شطري الوطن تمهد الطريق لانتقال العملية الوطنية التاريخية المعاصرة لشعبنا اليمني إلى طور جديد ترك تأثيره اللاحق على مستوى الخطاب السياسي الوطني الوحدوي.ما هو إذن هذا الطور الجديد؟ وكيف تجلى تأثيره على مضمون الخطاب السياسي الوطني الوحدوي؟[c1]الطبقة العاملة والقضية الوطنية[/c]لم يكن ذلك الطور، وما حفل به من تطوراتٍ وتفاعلاتٍ سياسية وطنية بعيداً عن عامل هام ظهر في حياة البلاد السياسية، وأحدث تأثيراً مباشراً في الوعي الوطني والاجتماعي، والذي تمثل بظهور الطبقة العاملة اليمنية كقوةٍ سياسية منظمة في نقابات غداة حركة إضرابات مارس 1956م في مدينة عدن.لا يعني هذا التاريخ – بأي حالٍ من الأحوال – تأخر استيقاظ الوعي الوطني والطبقي عند العمال، خاصة إذا عرفنا أنّ أشكالاً جنينية من الطبقة العاملة الوليدة كانت قد ظهرت على طول وعرض البلاد شمالاً وجنوباً، وتركزت في المدن التي برزت فيها الحاجة للأيدي العاملة اللازمة لتشغيل الورش والمرافئ ومحطات الكهرباء الصغيرة ومحالج القطن والمعامل اليدوية وغيرها من المرافق الخدماتية.بيد أنّ الاستثمارات النوعية والكبيرة، نسبياً، التي قام بها الاستعمار في مدينة عدن أواخر الأربعينات، أحدثت تغييرات على الخارطة الاجتماعية للجنوب المحتل عامة، ومدينة عدن خاصة، حيث غدا ميناء عدن مركزاً هاماً للتجمعات العمالية، بالإضافة إلى توسع نشاط الشركات التجارية الأجنبية.وفي بداية الخمسينات، وعلى إثر تأميم حكومة مصدق الوطنية للعمليات النفطية في إيران، أنشأت شركة بريتيش بتروليوم مصافي الزيت البريطانية في عدن، والتي أدى قيامها إلى زيادة وزن الطبقة العاملة نوعاً وعدداً، وقد ترافق توسع القاعدة العمالية مع ظهور بعض الأشكال النقابية في الفترة 1951 – 1953م مثل رابطة العمال والفنيين عام 1951م، ونقابة عمال وموظفي خطوط عدن الجوية، وجمعية موظفي سلاح الطيران عام 1953م.وللإجابة على التساؤل الذي قد يبرز حول أسباب تأخر دخول الطبقة العاملة المجال السياسي قبل إضرابات العمال في مارس 1956م، لابد من الإحاطة بمسألتين على جانب كبير من الأهمية:أولاً : تميّزت العَلاقة، التي كانت تقوم بين العمل ورأس المال بسيادة العَلاقات القبلية والعشائرية، فقد كانت عملية استخدام العمال في شركات الملاحة بالميناء تتم عن طريق “المقامة” الذين كانوا يستقطبون عمالاً بواسطة هذه العَلاقات باعتبارهم مقاولي أنفار.. وأدى هذا الوضع على إبراز أولئك “المقامة” كرؤساء قبليين وعشائريين للعمال في الميناء، حيث كانت كل مجموعة عمالية تنتمي إلى قبيلة أو منطقة أو قرية معينة في الجنوب والشمال.ثانياً : لم تكن الجمعيات التي ظهرت في مطلع الخمسينات نقابات منظمة بالمعنى الدقيق. ولعل ذلك يعود إلى اعتمادها على كبار الموظفين، بالإضافة إلى العمال وأصحاب العمل المحليين معاً، وقد ضمت تلك الجمعيات أصحاب العمل إلى جانب العمال في آنٍ واحد، كما هو الحال في رابطة العمال والفنيين التي ضمت التجاريين وأصحاب ورش النجارة المحليين أيضاً، وأصبح بعض قادتها مقاولين كباراً وأصحاب ورش.وينبغي التأكيد بأنّ الحركة النقابية اليمنية المنظمة لعمال اليمن، والتي ولدت في عام 1956م بمدينة عدن، لم تكن – برغم كل ما سبق ذكره – بعيدة عن العوامل التي أدت إلى إيقاظ الوعي الوطني، كما أنّها لم تكن مقطوعة الجذور عن المحتوى الرئيسي والاتجاه العام للعملية الوطنية التاريخية المعاصرة التي دشنها شعبنا اليمني منذ ثلاثينيات القرن الماضي.ومما له دلالة أعمق، بهذا الصدد، أنّ أول شرارة أشعلت إضرابات مارس المجيدة عام 1956م كان الإضراب الذي قام به عمال وموظف “بيت البس” الذي كان يمثل أكبر شركة تجارية أجنبية في عدن وجنوب الجزيرة العربية، وذلك احتجاجاً على طرد هذه الشركة للشهيد محمد ناصر محمد، عقاباً له على دوره البارز في تأسيس نقابة عمال وموظفي شركة “البس” وانتخابه سكرتيراً لها.وقد ألهب النصر الذي حققه العمال بإعادته إلى عمله، حماس العمال مع الشركات الأخرى، وشجعهم على المطالبة بحقوقهم المدعومة، وفيما بعد ثابرت العناصر الوطنية الناشطة على تقوية قنوات الاتصال بالعمال والفئات الأخرى كالطلاب والنساء، وساعدت على تنظيمها وصياغة مطالبها وتوعيتها بالقضية الوطنية عن طريق المحاضرات التي كانت تلقى في تجمعات العمال في البراقات الشهيرة بقرب ميناء التواهي، حيث جرى هناك، لأول مرة، الاحتفال بعيد أول مايو، ورفع شعار الاستقلال والوحدة اليمنية إيذاناً بدخول العمل الوطني مرحلة حاسمة ونوعية.ولم يكن من قبل الصدفة أن تنفجر، بعد إضرابات مارس العمالية، حركة واسعة من الإضرابات الطلابية ضد السياسة التعليمية، والتي شملت جميع المدارس الحكومية، بالإضافة إلى إضرابات عمال محلج الكود في أبين، والمظاهر الشعبية الضخمة التي انطلقت في شوارع عدن في مايو 1956م احتجاجاً على زيارة اللورد لويد جورج وكيل وزارة المستعمرات البريطانية لعدن، والإضراب العام في أبريل 1958م، ضد فتح أبواب الهجرة الأجنبية إلى عدن من بلدان الكومنولث، وانتفاضة أكتوبر 1958م ضد انتخاب المجلس التشريعي المزيف، وإضراب عمال أمانة ميناء عدن لمدة 14 يوماً في أواخر 1959م، ثم الإضراب العام في أغسطس عام 1960م ضد قانون منع الإضراب.[c1]طور جديد وتناقضات جديدة[/c]كان لحركة الإضرابات تأثيرها الواضح على أساليب الكفاح السياسي، حيث أدى دخول الطبقة العاملة، كقوةٍ سياسة منظمة، في نقابات، إلى رفد العملية الوطنية التاريخية لشعبنا اليمني بطاقات كفاحية هائلة والارتفاع بها إلى مستوى أعمق.وإذا كان أقصى ما كانت تطلبه الفعاليات السياسية في الجنوب المحتل، قبل قيام النقابات، هو جعل اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الإنجليزية، فقد ارتفعت عالياً بعد حركة الإضرابات العمالية، شعارات الاستقلال والوحدة اليمنية، التي نقلت الحراك السياسي من الخطب والعرائض إلى الانتفاضات والمظاهرات والإضرابات.وبطبيعة الحال لم تقف السلطات الاستعمارية موقف المتفرج من هذه التطورات، وهي التي كانت تعمل على درئها منذ انبلاج خيوطها الأولى، إيذاناً بالتحام العمل النقابي بالعمل الوطني.. فقد حاولت السلطات الاستعمارية القضاء على الحركة النقابية، وضرب حركة الإضرابات مستخدمة سلاح النفي ضد العمال من أبناء الشطر الشمالي من الوطن، والفصل من الوظائف الحكومية، فيما غصت الشوارع بالشرطة المسلحة التي أطلقت نيرانها على المتظاهرين من العمال والطلبة، وسقط بسبب ذلك العديد من الشهداء والجرحى.كما قامت السلطات الاستعمارية باعتقال مئات العمال ونسقت مع أصحاب الصحف لطرد الكتاب الوطنيين منها، وحظر نشر كتاباتهم، وعملت بالتنسيق مع أصحاب الشركات الأجنبية الاحتكارية لتطويق هذا المارد الوليد عبر نشر الإشاعات المغرضة وإثارة المشاعر الطائفية والقبلية، بهدف بث الفرقة بين صفوف العمال والوطنيين.وأمام هذا التطور الملحوظ في حركة الكفاح الشعبي والأشكال النضالية التي أفرزتها حركة إضرابات مارس الشهيرة عام 1956م، أصبح واضحاً جداً عجز القيادات الرئيسية للحركة الوطنية اليمنية عن استيعاب الدلالات والأبعاد السياسية لدخول الحركة النقابية ساحة الكفاح الوطني.حتى قيادة حركة الأحرار اليمنيين، وجدت نفسها، من خلال الاتحاد اليمني الذي كان مقره عدن، عاجزةً عن مواجهة ذلك الموقف الصعب الذي تمثل بارتفاع شعار الاستقلال والوحدة اليمنية، وما نجم عنه من إجراءات تسفير تعسفية واسعة ضد أبناء الشمال وملاحقتهم واضطهادهم.وغني عن القول إنّ قيادة حركة الأحرار اليمنيين لم تكن، أثناء وجودها في عدن، تهتم بالكفاح ضد الاستعمار في الجنوب اليمني المحتل، حيث كانت تركز كل نشاطها السياسي والإعلامي لمواجهة النظام الإمامي والمطالبة بالإصلاحات الدستورية.والحال أنّ حركة الأحرار اليمنيين لم تستطع، هذه المرة، أن تبقى بعيدة عن إ طار الكفاح الوطني ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن المحتل، لكن ذلك تمّ في سياق الحراك السياسي العام للقوى السياسية الأخرى وعلى وجه التحديد “رابطة أبناء الجنوب” وقيادة “المؤتمر العمالي” الذي تشكل بعد تأسيس النقابات.. وكان على جميع هذه القوى مراعاة الاحتياجات والمهمات الجديدة التي طرحها تطور الواقع السياسي مثل قضية التحالفات السياسية، والموقف من المخططات البريطانية لطمس الهوية اليمنية والتي بدأت في الظهور بعد رفع شعار الوحدة اليمنية.وبتأثير هذه التطورات الجديدة ظهر «المؤتمر الوطني» الذي تكون في البداية من الجبهة الوطنية ورابطة أبناء الجنوب والاتحاد اليمني والمؤتمر العمالي ثم دخلت فيه، بعد ذلك، الهيئات الثقافية والأندية الرياضية.وكان المؤتمر الوطني قد خرج، في الاجتماع الأول لأطرافه، باتفاق على بيانٍ بالأهداف.. ويتضح من تلك الأهداف، التي لا يمكن إغفال تأثيرها على مضمون الخطاب السياسي الوطني الوحدوي بشكل أو بآخر، أنّ الرابطة لعبت دوراً كبيراً ومؤثراً في صياغة ذلك البيان، بحيث جاء متطابقاً مع موقف الرابطة.. وقد نص ذلك البيان على ضرورة قيام دولة واحدة لكل الجنوب، واعتبر شعب جنوب الجزيرة العربية جزءاً من شعب الجنوب العربي الكبير وأقر بحقه في تقرير مصيره بالنسبة للوضع العربي العام في ضوء مبادئ الأمة العربية.وعلى الرغم من كون هذه الشعارات والمبادئ التي صاغها المؤتمر الوطني متخلفة عن حركة الأحداث، فإنّ العناصر الوطنية الوحدوية رأت أن تتصدى لهذه الشعارات من داخل المؤتمر نفسه.. وقد شرح الأستاذ علي باذيب موقف هذه العناصر من بيان المؤتمر الوطني قائلاً :“والحال أنّ العناصر الوطنية والتقدمية وجدت أنّها لا تستطيع تغيير تلك الشعارات من داخل المؤتمر آنذاك، ولم يُعد أمامها إلا أحد أمرين.. إما أن تخرج عن هذا الإجماع، أو أن تستمر في العمل من داخل الإطار العام للوحدة الوطنية التي تحققت بواسطة “المؤتمر الوطني”، وتعمل على الدفاع عن قضية الوحدة اليمنية وتأكيد محتواها الديمقراطي الذي ينبغي أن تنبني عليه”.[c1]أحزاب وطنية واتجاهات فكرية جديدة[/c]على إثر ظهور الطبقة العاملة اليمنية في ميدان العمل السياسي الوطني وارتفاع شعار «الوحدة اليمنية» و«الاستقلال» في إضرابات مارس 1956م العمالية، برز مشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي، وذلك بهدف محاصرة شعار الوحدة اليمنية، وسلب الهوية اليمنية للجنوب المحتل عبر إيجاد استقلال شكلي وهوية بديلة باسم «الجنوب العربي».كانت سلطنات وإمارات محمية عدن الغربية، التي وقعت معاهدات حماية وصداقة مع الاستعمار البريطاني، تشكل العمود الفقري لمشروع الاتحاد الفيدرالي، فيما بقيت سلطنات محمية عدن الشرقية، (حضرموت – المهرة – سقطرة) خارج إطار هذا الاتحاد الفيدرالي، حيث كان الاستعمار البريطاني يخطط لإقامة دويلة فيدرالية في المنطقة الشرقية مستقلة عن الجنوب. تزامن ظهور مشروع الاتحاد الفيدرالي، في مواجهة شعار الوحدة، مع انحسار موجة العداء للعمل الحزبي، حيث شهدت المنطقة تنامياً ملحوظاً لنشاط حركة القوميين العرب التي قامت بنشاط فكري بارز من خلال نشر أدبياتها، والقيام بالدعاية الواسعة لثورة 23 يوليو المصرية في شمال الوطن وجنوبه، ورفعت الحركة، بقوة، شعار الوحدة اليمنية.كما قام الماركسيون اليمنيون بتأسيس تنظيمهم السياسي في 22 أكتوبر سنة 1961م باسم الاتحاد الشعبي الديمقراطي، وإعلان ميثاقه الوطني الذي صدر تحت شعار “نحو يمن حر ديمقراطي موحد” وكان أول برنامج سياسي حزبي يضع هدفاً رئيسياً له النضال من أجل توحيد الوطن على أسس ديمقراطية.وبعد ذلك تأسس حزب الشعب الاشتراكي عام 1962م وكان بمثابة الجناح السياسي للمؤتمر العمالي.وإذا كانت أوائل الستينات لم تسجل أي ظاهرة تنظيمية علنية لنشاط حزب البعث العربي الاشتراكي، رغم تواجده الملموس كتيار سياسي وفكري في شمال الوطن وجنوبه، إلا أنّ ثمة خيطاً شفافاً ربما كان يربط بين القيادة العليا لحزب البعث في اليمن آنذاك، وقيادة حزب الشعب الاشتراكي، وما يؤكد هذا الاعتقاد، ذلك الدعم المالي والسياسي والأدبي الذي كانت تقدمه القيادة القومية لحزب البعث في سوريا – قبل وبعد وصولها إلى السلطة في مارس 1963م – لقيادة المؤتمر العمالي، وفيما بعد لحزب الشعب الاشتراكي.ويزيد من تأكيد هذا الاعتقاد أنّ جريدة “العامل” التي كان يصدرها المؤتمر العمالي بعدن، توسعت بشعار “الوحدة – الحرية – الاشتراكية”.. وهو الشعار المركزي لحزب البعث، والذي ارتفع، في الوقت نفسه، فوق واجهة المبنى الرئيسي للمؤتمر العمالي بالمعلا.. غير أنّ أول نشاط سياسي علني لحزب البعث في جنوب اليمن وشماله كان قد ظهر في مطلع النصف الثاني من الستينات.وتأسيساً عليه يمكن القول إنّ فترة الستينات دشنت بداية مرحلة سياسة نوعية اتسمت بوجود أحزاب وطنية واتجاهات فكرية تحررية في سياق التراكم الحاصل على مستوى الوعي الوطني لشعبنا اليمني، الأمر الذي أسقط طوق احتكار رابطة أبناء الجنوب للعمل الحزبي الوطني، وأضعف نشاط وتأثير حركة الأحرار اليمنيين، على صعيد الحياة السياسية للشطر الشمالي من الوطن.وفي غمرة تنامي الكفاح الوطني والقومي التحرري اتسعت الإضرابات والمظاهرات والانتفاضات الشعبية في الشمال والجنوب على السواء، لتضع العملية الوطنية التاريخية المعاصرة للشعب اليمني أمام أبواب مرحلة جديدة وحاسمة.. فقد كانت الأوضاع السياسية في شمال الوطن تزداد تردياً، في خضم السخط الشعبي العارم، حيث اندلعت في 22 سبتمبر 1962م إضرابات الطلاب في مدارس مدينتي تعز وإب، وسيق إلى سجون الإمام آباء الطلاب من الفلاحين والمزارعين الفقراء، عقاباً لهم على الانتفاضات التي قام بها أبناؤهم.وليس من قبيل الصدفة أن تنتهي مظاهرات وإضرابات طلاب المدارس في شمال الوطن في صبيحة 23 سبتمبر 1962م، ليبدأ في عدن، بجنوب الوطن المحتل، الزحف الشعبي الكبير على المجلس التشريعي في 24 سبتمبر 1962م احتجاجاً على دمج عدن في الاتحاد الفيدرالي السلاطيني الاستعماري.وفي جميع هذه الانتفاضات واجه شعبنا صنوف الاضطهاد والإرهاب والقمع، بدءاً بحمامات الدم التي كان يقيمها الحكم الإمامي المستبد في الشمال، ومروراً باعتقال المئات من الوطنيين في السجون والمعتقلات في جنوب الوطن، وانتهاء بإبعاد المئات من أبناء الشمال إلى مناطق الأطراف.في غمرة هذا الوضع المتصاعد بالغضب والألم.. وبعد يومين من الزحف الشهير على المجلس التشريعي بعدن، ومحاكمة آباء المتظاهرين من طلبة المدارس في مدينتي تعز وإب.. وفي الوقت الذي لم تزل فيه باقية آثار الإرهاب والملاحقات والغازات المسيلة للدموع، وآهات النساء والأطفال والرجال والأسر المكلومة بفقد شهدائها واعتقال آبائها وأبنائها، وبينما كانت عدن وقرى وروابي ووديان وسهول اليمن شمالاً وجنوباً تغفو في هجعتها، ومن حولها الزمن الرابض فوق مدن الخوف ودخان القنابل المسيلة للدموع.. في غمرة هذا الوضع استيقظ شعبنا، فجر يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، ليُعلنَ قيام أول جمهورية في شبه جزيرة العرب.. وليبدأ رحلة جديدة في سياق العملية الوطنية التاريخية المعاصرة في اليمن.[c1]ثورة واحدة من أجل وطن واحد[/c]لم يكن ما حدث صباح يوم 26 سبتمبر 1962م حركة فوقية تستهدف إصلاح اختلالات في هياكل السلطة، أو تعديل توازنات القوى والمصالح، التي تدير مفاعيل الدولة ووظائفها، على نحوٍ ما ذهب إليه بعض الذين حاولوا التقليل من الطابع الثوري لذلك الحدث الذي غير بشكل حاسم مجرى التاريخ الوطني الحديث للشعب اليمني.منذ اللحظات الأولى لإعلان البيان الأول للثورة، لم تـُعد القضية التي حركت نخبة طليعية وشجاعة من الضباط الأحرار، لإسقاط النظام الإمامي الكهنوتي، وإقامة أول نظام جمهوري في شبه جزيرة العرب، ملكاً لهم وحدهم، أو لتنظيمهم السري الذي كان له شرف المبادرة في اقتحام حصون وقلاع الاستبداد والاستيلاء على الإذاعة.. فقد تطورت الأحداث منذ ظهور شمس السادس والعشرين من سبتمبر 1962م ليجد الشعب اليمني – شمالاً وجنوباً - .. أنّ العملية الوطنية التاريخية، التي بدأها منذ الثلاثينات، وصلت في ذلك اليوم إلى مرحلةٍ حاسمة من الفعالية والإنجاز، بعد مسيرة كفاحية طويلة من أجل الحرية، اجترحتها الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة وعمدتها بالدماء والتضحيات.وضعت ثورة 26 سبتمبر في صدارة أهدافها مهمة تعزيز الكفاح من أجل تحرير الشعب اليمني من الاستبداد والاستعمار على طريق استعادة وحدته الوطنية وبناء المجتمع الديمقراطي.. وأنعشت الثورة آمال الملايين من أبناء الشعب اليمني في شمال الوطن الذي تحرر من الحكم الإمامي الكهنوتي، وجنوبه الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار البريطاني في آنٍ واحدٍ، إيذاناً بولادة مشروع وطني شامل للتغيير، تشارك فيه كافة القوى الشعبية التواقة إلى بناء يمن حر ديمقراطي موحد، يُعيد للوطن المجزأ وجهه الشرعي الواحد، ويفتح أمامه آفاق الحرية والتقدم والتجدد الحضاري.ولأنّها كذلك، فإنّ مسؤولية قيادة الثورة والدفاع عنها وتحقيق أهدافها الوطنية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تـُعد تعني – فقط – أولئك الرجال الذين غامروا بحياتهم، حين أطلقوا الشرارة الأولى للثورة، بل أضحت مسؤولية وطنية تاريخية للشعب اليمني بأسره، وللحركة الوطنية اليمنية بمختلف قواها وفصائلها وتياراتها الفاعلة في عموم الوطن شمالاً وجنوباً.. ولعل ذلك يفسر تلاحم الوطنيين اليمنيين الذين هبوا للدفاع عن الثورة والجمهورية، وقدموا أرواحهم من أجل أن تبقى راياتها وبيارقها خفاقة، وكان بينهم آلاف المتطوعين الذين انطلقوا من جنوب الوطني المحتل للدفاع عنها، في أروع تجسيد عملي لوحدة النضال الوطني للشعب اليمني الذي التف حول ثورته، ودافع عن مبادئها وأهدافها.صحيح أنّ ثورة 26 سبتمبر واجهت تحديات ومهمات ضخمة ومعقدة في الشطر الذي حررته من النظام الإمامي الاستبدادي، وواجهت فيه امتحان المواجهة الحاسمة مع الهجوم المعادي للثورة من قبل فلول النظام الإمامي البائد، والتي خاضت ضد الجمهورية الفتية حرباً ضروساً بهدف إسقاطها .. بيد أنّ الثورة وبفضل تحولها إلى مشروع وطني شامل للتغيير واجهت تحديات البقاء والاستمرار في كل الجبهات، وبضمنها جبهة الكفاح من أجل تحرير الوطن من الاستعمار، حيث تحولت المكاسب الأولى للثورة، في مقدمتها قيام الجمهورية، إلى قاعدة للنضال الوطني التحرري الشامل ضد الاستبداد والاستعمار، ومن أجل الحرية وبناء المجتمع الجديد. على هذا الطريق كان وفاء ثورة 26 سبتمبر لأهدافها الوطنية قوياً وعظيماً، وأضحت مهمة تحرير الجنوب المحتل من الاستعمار البريطاني جزءاً لا يتجزأ من مهام أول حكومة وطنية تشكلت بعد قيام الجمهورية وذلك من خلال تخصيص حقيبة وزارية لشؤون الجنوب المحتل، وتوظيف كل قدرات وإمكانات الثورة والجمهورية لدعم نضال الحركة الوطنية اليمنية في الجنوب المحتل ضد الاستعمار سياسياً وعسكرياً ومالياً وإعلامياً.ولئن كانت ثورة 26 سبتمبر شكلت دعماً هائلاً لمفاعيل الحراك السياسي الجماهيري في جنوب الوطن المحتل، فقد جاءت ثورة 14 أكتوبر 1963م، بعد عام واحد من قيام الجمهورية لتشكل مرحلة جديدة ومتطورة في النضال التحرري ضد الاستعمار، إذ أصبحت جمهورية 26 سبتمبر قاعدة صلبة للحركة الوطنية اليمنية بأسرها، وخلفية راسخة لحرب التحرير الشعبية التي خاضتها فصائل ثورة 14 أكتوبر، تحت شعارات الاستقلال والوحدة بدعم وإسناد من النظام الجمهوري في شمال الوطن، الأمر الذي أسهم في تعميق الوحدة العضوية للثورة اليمنية، وتأكيد واحديتها في إطار عملية وطنية ثورية موحدة الأهداف والمبادئ.بوسعنا القول إنّ ثورة 26 سبتمبر 1962م كانت منذ قيامها، امتداداً متطوراً لنضال الحركة الوطني اليمنية المعاصرة، منذ الثلاثينات وعلى امتداد الأربعينات والخمسينات، ثمّ جاءت بعد ذلك انطلاقة جديدة على خلفية هذه الثورة تمثلت بقيام ثورة 14 أكتوبر المسلحة 1963م، التي عملت على توسيع النطاق الجغرافي للحراك الثوري الجماهيري بتحويل الجنوب المحتل إلى ساحة ممتدة للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار وركائزه. ومما له مغزى عميق أن يكون مفجرو ثورة 14 أكتوبر هم أولئك المقاتلون الأبطال الذين توجهوا من ردفان إلى صنعاء للمشاركة في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، وبعد انتهاء مهمتهم الوطنية عادوا إلى قراهم في ردفان، وقاوموا القوات البريطانية التي جاءت لمحاصرتهم ومصادرة أسلحتهم، عقاباً لهم على مشاركتهم في القتال دفاعاً عن جمهورية سبتمبر. وخلال هذه المواجهات، التي بدأت يوم الحادي عشر من أكتوبر 1963م، استشهد قائد هذه المجموعة المقاتلة وهو الشيخ غالب بن راجح لبوزة صبيحة يوم 14 أكتوبر 1963م الذي تحول إلى شرارة أشعلت ثورة شعبية مسلحة اجتاحت كل الجنوب المحتل. على امتداد السنوات الأربع منذ اندلاع ثورة 14 أكتوبر، ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن 1963 – 1967م، كانت الثورة اليمنية تخوض معارك وطنية متكاملة على جبهتي الدفاع عن الثورة ونظامها الجمهوري في الشطر المتحرر من الاستبداد الإمامي، ومقاومة الاستعمار ومشروع اتحاد الجنوب العربي في الشطر الرازح تحت نير الاستعمار. وتميزت نهاية عام 1967م بتحقيق انتصارات تاريخية للثورة اليمنية في جبهتي المواجهة الرئيسيتين، حيث حققت الثورة اليمنية جزءاً من أهدافها الإستراتيجية في الجنوب بطرد الاستعمار وانتزاع الاستقلال وإسقاط المشروع الاستعماري السلاطيني الذي استهدف تكريس التشطير وإلغاء الهوية اليمنية للجنوب المحتل، عبر إقامة ما كان يسمى باتحاد الجنوب العربي الذي لقي حتفه يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م، بإعلان الاستقلال، وإلغاء الكيانات السلاطينية التي كرست التجزئة، وتوحيد سلطنات وإمارات الجنوب، واستعادة الهوية اليمنية في إطار نظام وطني على طريق الوحدة اليمنية. وكما حققت الثورة اليمنية انتصارها الحاسم في جبهة المواجهة مع الاستعمار ومشاريع التجزئة في نهاية عام 1967م، تمكنت الثورة أيضاً من تحقيق انتصار حاسم جديد على العدوان الذي شنته بقايا النظام الإمامي القديم بهدف إسقاط الجمهورية والقضاء على الثورة.. وكانت ملحمة المقاومة الشعبية وتحطيم حصار السبعين يوماً الذي استهدف إسقاط مدينة المدائن اليمنية صنعاء، عاصمة الجمهورية ومهد الثورة، دليلاً إضافياً على رسوخ الثورة ونجاحها في تحويل مشروع التغيير الوطني الشامل الذي بدأ يوم 26 سبتمبر 1962م إلى وجهة تاريخية ثابتة لتطور المجتمع اليمني يصعب التراجع عنها. ما من شكٍ في أنّ الثورة اليمنية تعرضت لبعض الأزمات والتشوهات التي تسببت في تأخير إنجاز أهم أهداف الثورة اليمنية وفي مقدمتها الوحدة والديمقراطية، حيث جاء استقلال الشطر الجنوبي بعد حرب أهلية بين فصائل ثورة 14 أكتوبر أسفرت عن إنفراد إحداها بالسلطة، ونزوح الفصائل الأخرى إلى الشطر الشمالي من الوطن الذي كان في ذلك الحين يواجه خطر الحصار المفروض على صنعاء. أدى استقلال الشطر الجنوبي إلى قيام دولتين شطريتين تعلنان انتماءهما الشرعي للثورة اليمنية، فيما تكرسان على الأرض أوضاعاً لا تاريخية، وتؤسسان في اللاوعي، قطيعة مع الثورة وأهدافها.. وبوجود دولتين شطريتين أصيبت الوحدة الوطنية للشعب اليمني بنكسة موجعة لم تعرفاه منذ نشوء الحركة لوطنية اليمنية المعاصرة، ودخلت الدولتان الشطريتان في حروب ومواجهات مسلحة أسفرت عن حمى استقطابات داخلية وتحالفات خارجية ترافقت مع قيام كل منها بتقنين عدد من الإجراءات والقيد التي ألحقت ضرراً بالحريات العامة والحقوق المدنية، للمواطنين، وفي مقدمتها تقييد حرية تنقل الأفراد، ومنع انتقال المنتجعات الوطنية والمطبوعات والصحف والكتب بين الشطرين، فيما جرى، بصورةٍ متبادلة إحاطة هذه الأوضاع المأساوية بمُناخٍ متوتر اتسم بتغليب الميول نحو الاستقطاب الأيديولوجي، وانتشار الأوهام التي روّجت لوجود نظامين متمايزين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما، وإلغاء الآخر.بيد أنّ تلك الأوضاع لم تكن قادرة على تجاوز الحقائق التي صاغتها الثورة في وعي شعبنا وأجياله الجديدة وأصبحت حر الزاوية في مسار التطور اللاحق للمجتمع اليمني.. فقد قيض للثورة اليمنية أن تستنهض، مجدداً، قدرتها على مواصلة تحقيق أهدافها والانتقال إلى طور جديد يتسم بالاستمرارية والإنجاز، خلال فترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح الذي دشن منذ وصوله إلى السلطة عام 1978م، بداية مرحلة جديدة أخرجت الثورة اليمنية من حالة الركود التي أصابتها، منذ أواخر الستينات على خلفية ظهور دولتين شطريتين متنافرتين، وما رافقهما من نزوع للإلغاء والإقصاء، أسفر عن صراعات دامية وجراح غائرة. ومن نافل القول إنّ الرئيس علي عبدالله صالح أدرك، منذ البدء، الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا، من رصيد وحدته وحقوقه في الحرية والأمن والاستقرار، بسبب الوضع الناجم عن وجود دولتين شطريتين، بالإضافة إلى الركود الخطير الذي أصاب الثورة من جراء الأضرار الخطيرة التي لحقت بأهم أهدافها وهما الوحدة والديمقراطية. ولعل ذلك يفسر اهتمام الرئيس علي عبدالله صالح بإعادة الاعتبار للثورة اليمنية وتاريخها، وبذل أقصى الجهود لإطفاء الحرائق وإيقاف حمى الاستقطابات والصراعات الداخلية، وإشاعة ثقافة الحوار والتعايش، ومحاصرة نزعات الإقصاء والإلغاء، بين الشطرين، وصولاً إلى تحقيق الوحدة والديمقراطية يوم 22 مايو 1990م. ولئن تمكنت الثورة اليمنية، خلال الحقبة التي ارتبطت بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح، من استعادة وهجها وزخمها، وإنجاز أهدافها الوطنية وفي مقدمتها الوحدة والديمقراطية والتنمية، فإنّ الإنجازات التي تحققت، خلال هذه الحقبة الثورية الجديدة، التي بدأت في يوليو 1978م، بقدر ما تؤشر على بداية طور تاريخي جدي في مسيرة الثورة اليمنية التي دشنت قبل أربعين عاماً مشروعاً تاريخياً وطنياً للتغيير الشامل، بقدر ما تؤشر أيضاً على حقيقة واحدية الثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر)، وقدرته على إخراج الوطن من الوضع اللا تاريخي الذي يتعارض مع مبادئها ويتصادم مع وجهة تطورها. لقد تميزت هذه الحقبة، ليس فقط بالقدرة على استنهاض مفاعيل الثورة باتجاه التغيير، بل وبقدرتها على أن يكون مشروع التغيير جزءاً أصيلاً من اتجاه التطور التاريخي للثورة، على طريق تجاوز الأوضاع الاستثنائية القائمة، إلى الأفق الوطني الشامل.. بمعنى أن يكون مشروع التغيير الثوري مجسداً لواحدية الثورة اليمنية، التي انطلقت يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وتجددت يوم الرابع عشر من أكتوبر 1963م، كضرورة تاريخية لتحرير الوطن كله من نير الاستبداد والاستعمار، واستعادة وجهه الشرعي الواحد، وإعادة بناء الإنسان على طريق بناء مجتمع ديمقراطي جديد ومزدهر.
ما قبل الثورة
أخبار متعلقة