بأبي العتاهية تكون تحولات الشعر، من أسر الذاكرة إلى حضور الوعي .. ومن حاكمية الارث الطللي، إلى شرعية الواقع اليومي .. ومن مجالس الأمراء، وحلقات العلماء ورواة الشعر، إلى حيث العامة في الاسواق، وبين أزقة بغداد.. [c1]3 - الأفكار والمعاني، من حيث استنباطها وعرضها :[/c]دون شك ان ابا العتاهية قد ذاعت شهرته لطرقه موضوع الزهد، لانه موضوع يعبر عن قطاع واسع من المحرومين اقتصاديا واجتماعيا، فنشأة ابي العتاهية في اسرة فقيرة، وبيئة شعبية تسكن قاع المجتمع، جعلته اقدر على تجسيد هموم تلك الطبقة الدنيا، ولعل الابيات التالية، تصور لنا الجانب الآخر لبغداد في بؤسه وشظف عيشه، ومعاناته الشديدة :[c1]من مبلـغ عني الإما***م نصائحـا متواليـهإنـي أرى الأسـعـــار***أسعار الرعية غاليهوأرى المكاسب نزرة***وأرى الضرورة فاشيهوأرى المراضع فيه عن***أولادهــا متجـافـيــهوأرى اليتامى والأرا***مل في البيوت الخاليهمن للبطون الجائعات***وللجسـوم العاريـه[/c]لقد مثل الزهد لابي العتاهية موردا غنيا يغترف منه افكاره ومعانيه، فكانت له في هذا الموضوع وسائل متنوعة واساليب مختلفة، ضمنت له انتشار شعره بين عامة الناس، ومن هذه الاساليب استخدامه للمعجم القرآني، بحيث شكل القرآن ركيزة فاعلة في زهدياته، ومن ذلك قوله:[c1]وأحضرت الشح النفوس فكلها***إذا هي همت بالسمـاح تجنبت[/c]فهنا نرى الشاعر يأخذ المعنى والصورة من قوله تعالى :"أوحضرت الانفس الشح".كما نجد اقتباسه الآية الكريمة "ألا إلى الله تصير الأمور" :[c1]ألا إلى الله تصير الأمــور***ما أنت يا دنياي الا غرور[/c]وكذلك اقتباسه قوله تعالى "ولله عاقبة الامور":[c1]لله عاقبة الأمور***طوبى لمعتبر ذكور[/c]ومن الاساليب الاخرى، التي انتهجها في زهدياته، اسلوب الترهيب، واسلوب الترغيب، لما لهذين الاسلوبين من تأثير قوي ومباشر في النفس البشرية، كقوله :[c1]المـوت بـاب وكل النــاس داخـلــه***فليت شعري بعد الباب ما الدارالــدار جـنـة خلـد ان عمـلـت بمـا***يرضـي الألـه وان قصـرت فالنــار[/c]كما كانت المباشرة والخطابية، اسلوبا فاعلا لعرض افكاره، ومخاطبة الآخرين والتأثير فيهم، كقوله:[c1]انظــر لنفســــك ياشـقــــي***حتــــى متــــى لاتتــقـــــيأومــا تــــــرى الايــــــــــام***تختلس النفوس وتنتقي[/c]4 - الموسيقى :اراد ابو العتاهية توظيف كل طاقاته الابداعية في سبيل تجسيد نزعته الشعبية، فمثلما اراد التجديد في اسلوب التعبير اللغوي ناشدا الاقتراب من لغة الحياة اليومية، اراد ايضا التجديد في موسيقى الشعر، فسعى الى احداث نوع من التجديد، بل والابتكار خارج دائرة العروض، ليسأل : "هل تعرف العروض؟.. فكان ان اجاب بثقة : انا اكبر من العروض.."وفي هذا الجانب يقول (ابن قتيبة) : "وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعرا يخرج به عن اعاريض الشعر واوزان العرب..".اراد ابو العتاهية لانغامه وموسيقاه، ان تكون من حركة الحياة والناس، فابتكر موسيقى حياتية شعبية، تستمد مكوناتها وايقاعاتها من ايقاعات الحياة والناس، فاذا به يقعد ذات يوم عند قصاب فسمع صوت المدقة، فحكى ذلك في الفاظ شعره:[c1]للمنون دائرات يدرن صرفها***هن ينتقيننا واحــدا فواحــدا[/c]وقد تنوعت موسيقاه بين اوزان خفيفة ومجزوءة سريعة الايقاع، واخرى طويلة مجلجلة الايقاع.ومن الاوزان الخفيفة التي شغف بها ابو العتاهية قوله في مجزوء الخفيف:[c1]ستـرى بعـد ما تــرى***غيـر هـذا الـذي تــرىستـرى ما بقـيت مـــا*** يمنع الناعس الكرى[/c]ومن بحر المضارع قوله :[c1]أيا عُـتــب مـا يضـــر***ك ان تطلقي صفادي[/c]ومن مجزوء الكامل قوله : [c1]مــا لنـــا لانــتــفــكـــــر***أين كسرى أين قيصرأيـن مـن قـد جمـع المـا ل مــع المــال فأكــثــــر[/c]اما عن االاوزان الطويلة، فقد اجاد توظيفها في زهدياته، اذ وجد في ايقاعاتها، مجالا رحبا، لابراز اسلوبه الخطابي، من خلال استعماله اساليب لغوية معينة: كالنداء - والتعجب، والامر، اضافة الى تكرار بعض العبارات، بحيث تصعد هذه الاساليب، من جلجلة الايقاعات، ومن قوة الاداء الصوتي، كقوله من الكامل:[c1]يا ساكــن الدنيــا لقــد اوطنتها***وامنتهـا عجــبا فكيــف امنتهــاوشغلت قلبك عن معـادك بالمـنـى***وخدعت نفسك بالهوى وفتنتها[/c]ففي البيت الاول نجد النداء (ياساكن) والتعجب (عجبا)، والاستفهام (كيف)، فهذه الصيغ وفرت للبيت نبرة خطابية .. كما نجد قوة الاداء الصوتي يتجسد من خلال التوافق الصوتي، بين نهاية صدر البيت الاول، وبداية عجزه (اوطنتها - وامنتها)، ثم ومن خلال التكرار الصوتي في بداية العجز ونهايته (امنتها - امنتها) وايضا نلحظ اعتماد ابي العتاهية، على التكرار الصوتي في قوله من الكامل:[c1]أيا باني الدنيا لغيرك تبتنــي***ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع[/c]كما نراه يستعمل اساليب لغوية، من نداء ، وامر، واستفهام، في قوله من الطويل:[c1]ألا أيها المرء مخـادع نفســه***رويداً أتدري من أراك تخادع [/c]لقد حاول أبو العتاهية ان يجعل من الشعر لسانا لعامة الناس ليؤكد بذلك نزعته الشعبية .. ومهما قيل عن تعثر وسقوط شعره، الا ان ما احدثه من تجديد، في اطار القصيدة التقليدية، يبقى شاهدا على تلقائية موهبته، واستناده الى حس شعبي عفوي، اتاح له الاقتراب من العامة ومن المحرومين اجتماعيا واقتصاديا.
|
ثقافة
النزعة الشعبية في شعر أبي العتاهية (2 - 2)
أخبار متعلقة