تستعد البشرية بأسرها لإستقبال العام الثامن من الألفية الثالثة الجديدة التي ارتبط ظهورها بتحولات عاصفة ومتسارعة أسهمت في تغيير بنية العالم وإعادة صياغة العمليات الجارية في مختلف حقول العلم والفكر والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية ، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة تعريف العديد من المفاهيم المتعلقة بقيم الحق والعدالة والحرية والسلطة والثروة والمعرفة والأمن والسيادة.في سياق هذه التحولات غير المسبوقة برزت العولمة كمنظومة جديدة من الإشكاليات والتناقضات والعمليات المعقدة ، لتطرح أمام العقل عدداًً من الأسئلة والتحديات التي تتطلب أجوبة غير مسبوقة ، لا تستطيع الآيديولوجيا توفيرها ، ولم يعد بمقدور صيغ التفكير المطلقة والقوالب الجاهزة معالجة معضلاتها .لا ريب في أن العالم المعاصر يشهد متغيرات و تحولات غير مسبوقة في ظل النظام الكوني الجديد الناشئ .. وفي هذا العالم المتغير يواجه العرب والمسلمون تحديات حضارية بسبب الفجوة الحضارية التي تفصلهم عن عالم الحقبقة الواقعي ، وتعاظم إحساسهم بقوة صدمة ما بعد الحداثة .. فالعالم العربي والإسلامي لا يزال عاجزاً عن الإجابة عن أسئلة صدمة الحداثة الأولى التي داهمته قبل مائتي سنة ، ولا ريب في أن هذه التحديات تقتضي تشغيل مفاعيل الاستجابة لها كضرورة يستحيل بدونها عبور الفجوة الحضارية التي تحول دون الحضور الفاعل للمجتمعات العربية والإسلامية في هذه الحقبة من تطور العصر والعالم . الثابت أن هذه الاستجابة تصطدم بهاجس الشعور بالعجز الذي يبحث أحياناً عن مسوّغات لتبرير العجز ، بدلاً من البحث عن محفـِّـزات لتجاوزه ، وهو ما يفسر الميول الى إعادة إنتاج الخطاب المحبط الذي تم التعاطي معه عند الصدمة الأولى في بداية الأمر ، ثم التمرد عليه ورفضه والتشكيك به واستبداله بالسلفية المتحجرة في وقت لاحق . يقيناً إن التخلف ليس قدرا ً مطلقا ً .. ولعل ما يميز الواقع العربي والإسلامي في عصر العولمة وما بعد الحداثة الذي تزامن مع ميلاد الألفية الثالثة من التاريخ الميلادي ، عن عصر الحداثة الذي دشنته الثورة الصناعية الأولى والثانية قبل ثلاثمئة عام ، هو استمرار تخلفه بوتائر متصاعدة ، مع وجود فرص موضوعية لتجاوز واقع التخلف . صحيح أن العالم العربي والإسلامي تخلف عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى الذي دشنته الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر، وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة ، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة ، وما ترتب عن ذلك من عالمية ذات طابع عمودي . لكن عصر الثورة الإليكترونية ، بما هو عصر العولمة وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني .. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية .. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا ً , بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الاتصال ، وما يترتب عن ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس . مما له دلالة ــ في هذا السياق ــ ان الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية ، انتجت وقائع و حقائق جديدة ، ووحـّدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي .. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الاليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود .. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية اندماجية لامتناهية ، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد !! كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى وهياكل محوريــــــــة ذات حدود صارمـــة ، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية .. امـّا عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بميله لأن يتحول الى بنية سوقية محورية و مندمجة ، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعـِلـَـيـْن متميـِّزَيـْن بطريقتي تفكير متناقضتين .. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الإندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات ، فيما يفكر الآخر بعقلية إنعزالية تقليدية ، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية ، وأفكار ماضوية جاهزة ، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم ، والإستمرار في إعادة إنتاج العجز ، وتهميش الذات بالذات نفسها!! من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله ، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الإندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها .. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والإشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية ، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية . يقينا ً ان ذلك يتطلب طريقة تفكير جريئة وإقتحامية تجترح صيغا ً جديدة للإنفتاح والعمل والنمو والتلاقح والتفاعل ، بدلا ًمن لعن العولمة والبكاء على أطلال الهوية والخصوصية والسيادة .. وبهذا فقط يمكن للمهمشين المشاركة في جدل العصر , وتجنب البقاء على الهامش .لقد أضحت صورة العالم بالغة التعقيد .. فالعولمة تشكل اليوم منظومة عالمية من التناقضات والعمليات المركبة ، حيث تتداخل الأسواق المالية ويتسع الإنتقال الفوري للمعلومات والمعرفة عبر تكنولوجيا الإتصال التي تضغط على الزمان والمكان ، ويتكامل نظام عالمي للإنتاج والتسويق والإستهلاك بقيادة شركات عملاقة متعددة الجنسيات وعابرة الحدود والقارات ، فيما يتم تسويق اجندة سياسية كونية تعيد تعريف الجغرافيا السياسية والإقتصاد السياسي إستنادا ً الى الفلسفة الليبرالية الجديدة في المسائل المتعلقة بوظائف الدولة والثقافة والأسواق. يزيد من تعقيد صورة العالم الذي يتجه بخطى متسارعة نحو ذرى العولمة وما تنطوي عليه من اشكاليات ، انه يعاني من بيئة طبيعية غير متوازنة تهدد قدرة كوكبنا الأرضي على توفير حياة آمنة للبشرية ، فيما تواجه جغرافيا هذا الكوكب تحديات وضغوط العمليات السياسية والإقتصادية الرامية الى إعادة تنظيم الحيز والمساحة ، وإلغاء الحدود والموانع التي تحول دون حرية مرور رؤوس الأموال ومنتجات الثورة الصناعية الثالثة . لا يخلو العقل من ضغوط التحولات التي تحدث في بنية العالم وصورته تحت تأثير العولمة ، إذ يبدو مهموما ً بحراك الخيال العلمي الذي يسعى لإستشراف آفاق غير محسوبة لمجتمع إنساني عالمي يتجاوز الدولة والهوية. . وفي سياق كهذا يتراجع دور ومكانة الثقافة الشمولية، ويزداد مأزق مخرجاتها المصابة بالجمود العقائدي والوهن الذهني والتفكير المعلــّب ، بعد ان تحولت الى لا وعي ٍ يُعادي المعرفة ، ويُعيد إنتاج مشاريعَ وأفكار ٍ بالية ٍ أفلست من أي رصيد او إنجاز قابل للاستمرار .إلى أين سيأخذنا هذا العالم المتغير بإيقاع متسارع يفضح عجز الأفكار الجامدة والسياسات الخائبة والمشاريع البالية أمام مرآة التحولات الجذرية ؟ ومتى نقوى على فهم هذا العالم والإستجابة لتحدياته ؟ يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة : « إن أحوال العالم والأمم والناس وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو الإختلاف على الأيام والأزمنة والانتقال من حال الى حال.. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأبصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول » . لا يعيب الإنسان ، كما لا يعيب الأحزاب والحركات السياسية والمفكرين والمثقفين والسياسيين ممارسة الحرية القصوى في النقد الموضوعي والنقد الذاتي ومراجعة الأفكار والسياسات وتجديد طرائق التفكير والعمل ، والبحث عن أجوبة جديدة عن الأسئلة غير المألوفة التي تطرحها متغيرات وتناقضات الحياة ، وصولا ً الى إختيار وجهة التطور . ولا قيمة للسياسة حين تكون عاجزة عن المبادرة والإكتشاف .. ولا دور طليعيا ً للعقل حين لا يجترح تعب البحث عن الحقيقة ، ولا يدرك ضرورة إعادة إكتشاف واقع ٍ بحاجة الى المزيد من الكشف ، وإعادة بناء السياسة والفكر السياسي من أجل فهم أعمق للمتغيرات الذي يشهد الوطن و التاريخ والعالم والحضارة البشرية في هذه الحقبة من مسار تطور عصرنا الراهن. ما من شك في ان التحول نحو الديمقراطية اضحى واحدا من أبرز هذه المتغيرات التي لا تخلو بالضرورة من التناقضات والإشكاليات المعقدة .. والحال ان ثمة علامات بارزة في مسار الديمقراطية الناشئة في بلادنا وهي الميل نحو مزيد من حرية التفكير وحرية التعبير وعلنية المناقشات ، بيد ان الحرية والعلنية غير معصومتين على الدوام من الإنحراف نحو الفوضوية ، الأمر الذي يتطلب اسلوبا ً واقعيا ً في التعامل مع المنابع الفكرية والإجتماعية للميول الفوضوية في المجتمع بصرف النظر عن عدم تجانسها .من الخطأ الإعتقاد بأن الجانب الأكثر جاذبية في الفوضوية هو نزعتها المتمردة على الأوضاع والوقائع السلبية ، بل ان الجانب الأكثر جاذبية فيها هو ثوريتها المتسمة بالجموح الفوضوي تارة ً ، ونفاذ الصبر ضد كل شيء تارة ً أخرى . وهنا تبرز اهمية الديمقراطية في التعامل مع الجانب الأول بوصفه احتياطيا ً مباشرا ً لآيديولوجيا القفز على الواقع ، وما يترتب عنها من انحرافات انتهازية ، ومع الجانب الثاني بوصفه خطرا ً مباشرا ً على التطور الموضوعي للديمقراطية ، وتهديدا ً بالعودة الى الشمولية والإستبداد . وبوسع التحليل النقدي للإنحرافات الإنتهازية أن يقودنا الى إستنتاج هام ، وهو ان بروز تلك الانحرافات ارتبط على الدوام بمصادرة الديمقراطية وتضييق قنواتها وتعطيل أطرها ، بقدر ما ارتبط النضال ضد تلك الانحرافات بممارسة الديمقراطية وإشاعتها في المجتمع . من نافل القول ان إرساء دعائم المناقشات الحرة والعلنية بين مختلف الأفكار والآراء ، يعد ــ من الناحية العملية ــ نقدا ً مباشرا ً للأخطاء التي ارتكبت في الماضي، أثناء هيمنة الثقافة السياسية الشمولية ونزعات التفكيرالدوغمائي التي ارتبط وجودها بغياب الديمقراطية . والثابت ان تنوع الآراء والأفكار والخيارات في مجرى الممارسة السياسية لا يـُضعف وحدة المجتمع ، بل إنه يساعد على أن تكون مهمة إعادة بناء السياسة وتطويرها غيرمحصورة في نخب فوقية تحتكر الممارسة السياسية بصورة مطلقة .[c1][email protected][/c]
|
فكر
الفوضى نقيض الحرية
أخبار متعلقة