السينما في اليمن الحلقة (2)
نجوى عبدالقادر كانت اليمن من اوائل البلدان العربية القليلة التي عرفت السينما، بحكم الوجود الاستعماري الذي جعل من عدن منطقة تضم جنسيات مختلفة ـ انجليزاً ـ وهنوداً ـ وفرساً ـ وصومالاً وتجاراً يهوداً وشركات عالمية وباعتبار عدن أهم ميناء في العالم ونظراً لأهميته العظيمة هذه حيث كانت عدن ولازالت ميناءً عالمياً تدخل اليه جميع انواع الصناعات الاوربية والعالمية ، ومع بداية القرن العشرين عرفت اليمن السينما كصناعة اوروبية ثم كصناعة هندية.اكتسحت السينما جميع أنواع الفنون الأخرى في العالم، حتى في بداياتها الصامته وفي الافلام الاولى التي نرى فيها الحركة السريعة ومع تسارع خطى التقدم والتطور السينمائي اصبحت تقدم افلاماً بحركات طبيعية جداً مع ادخال الصوت الى الافلام الجديدة واصبحت في العالم سينما ناطقة.وفي نهاية العشرينيات من القرن الماضي شهدت عدن دخول السينما.. فكانت تقدم عروضاً سينمائية .. ولاقت إقبالاً جماهيرياً واسعاً مما دفع بكثير من التجار واصحاب الاموال الى بناء دور للسينما في جميع مناطق عدن- وحضرموت .وكان الارتباط مستعمرة عدن بالحكومة الهندية اثر كبير في استيراد الافلام الهندية الى جانب الافلام الاوروبية..ومع بداية الاقبال الجماهيري على دور السينما تزايدت ايضاً عدد صالات العرض حتى صارت اكثر من صالة او صالتين في بعض مناطق عدن..ولما صارت الحاجة ملحة لاستقبال اعداد هائلة من المتفرجين رعت الضرورة الى عرض شوطين او اكثر في بعض دور العرض السينمائي .. كسينما بلقيس في مدينة كريتر ونظراً للتطور العام الذي شمل منطقة عدن في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، كان للمرأة نصيب كبير في الحضور والمشاهدة فخصت سينما بلقيس شوطاً واحداً في الاسبوع للحضور النسائي فقط .. وخصصت بعض دور السينما مقصورات خاصة بالنساء والعائلات.ونتيجة للاقبال الشديد على دور السينما تنوعت الافلام المعروضة بين الافلام العربية والهندية والاجنبية .. وكلها افلام جيدة وهادفة وكثيراً مايحرص اصحاب دور العرض على استيراد الافلام الناجحة وهذا يستدعي ان يعرض الفيلم لمدة شهر كامل او أكثر في حالة الاقبال المتزايد لمشاهدة مثل هذه الافلام الناجحة والتي لاقت رواجاً كبيراً .ومع هذا الانتشار السريع لدور دخلت السينما دخلت الى اكثر المحميات الجنوبية في فترة ماقبل الاستقلال الوطني ولعل اول المناطق الجنوبية التي عرفت السينما في وقت مبكر هي مدينة المكلا عاصمة حضرموت ثم مدينة لحج وزنجبار .. ثم باقي المدن الرئيسية في تلك المحميات التابعة لمستعمرة عدن ويعود الفضل في دخول السينما المبكر الى المناطق الجنوبية البعيدة اوما كانت تسمى آنذاك بالسلطنات الى السلاطين والامراء الذين عرف عنهم الكثير من اهتمامهم بالثقافة وولعهم بالفن وخاصة في مجال الغناء والطرب ناهيك عن ان كثرة أسفارهم إلى أوروبا وإلى بريطانيا خاصة ـ فتحت أعينهم على كثير من أسباب النهوض الثقافي والفني .. فساهم بعض السلاطين في بناء دور للسينما حيث شجع السلطان القعيطي على بناء سينما المكلا والأمير العبدلي الذي كان يملك سينما دارسعد وسينما زنجبار التي كانت ملكاً للفضلي سلطان أبين.وبعد الاستقلال في نوفمبر 1968م عرفت معظم المدن اليمنية الجنوبية السينما ـ وشيدت فيها دور للسينما تلبية لحاجات الجماهير الثقافية .. فكانت سينما جعار وسينما مودية وسينما لودر وسينما الضالع وسينما القطن وسينما سيئون وسينما الشحر وسينما بيحان وسينما عتق وسينما الغيظه وسينما المكلا الأهلية .قامت السينما بدورها البارز في المجال الثقافي والفني .. وكانت تمثل اداة تثقيفية هامة وأداة ترفيهية في آن واحد.كان ذلك في الوقت الذي لازالت سبل الثقافة محصورة في عدد من الكتب التي تستوردها المكتبة الوحيدة في عدن وهي مكتبة الحاج عبادي وما يصل أيدي القراء من مجلات عربية محدودة .. والسينما التي سبقت الراديو والتلفزيون في عدن تعد الوسيلة الثقافية والفنية الاولى .. فقد تعرف جمهور المشاهدين على أنواع جديدة من الثقافات العامة وخاصة بعد ان ظهرت الكثير من الأفلام الجادة والهادفة واستمع جمهور (النظارة) كما يسميهم عميد الأدب العربي ، إلى أنواع جديدة من الموسيقى التي تصاحب تلك الافلام .. وكان للأغنية الهندية او الموسيقى الهندية دور كبير في إدخال الحان جديدة على الأغنية اليمنية ظهرت هذه الألحان واضحة جلية في أغاني الفنان الكبير المرحوم بامخرمة والفنان الكبير محمد جمعة خان والفنان خليل محمد خليل.وكان للأفلام المصرية دور كبير في التعرف على الألحان المصرية والأغاني التي ظهرت في الافلام العربية القديمة والجديدة وكان لهذه الافلام السينمائية اثرها البارز في إعلان الأغنية العدنية التي ظهرت في بداية الستينات من القرن الماضي بعد أن انتشرت أغاني الافلام العربية في السينما أولاً ثم في محطات الاذاعة المصرية واذاعة عدن وغيرها من الاذاعات العربية.ولايمكن لنا أن ننكر دور السينما في نشر الوعي الاجتماعي والحضاري وأثرها في مظاهر الحياة العامة .. والتعرف على أنماط جديدة في المظهر العام للفرد ومقتنياته وسلوكياته ونمط معيشته في سنوات متقدمة لم تكن سبل السفر والسياحة فيها متاحة ومتوفرة للاطلاع على كثير من بلدان العالم أو للتعرف على حياة أناس آخرين والاستفادة من خبراتهم في شتى المجالات .واخيراً .. فقد حققت السينما نجاحاً كبيراً واستطاعت ان تكسب جمهوراً واسعاً منذ بداية انتشارها في عدن وجميع مناطقها .. كما حققت نجاحاً اكبر بعد ذلك عندما خرجت إلى باقي انحاء اليمن وكان هذا النجاح الجماهيري سبباً في استمراريتها وما تقدمه من افلام هادفة .وللتعرف على الحياة الفنية في اليمن، ووجود السينما فيها منذ زمن طويل يعود إلى العشرينات من القرن الماضي .. فإنه يمكننا التعرف على ذلك من خلال قراءتنا واطلاعنا ، حيث ورد الحديث عن هذا الفن الذي دخل إلى اليمن مبكراً في كثير من القصص الادبية والروايات والسير الذاتية وقد ورد اكثر من دليل على صحة هذا القول ، وفي كتاب للاستاذ خالد صوري بعنوان (خليل محمد خليل، حياته وفنه) يتحدث الفنان خليل في المقدمة عن ذكرياته الجميلة في مرحلة الطفولة .. وكيف عرف السينما في وقت مبكر جداً من طفولته مما اثر ذلك في نشأته كفنان.. والفنان خليل محمد خليل من مواليد سنة 1917م .. وكما يقول انه كان يذهب إلى السينما طفلاً صغيراً بصحبة اخويه اللذين يكبرانه سناً وهذا يدلنا على ان الفترة الزمنية التي شاهد فيها الافلام السينمائية هي منتصف الثلاثينات او ما سبقتها من سنوات قليلة.وأما القاص محمد عبدالولي وهو الاديب الكبير الذي صور لنا بأدق التفاصيل وبعين الفنان المبدع صورة كاملة عن السينما ، وولع طبقات مختلفة من أبناء اليمن بهذا الفن الوارد إلى اليمن وهو ينقلنا بعدسته البارعة إلى عالم السينما في قصته (سينما ـ طفي لصي).ولما كانت مناطق الارياف والمناطق الجنوبية المهملة والمحرومة من جميع وسائل الرفاهية بل حرمت ايضاً من أهم وسائل العيش الضرورية كالماء والكهرباء والتعليم والعناية الصحية. كانت السينما هي المتعة الوحيدة التي وجدها جمهور الريف اليمني .. ومن هذا الاهمال المقصود والمتعمد من قبل الاستعمار البريطاني لجأ جمهور كبير إلى الترفيه عن معاناته اليومية وكانت السينما هي ملاذ الفلاحين والمزارعين والرعاة.وكذلك كان الحال في المدن، حيث كانت السينما هي المتعة اليومية او شبه اليومية لكثير من رجال الطبقة العاملة ولعلهم اغلب رواد السينما .. حيث تكون السينما قد قدمت لهم فيلماً شائقاً يستمتعون بمشاهدته في الفترة المسائية او الفترة المسائية المتأخرة خاصة وان رواد الفترة المسائية هم ممن لايملكون منازل أو بيوتاً تمنحهم قسطاً من الراحة فهم النازحون إلى المدينة للعمل فيها كباعة متجولين أو نادلين في المطاعم والمقاهي الشعبية .. ومنهم ايضاً بناؤن وعمال في مهن وحرف مختلفة .. كل هؤلاء يشكلون القاعدة العريضة من جمهور السينما ..وكما وصفهم الاديب الكبير محمد عبدالولي في واحدة من افضل قصصه القصيرة وهي بعنوان (سينما طفي ـ لصي): (الناس جميعاً في مقاعدهم داخل السينما الوحيدة في المدينة وهم يشاهدون فيلم "السيد" الاجنبي، الذي لم يتعودوا على مشاهدة مثله ، ولكن دفعهم الملل ورتابة حياتهم لمشاهدته) وانقسم الناس داخل جدران السينما إلى نوعيات بالنسبة لمقاعد جلوسهم .. البلكون لكبار الموظفين والمديرين والصالة لمن هم دون ذلك.ان الصالة كما يحاول ان يصور لنا القاص الراحل محمد عبدالولي التي يجلس فيها الناس الكادحون .وكم صور لنا من هم رواد السينما فان القاص محمد عبدالولي لم ينس ان يشير إلى ركن النساء في دور السينما التي يتحدث عنها .. وهو يعطينا بافكاره ، حياة حقبة من الزمن الماضي، كانت السينما فيها هي مركز تجمع عدد كبير من شرائح المجتمع بها فيها المرأة التي فرضت نفسها على مجتمع السينما وكان لها لهذا الحق .ولم تكن السينما التي رسم صورتها للاجيال القادمة من بعده، إلا رمزاً لافكار كثيرة استطاع ان يجد لكل فكرة رمزاً .. وكل هذه الرموز مجتمعة في السينما التي تخيلها بكل ما فيها من جمهور وادارة وصالات عرض وافلام وهي اولاًً واخيراً دليل آخر على الحس الفني الذي عرف عند الناس جميعاً ودليل على الوعي الثقافي المبكر لنماذج مختلفة من طبقات مجتمعة الذي عرف السينما .وقد اشار كثير من الباحثين والرحالة والسياح الذين زاروا اليمن في العقود الاولى من القرن الماضي ضمن مذكراتهم إلى المعالم الاثرية والحضارية لكل مدينة في اليمن .. وكانت السينما من ضمن المعالم الثقافية التي لم ينس بعض الوافدين إلى عدن ان يسجلوها في مذكراتهم .