زهير الخليدي :يعطي المفكر حسن حنفي في مشروعه التراث والتجديد وفي القسم الخاص بتثوير علم أصول الفقه الأولوية للواقع علي حساب النص وللمصالح العامة علي الحروف والحدود ويضم كتابه لأول مرة تقريبا في الفضاء السني المدارس الفقهية الشيعية وبالخصوص المعاصرة منها وقد جسد بعمله هذا المقولة التي ناضل من أجلها طيلة حياته الحافلة بالمعارك والمحاورات وهي: تحقيق وحدة الأمة عبر بناء وحدة الفكر.بيد أن هذا الكتاب يعتبر حجر الزاوية ومركز الثقل بالنسبة لمشروع التراث والتجديد متعدد الجبهات فهو يربط بين الإسلام والتراث القديم وروح العصر الذي يتشكل من الفكر الغربي والواقع التاريخي للمسلمين الذي يشهد بروز الإسلام السياسي كما أنه يترجم كخير ما يكون مقولة الإسلام المستنير والإسلام في خدمة الشعب التي طالما بشر بها صاحب علم الاستغراب،ولعل أصول الفقه هو أقرب العلوم النظرية الإسلامية إلي الممارسة الميدانية وأكثرها تأثير علي التجربة العملية خصوصا وأنه يعتمد علي فلسفة تاريخية من أجل استنباط الأحكام تدشن مرحلة إصلاح وفق أسلوب البحث العلمي الرصين.لقد ميز هذا المفكر بين لحظة تكوين النص الفقهي ولحظة تشكل البنية التي تتفرع بدورها إلي بنية ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو حتي خماسية وقسم فقهاء الإسلام إلي نوعين:- فقهاء غيبوا البنية وثبتوها وهم من المقلدين الذين يحصرون الاجتهاد في الفروع ويبقون الأصول علي حالها.- فقهاء حركوا البنية وغيروها وهم من المجددين الذين وسعوا دائرة الاجتهاد لتشمل الأصول وتطال التجربة التاريخية وتنفتح علي متطلبات الواقع.لكن هل حل هذا التقسيم الثنائي محل التقسيم الثنائي القديم بين فقهاء السلاطين والبلاط وفقهاء الأمة والشعوب؟هل النمط الأول هم من الذين ثبتوا البنية ورفضوا التجديد والنمط الثاني من الذين حركوا البنية وفتشوا عن إعادة تأصيل الأصول؟يحدد حنفي السمات العامة للفكر الأصولي بأنه فكر يرتكز بالأساس علي العقل والتجربة ويتميز بالمنهجية والمنطقية وينطلق من فطرة الطبيعة البشرية ميدانه وأفق تحليله هي الذاتية وتتميز أحكامه بالوضعية والعملية ويجمع بين أصالة الخصوصي وإنسانية المقصد ويعتمد علي بعض القواعد الميسرة مثل عدم جواز تكليف ما لا يطاق، رفع الحرج، الضرورات تبيح المحظورات، لا ضرر ولا ضرار.الجرعات التجديدية في الجزء الأول تظهر بشكل واضح للعيان عندما يعطي المفكر الأولوية للعمل علي حساب النظر ويجعل النظر في خدمة العمل ولا يترك العمل كمجرد مجال يختبر فيه النظر، إذ يقول حنفي في هذا السياق:"يتسم الفكر الأصولي بالنزعة العملية الخالصة فالوحي نداء للعمل بالرغم من أن أول آية فيه توحي بالنظر(اقرأ) والقراءة هنا تعني التدبر والوعي والدراية من أجل انتفاضة الفعل وليس من أجل القراءة والكتابة والرسول أمي لا يقرأ ولا يكتب. القراءة تعني النظر في الطبيعة والإنسان والتأمل في الكون والبشر من أجل العلم كمقدمة للعمل.اللفظان من اشتقاق واحد مع تبدل ترتيب الحروف الثلاثة ع ل م، ع م ل.وهما نفس اللفظين،العلم والعمل من أجل التحقق في العالم.والعالم من نفس الاشتقاق وله نفس الترتيب للعلم ع ل م بزيادة حرف المد بعد الحرف الأول إشارة إلي امتداد العالم وسعة آفاقه.فإذا كان الكوجيتو الغربي "أنا أفكر إذن أنا موجود" يعطي الأولوية للنظر علي العمل وللفكر علي الوجود فان الكوجيتو الإسلامي (وقل اعملوا)،(إني عامل)،يعطي الأولوية للعمل علي النظر وللوجود علي الفكر.ثم تتضح بطريقة كافية عندما يذكر مرارا أحد فتاوي فقيه الرأي أبي حنيفة التي يري فيها أن الصلاة لا تجوز والأرض مغصوبة وهذا يعني أن تحرير الأرض يندرج ضمن فقه الأوليات وأن فقه المعاملات مقدم علي فقه العبادات ويمكن أن نستنتج أن المفكر يدشن فقه المقاومة والتحرير ويرد علي دعاة التبرير والتواكل الذين يحتمون بالمرجعية وينظرون لسلطة أهل الاختصاص وطاعة أولي الأمر من المتحالفين مع دوائر الاستعمار والاستبداد.إذ يقول حسن حنفي:" يكتب الآن "من النص إلي الواقع" ضد شبهة أن التشريعات الإسلامية حرفية فقهية تضحي بالمصالح العامة قاسية لا تعرف إلا الرجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي والصلب والتعليق علي جذوع النخل وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف وتكليف بما لا يطاق.كما أن من ضمن بعض مآسينا خروج بعض الحركات الإسلامية المعاصرة من النص الحرفي وتطبيق شعاراته حول الحاكمية لله وتطبيق الشريعة الإسلامية والبديل الإسلامي دون رعاية لواقع متجدد أو لتدرج في التغيير.الجرعات التجديدية في الجزء الثاني تتمثل في قلب مصادر التشريع رأسا علي عقب ،فإذا كان القدماء يبدأون بالقرآن والسنة والإجماع والقياس فإن حسن حنفي يبدأ بالقياس أو الاجتهاد والإجماع ليمر إلي رأي السنة والقرآن، فإذا كان موضوع البحث هو البطالة أو الحريات فانه يبدأ بفهم الواقع عن طريق الاجتهاد العقلي ثم يمر إلي التعرف علي آراء العلماء والمصلحين في عصره وفي سائر العصور الأخري ليصعد فيما بعد نحو نصوص السنة وما تركه الصحابة والرسول من مأثور وأخيرا يسائل النص القرآني عن هذا الموضوع في علله ويقارن جميع المواقف والاجتهادات ويصل إلي الحكم الشرعي في نهاية الاستقراء والإحصاء والاستنباط.القرآن عند حنفي نص تشريعي بامتياز وهو سيظل الكتاب الأول في التشريع بالنسبة للمسلمين لأن القسم الاجتماعي فيه هو الأكبر بالمقارنة مع الجانب الغيبي والمعاملات لها الأولوية علي العبادات ولذلك نزل منجما وكان هناك ناسخ ومنسوخ وأسباب نزول ومصالح مرسلة ومقاصد عامة للشريعة وقد كان السؤال المركزي في الكتاب هو:كيف تستنبط الأحكام؟ وصاغه حنفي في الإشكالية التالية: أين الواقع في أصول الفقه؟ ولمن الأولوية للنص أم للواقع؟ هل ينبغي أن نكيف الواقع طبقا للنص أم نكيف النص طبقا للواقع لكي نستنبط الأحكام؟تتمثل أطروحة حنفي في اختياره لأولوية الواقع علي النص وضرورة تكييف النصوص مع الوقائع فإذا أراد الفقيه أن يستنبط أحكام التشريع لابد أن يسأل الواقع ويطلب الجواب من النص بفروعه الثلاث: الوحي والسنة والتراث الاجتهادي الفقهي. قد رأي المفكر علم الأصول الفقه يقوم علي ثلاثة قضايا:النص القرآني والمنطق اللغوي واستنباط الأحكام،أما النص القرآني فهو عامل مرجح لما يراه العقل في الواقع وقد أيد الله عمر ابن الخطاب في ثلاثة أمور وخالفه في ثلاثة وبالتالي فان عمر مثلا قادر علي إيجاد الحل في الواقع بعقله وقد يأتي الوحي مرجحا لرأي عمر أو غيره من المتساوين بالطبع في العقل والإرادة الطيبة.إن الحكم الفقهي يتغير بتغير الزمان والسياق فلا توجد بنية ثابتة للعقل الفقهي وحتي إن كانت ثابتة لابد من تحريكها لأنه لا توجد رسالة ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان بل الفقهاء عن طريق الاجتهاد والتأويل هم وحدهم الذين يجعلونها أساس التقدم في كل عصر وليس مجرد مادة مواكبة له لأن مثلما توجد آيات قرآنية كثيفة المعني وعصية عن الفهم توجد بعض الآيات التي فقد حوافها الدلالية مثل آيات الإماء والجواري والغنائم إذ لم يعد الزمن ملائماً لنسأل عن الأهلة والأنفال والمحيض بل لابد أن نسأل عن الظلم والاستبداد والفقر والأمية في حضارة ابتدأت مع الاستجابة للأمر القطعي:اقرأ. يدعو الكاتب إلي الاعتبار من التدرج في تحريم الخمر والتركيز علي علة التحريم دون شكله ويذكر برفع عقوبة القطع بالنسبة إلي السارق إذا كانت هناك حاجة وفاقة وبالتالي ينبغي أن نميز بين النوايا والأفعال الخارجية في العقاب لأن الغاية من العقاب ليس الانتقام وإلحاق الأذي بالناس بل الردع والاعتبار والإصلاح. يترتب عن ذلك أن فهم السنة النبوية الشريفة كأول تطبيق للوحي في الزمان لابد أن يكون مطابق مع الحس والعادات حتي تكون الرواية متجانسة في الزمان ويقع تخليصها من الابتداع والوضع ولذلك قد تبدو روايات الإسراء والمعراج والخلق مخالفة للعادات والتجربة الحسية وبالتالي لا تصلح كقاعدة لاستنباط الأحكام. أما مبدأ الإجماع فيستنبط منه الأستاذ شرعية المعارضة وضرورة احترام الآراء المخالفة عندما يعرف الإجماع الحقيقي علي أنه إجماع الأمة ويعتبر هذا الإجماع ناقصا لو كان هناك رأي واحد مخالفا لما وقع الاتفاق عليه وهنا ينبغي الأخذ برأي الأقلية وعدم الاحتكام دائما إلي رأي الأغلبية لأن الأمة يمكن أن تجتمع علي ضلالة ويكون الحق مع أحدهم وكما قال علي :لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الرجال بالحق وبالتالي ينبغي نقد منطق الفرقة الناجية والنظر إلي أن الحق قد يكون مع الفرق الأخري التي عدت باغية ومارقة لأن الحق علي المستوي النظري متعدد وعلي المستوي العملي واحد. يبقي الاجتهاد من القضية الأولي وفي هذا الشأن يعتز حنفي بالعقل ويراه أساس الحكم الفردي ويري أن كل إنسان لما فيه من جبلة عقلية وإرادة مسؤول عن التشريع وعن تطبيقه مسؤولية فردية ولا يفرق هنا بين الاجتهاد والقياس والاستصحاب والاستحسان والاهتداء بشرع من قبلنا لأن هذه العمليات كلها حركات ذهنية الغاية منها استنباط الأحكام عن طريق البينة والحجة وتقديم أجوبة واقعية لأسئلة راهنة.القضية الثانية التي يعالجها الجزء الثاني من الكتاب والتي تعد أحد أساليب التجديد هي التحليل اللغوي للنصوص أو المنطق اللغوي وقد قسمه الكاتب إلي أربع دوائر:- المنظوم وهو جواب عن سؤال كيف وقع نظم النص؟،إذ هناك في النص انتقال من معني إلي آخر طبقا للمصالح العامة واللغة تسمح بحرية الحركة. - المفهوم وهو جواب عن سؤال كيف يفهم المرء النص؟،إذ المعني في النص مستقل عن اللفظ وهو أساس استنباط الأحكام.- المعقول وهو جواب عن سؤال كيف يعقل المرء النص؟،إذ لا بد من الربط بين الحكم والشيء الخارجي عن طريق العلة التي تستنبط بالتجربة.- المنظور وهو جواب عن سؤال ماهي زاويا النظر المختلفة للنص؟،إذ لا يوجد رأي واحد في فهم النص ولا يوجد صواب واحد في علم أصول الفقه بل هناك مجموعة من وجهات النظر المتكافئة حول نفس المسألة وبالتالي لا يجوز أن أحاكم اجتهاداً باجتهاد بل الكل له حق الاشتغال علي النص دون أن يكون لأحد المرجعية المطلقة. هنا ينتهي إلي التشريع للتعددية في الاجتهاد وفي الحكم ويقضي علي الشمولية في مهدها الفقهي الذي طالما اعتصمت به طيلة قرون كاملة وأسدلت عليه معيار العفة واللغة المقدسة.القضية الثالثة التي يعالجها الدكتور حنفي هي استنباط الأحكام من أجل العمل والتي يعرف فيها الشريعة بأنها ليست أحكاما ولا حدودا بل هي مقاصد و يميز فيها بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف وبين أحكام الوضع وأحكام التكليف،فالمقاصد هي أربعة:- وضعت الشريعة ابتداء - وضعت الشريعة للامتثال- وضعت الشريعة للإفهام- وضعت الشريعة للتكليفإن التكليف حسب حنفي ليس إكراها ولا إجبارا بل هو نداء واختيار عن طريق الاقتناع والاهتداء ولا يأتي إلا احتراما للعقل والمصلحة الإنسانية ويميز بين أحكام الوضع التي تقوم علي العزيمة أو الرخص والشكل والمضمون وتشترط النية في الطبيعة والسلوك ويري أن كل حكم له سبب وشرط ومانع. أما أحكام التكليف:الفرض والمحرم والمندوب والمكروه والحلال فهي تيسير وليست تعسير ومن الرخص وليست من الشدائد لانها تتعالي علي منطق الثنائيات الميتافيزيقية حلال/حرام أو خير/شر وتعترف بأن حرية الإنسان تكمن في قدرته علي اختيار الفعل أو تركه لأن الأشياء في الأصل الإباحة والشريعة ليست جبرا بل منهاجا وشرعة. ويشغل حنفي مقولة التحسين والتقبيح الاعتزالية ويري أن الحلال هو النافع والحرام هو الضار فالقتل بغير حق مضر بالمجتمع ولذلك فهو حرام والمحافظة علي البقاء نافع بالمجتمع ولذلك فهو حلال ويركز كذلك علي مقاصد الشريعة ويدافع عن الضروريات الخمس بوصفها منظومة حقوق الإنسان وهي الدين أوالحياة والعقل والعرض والمال. عديدة هي المكاسب التي حققها هذا الكتاب وعديدة هي المزايا التي أنجزها بالنسبة للأجيال القادمة أولها أنه قام بجمع وتأليف أغلب المدونة الفقهية التي كتبت في الأصول،ثانيها أنه قدم الخيط الهادي والفكرة الناظمة التي تربط بين مفاصل هذه المدونة، المزية الثالثة أنه قام بتبسيط وتوضيح مادة غلب عليها الغموض وغطت فيها الشروح والتفاسير الجدة والابتكار عند كل أصولي وبين مواطن التقليد ومواطن التجديد في كل مؤلف. من هذا المنظور يمثل كتاب من النص إلي الواقع رجة هائلة للعقل الفقهي الإسلامي أخرجته من غيبوبة المسائل الثانوية غير الواقعية إلي حضورية المسائل الأولية التي تطرحها التجربة التاريخية لسكان المعمورة بأسرها ولذلك انتهي الدكتور في خاتمة الجزء الثاني إلي الحديث عن امكانية تأسيس "علم أصول فقه مطلق" يضم جميع الأديان ويكون بمثابة نواة لقانون دولي تحتكم إليه الشعوب يعوض القانون الحالي الذي كتبته الدول المنتصرة في حروبها غير المتكافئة مع الدول النامية.الوعي التاريخي هو المطلب الذي ينشده حنفي بالنسبة للأمة من خلال إعادة بناء علم أصول الفقه وهذا لا يتم إلا باستئناف مؤسسة الإفتاء علي أسس عقلية نقدية واقعية صلبة تطلق حركة الاجتهاد وتعيد تأصيل الأصول لتعطي الأولوية للمصالح العامة علي حساب النصوص والحروف طالما أن الإسلام هو الوسيلة والإنسان أبين ما كان هو الغاية والإسلام جعل من أجل خدمة الإنسان فعوض أن نجند الناس من أجل الدفاع عن الإسلام فنعمل علي تجنيد مدخرات الإسلام وكنوزه من أجل الدفاع علي الناس والأرض والعرض، لكن المسلمة التي ينطلق منها الدكتور ويعتبرها بديهية ويبني من خلالها مشروعه التجديدي في أصول الفقه هي وجود مقاصد للشريعة يمكن للعقل البشري أن يدركها هذه المسلمة وقع مناقشتها ونقدها في فلسفة التأويل بعد شلايرماخر وديلتاي في مدرسة التأويل الألمانية وذكر البعض أننا لا نستطيع أن نضع أنفسنا مكان الله ونجزم بمعرفتنا بمقاصده في شريعته وبالتالي قد نقع مجددا في خطأ قياس الغائب علي الشاهد فنسقط مصالحنا التي نرغب في تحصيلها علي مقاصد الشارع فهل يمكن أن نري تجديدا آخر في علم أصول الفقه يتجاوز مقولة مقاصد الشريعة التي لم تعد التفسير التقدمي الوحيد للنص الديني؟
|
فكر
الإسلام وروح العصر
أخبار متعلقة