أضواء
عبدالعزيز خليل المطوع :في قوانين الطبيعة، عندما يضرب زلزال منطقة ما فإن ذبذبات الاهتزاز الناتجة عن الزلزال تنتقل عبر مادة الأرض الصلبة إلى مسافة معينة ثم تضمحل، وعندما يتبخر السائل فإنه يتحول إلى غاز، وهذا الغاز يبقى قابلا لأن يعود إلى حالته السائلة. أما أن يضرب زلزال مالي المؤسسات المالية الأميركية فتنهار البنوك في أوروبا الشرقية، أو أن تتحول تريليونات الدولارات إلى هباء منثور في غمضة عين، فهذا ما لا يصدقه إلا الذين ما زالوا يعتقدون أن طالبان هم الذين نفذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ومع ذلك، فإن الصناعة المصرفية لها قوانينها التي تختلف بعض الشيء عن قوانين الطبيعة، ومن ذلك أن الأموال تطير فيما بينها ولو تباعدت بينها المسافات، ولا تنتقل ببطء إلى المناطق التي تجاورها كما هو شأن المياه الجوفية، كما أنها تقوم فيما بينها بسلسلة متشابكة من التداينات إلى أن تنتهي في العادة إلى المصارف الجدّات ومقارها في الولايات المتحدة أو الهيكل الأعظم للصناعة المصرفية. قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت كل التقارير الاقتصادية والإعلام الاقتصادي وآراء دهاقنة الاقتصاد وسدنته تطوف حول الاقتصاد، ولا تتردد عن وصف الاقتصاد الأميركي بأنه مركز الثقل والمحرك الأوحد للاقتصاد العالمي؛ إنها آراء تتحدث بلغة الأرقام. كأرقام الناتج المحلي الإجمالي ومعدل النمو السنوي وحجم التبادل التجاري والموازنة العامة السنوية للدولة (الإنفاق العام)، إلى غيرها من الأرقام التي يحق لأميركا بموجبها أن تستأثر بـ 60 % من الثقل الاقتصادي العالمي المدعوم بعملة يثق العالم فيها كورقة أكثر مما يثق في غيرها من العملات كسبيكة من الذهب. هذا الاقتصاد الفولاذي المتترس وراء أقوى آلة عسكرية عرفها التاريخ، ووراء أقوى نفوذ سياسي، هو الذي اجتذب مليارات المليارات من المصارف ومؤسسات المال والاستثمار العالمية، ثقة في قدرات الاقتصاد الأميركي وفي المؤسسات المالية والاستثمارية الأميركية على تحريك تلك المليارات الممليرة لتتوالد منها مليارات جديدة يبتلعها المارد الأميركي ليزداد انتفاخا وعنفوانا . بينما يرمى بفتاتها إلى أصحاب أصل رأس المال الفرحين أو القنوعين بذلك الفتات، فهم يعتبرون ما سُرق منهم عنوة ثمنا عادلا لشراء هدوء بالهم، وعوضا مناسبا للتخلص من كثرة التفكير والمخاطرة؛ لقد كان هذا الاقتصاد الساحر وأداؤه الرفيع فاتحا ممتازا لشهية الطمع واللهاث وراء بريق الثروة، فلم تكلف الأموال المهاجرة نفسها عناء الانتباه إلى مقدار الحقيقة والخيال في هذا الفردوس المالي، على الرغم مما تعصف به من الكوارث والمفاجآت غير السارة. لقد كانت فضيحة انهيار (إنرون)، شركة الطاقة العملاقة التي لم تشفع لها مساندتها الرئيس بوش في حملته الانتخابية التي أوصلته إلى المكتب البيضاوي، مفاجأة ثقيلة العيار بحق، فتهاوت بين عشية وضحاها كجبل من الجليد لتطحن تحتها أضلاع (آرثر أندرسون) أحد الأساطين الأربعة في تدقيق الحسابات. ولكن الكثيرين لم يقرأوا الكثير مما كان بين سطور هذا الانهيار المدوي، وأهم ما كان بين تلك السطور هو: من أين للفساد الإداري باعتباره المتهم الأول في القضية أن يتسرب إلى شركة بهذا الحجم وبهذا التنظيم الإداري الفخم وبهذا الدعم الذي تسبغه المؤسسة السياسية عليها لينخر عظامها، وفي دولة يسودها القانون والأنظمة الرقابية المعقدة والمشددة؟. ثم لم تمهل أميركا العالم طويلا ليلتقط أنفاسه ويبتلع تلك المفاجأة حتى فجرت له مفاجأة تخفيض سعر الفائدة إلى مستويات تاريخية، ذلك التخفيض الذي لم يأت نتيجة توبة نصوح أو صحوة روحية يتبرأ بها كهنة الصناعة المصرفية من الرّبا، بل لإنقاذ اقتصاد آخر الإمبراطوريات من الانهيار على تداعيات مغامراتها الأرسين لوبينية في أفغانستان والعراق على إثر حقبة انتعاش طوال الفترة الرئاسية الكلينتونية. فقد ناء كاهل الخزينة الاتحادية بفاتورة تلك المغامرات العسكرية المفبركة، وخُفّي حنين (قياسا بما بنت أميركا توقعاتها عليه) اللذين عادت بهما أميركا من أفغانستان والعراق وحقنت بهما اقتصادها مما أسعفها الوقت على اختلاسه من ثرواتهما لم يغطيا تكلفة الحرب الباهظة. بنفس هذه المنهجية الجهنمية في افتعال الأحداث المفاجئة، أحسنت أميركا استغلال أزمتها العسكرية فنوّعت أساليبها وتكتيكاتها في الترويع والتركيع من خلال تمرير مسلسل حيلها وألاعيبها المالية والاقتصادية المعتمدة على التلاعب بأدواتهما وآلياتهما بدءا بتخفيض أسعار الفائدة، إلى تخفيض قيمة الدولار. إلى التحكم في أسعار النفط لتضييق الخناق على الاقتصادات المنافسة، إلى ابتكار أدوات ائتمانية تقتنص بها مدخرات الحمقى ممن لم ولن يفهموا حقيقة تلك الأدوات، إلى تفجير أزمة الرهن العقاري، إلى إلزام حلفائها بتوقيع اتفاقيات غير متكافئة للتبادل التجاري، وتمكنت بتنويع التكتيك من الدفاع إلى الهجوم وبالعكس من أن تبقى الرابحة والمسيطرة دائما. وهكذا، وعلى طريقة انهيار برجي مركز التجارة العالمي لتدشين الحرب على الإرهاب، وقع الانهيار المالي الأخير على أوساط المال والاقتصاد كالصاعقة، وتفجرت شرايين الأوراق المالية في البورصات الأميركية والعالمية حتى ضرّجت دماؤها شاشات التداول في نزيف لم تشهده أسواق المال منذ أكثر من عشرين سنة، في مفاجأة أو قل صدمة جديدة من المفاجآت والصدمات المتوقع أن يفتح العالم عينيه على المزيد منها دون سابق إنذار. ولكن من قال إن ما حدث حتى الآن يجب أن يكون انهيارا بالضرورة، إننا لو استعرنا قوانين الطبيعة فقد ندرك أن تريليونات الدولارات التي تبخرت من مؤسسات الائتمان، لابد وأن يكون قد أعيد تكثيفها في مكان آخر وعادت نقودا كما كانت، أما لماذا هذا اللف والدوران فالإجابة عند الدَّيْن العام الأميركي ذي الأرقام الفلكية المرعبة. الذي جاء تمويلا من المصارف ومؤسسات الإقراض والتمويل وصناديق معاشات التقاعد، ليذهب نفقة على البذخ والتبذير العسكري، ولهذا فإنه عندما تعجز الدولة المستلفة عن الوفاء بالفوائد المترتبة على ديونها ناهيك عن الوفاء بأصل الدَّيْن؟ فإن تقويض المؤسسات المالية وتبخير التريليونات لتسهيل شفطها يصبح ثمنا بخسا يستحق المجازفة. فكما سبق وأن لفّقت كارثة ذهبت ضحيتها بضعة آلاف من الأرواح وبرجان شامخان ثمنا للتوسع السياسي والعسكري، فلا بأس إذن من أن تلفق كارثة جديدة تذهب ضحيتها هذه المرة بين إفلاس وإغلاق بضع مؤسسات مالية عريقة كانت متخمة بالأموال الآتية من مشارق الدنيا ومغاربها، ثمنا لإغلاق الدين وتسوية رصيد فاتورة الحرب. المشهد الأخير: البنوك والمؤسسات الائتمانية تخسر والحكومات تعيد حقنها بما خسرته، بهذه التراجيديا المالية يكون ما خسره العالم مجرد ضريبة صغيرة أو مكس تفرضه أميركا عليه بطريقة لصوصية رغم أنفه، ثمنا لخطيئته يوم أعطاها الضوء الأخضر والشرعية الدولية لتشعل الحروب على هواها، ولتسقط الأنظمة السياسية باسم ديمقراطيتها السينمائية. [c1]*عن/ صحيفة (البيان) الاماراتية[/c]