ثورة 26 سبتمبر
تعرض اليمن الطبيعي منذ القرن التاسع عشر للاحتلال الاستعماري البريطاني في عدن والجنوب اليمني والاحتلال العثماني في صنعاء وشمال اليمن.وعندما خسرت تركيا الحرب العالمية الأولى، كونها تحالفت مع ألمانيا ضد الحلفاء، بريطانيا وفرنسا، قام والي صنعاء محمود نديم بعقد اتفاقية (دعان) مع الإمام يحيى حميد الدين وتم بموجب هذه الاتفاقية منح اليمن استقلالها وتم تسليم الإمام يحيى كل مقدرات القوات العثمانية التي كانت متواجدة في صنعاء وبقية المناطق اليمنية من أسلحة ومدفعية ومعدات وذخائر ومعسكرات وقلاع وحصون، أما قائد حامية لحج العقيد سعيد باشا فقد ناشد الإمام يحيى إرسال قوات لاستلام منطقة لحج ولم يوافق الإمام يحيى وكانت النتيجة تسليم الحامية العثمانية للقوات البريطانية المنتصرة المحتلة لعدن.ومن خلال المراسلات بين الامام يحيى والحاكم البريطاني بعدن ـ وهي موثقة في كتب المستشرقين وفي الخارجية البريطانية ـ نجد أن الإمام يحيى ضيع على بلاده فرصة التفاهم مع بريطانيا، المسيطرة على منطقة الشرق الأوسط كاملة بما في ذلك الجزيرة العربية، وقد فشل الحوار بين الإمام وبريطانيا مما سبب اشعال الفتنة من قبل الانجليز واستمرار الحرب الباردة غير المعلنة على دولة الإمام يحيى حتى بلغت ذروتها في احتلال بريطانيا لمدينة الحديدة وجزيرة الصليف والضرب بالطائرات البريطانية لمدينة صنعاء ويريم وقعطبة والنادرة وغيرها، وكذلك مساعدتها للادريسي/ حاكم جيزان ضد دولة الإمام، وكذلك مساعدة الملك عبدالعزيز آل سعود في توسيع نفوذه على حساب اليمن، والتي انتهت بالحرب اليمنية ـ السعودية عام 1934م، ونتيجة الدعم البريطاني اللامحدود لابن سعود هزمت قوات الإمام يحيى وانتهت الحرب اليمنية ـ السعودية باتفاقية الطائف المعروفة للجميع. وفي جنوب اليمن بسطت بريطانيا نفوذها من خلال الاتفاقيات المشينة مع مشايخ وسلاطين تلك المناطق برغم المعارضة القبلية والشعبية في الجنوب للنفوذ الاستعماري البريطاني، وقد تمردت معظم قبائل الجنوب من أطراف حضرموت إلى الرجاع ولحج وأبين ويافع وشبوة وتعرضت للقصف بالطيران، بدون رحمة، طيلة الوجود الاستعماري في الجنوب حتى عشية الاستقلال.أما في صنعاء فقد نادت حركة الأحرار الإمام يحيى بالإصلاح فلم تجد هذه الدعوة أذاناً صاغية، بل لقد ظلوا ينادون ولكن لا حياة لمن تنادي.. فكان قيام ثورة 1948م بقيادة الإمام الدستوري عبدالله بن احمد الوزير، وكان أبرز أدبياتها الميثاق المقدس وتشكيل مجلس شورى.. الخ ونتيجة للجهل والتخلف والعزلة التي كانت تعيشها صنعاء فقد عاشت الحكومة الدستورية قرابة 27 يوماً فقط فانقض عليها أنصار أسرة آل حميد الدين بعد أن أباحها الإمام أحمد الذي نصب نفسه إماماً بعد أبيه، فجرى في صنعاء من النهب والسلب والتشريد ما يشيب له الوليد، واستمر هذا النهب والتهريب في مدينة صنعاء قرابة أسبوع كامل حتى تحولت المدينة أنقاضاً مازالت آثارها ماثلة للعيان إلى يومنا هذا، وسيق أحرار 48 إلى السجون والمعتقلات وتم إعدامهم في أماكن متعددة من صنعاء وحجة وتعز والحديدة، وظن الإمام احمد انه قد قضى على خصوم أسرته الى الأبد، وكان العكس هو الصحيح إذ انقلب السحر على الساحر وخرج من رحم هذه الأمة ومن رحم نكبة 48 جيل جديد صاعد شاهد بعينيه هذه المذبحة المأساوية.ولم تمض سوى سبع سنوات حتى حاصر الجيش (الحافي) بتعز بقيادة المقدم البطل احمد الثلايا قصر الإمام احمد وأرغمه على التنازل عن العرش لأخيه عبدالله بن يحيى حميد الدين، لكن بمكره ودهائه المعهود استطاع الإمام احمد أن ينقض على الثوار وكان مصيرهم الإعدام في ميادين تعز وحجة وصنعاء.. وتعاظم الوعي الشعبي ودخل اليمن الراديو الذي فتح لليمن نافذة جديدة الى العالم المعاصر، عالم القرن العشرين وجاءت ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952م واستمرت محاولات الإطاحة بالإمام احمد من خلال (سعيد) الملقب (بابليس) وحميد بن حسين الأحمر ووالده الشيخ حسين الأحمر ومن خلال مشائخ اليمن من آل الشايف وآل ابو رأس وغيرهم وكان مصير الجميع هو الإعدام أيضاً.. وجرت محاولة لاغتيال الإمام احمد في الحديدة من قبل الأبطال عبدالله اللقية ومحمد العلفي ومحسن الهندوانة فسقط احمد (ياجناه) مضرجاً بدمائه وظل طريحاً مثخناً بالجراح حتى توفي في 18 سبتمبر عام 1962م.ومنذ عام 1956 الى 1962م قام طلاب المدارس في صنعاء وتعز وعدن بمظاهرات صاخبة مطالبة دولة الإمام احمد بالإصلاح واللحاق بركب التقدم وكان مصيرها القمع والسجون والمعتقلات واحتلال المدارس بعساكر الإمام، ولم يكف هؤلاء الشباب عن النضال الدؤوب بالقلم واللسان والإصرار.. وشاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تحصل اليمن على أسلحة حديثة من تشيكوسلوفاكيا نتيجة العدوان البريطاني المتواصل على الجنوب وعلى مناطق الأطراف مع الجنوب مثل الصومعة التي هدمت والبيضاء وحريب وقعطبة تمهيداً لتنفيذ المخطط البريطاني ضد القضية اليمنية برمتها وكان من نصيب بعض هؤلاء الشباب الالتحاق بالكلية الحربية ومدرسة الأسلحة والتدرب على الأسلحة الحديثة، وكان هؤلاء الفتية قد نضجوا مبكراً وشخصوا القضية اليمنية برمتها من خلال استقراء التاريخ وما عاناه الشعب اليمني الأصيل على أرضه وتحت سمائه حتى بلغوا ذروة اليقين الثوري.. وبعد حوار ناضج مع الإخوة والآباء من ضباط الجيش اليمني فكان التجاوب منهم منقطع النظير وعلى بركة الله انتقل الجميع الى مرحلة العمل السري الجدي فكان تأسيس تنظيم الضباط الأحرار/ المجموعة الأولى التي تسنى لها الحضور في 11 ديسمبر عام 1961م إلى صنعاء.وبزغ الأمل مرة أخرى ولكن هذه المرة من خلال تنظيم الضباط الاحرار الذي حدد أهدافه ورؤيته للمستقبل اليمني من منظور يمني وعربي وإسلامي وعالمي يرتكز على أهداف ستة هي:1/ التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.2/ بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها.3/ رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً.4/ إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمداً أنظمته من روح الإسلام الحنيف.5/ العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة.6/ احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم.وكان على التنظيم أن يعد أدوات التغيير من الرجال، من ضباط وصف ضباط وجنود وأن يعد العدة من الأسلحة المتاحة لعملية التغيير وكذلك من الذخائر.. وكان التنظيم على صلة بالوطنيين والأحرار من المثقفين والسياسيين والمشائخ والعلماء والتجار الوطنيين والتنظيمات السياسية الناشئة.وعندما حددت قيادة تنظيم الضباط الأحرار ساعة الصفر قام الإخوة الأبطال المشاركون في الثورة بالتحرك إلى مواقعهم بشجاعة نادرة اندلعت معركة حامية بين قوة الثورة والقصر الملكي وأنصاره واستمرت قرابة اثنتي عشرة ساعة، انتهت بانتصار الجمهوريين وقيام الجمهورية العربية اليمنية الأمل الجديد لليمن وللأمة العربية جمعاء.وتوالى تأييد الثورة من كل أنحاء اليمن وبالأخص من عدن المدينة الخالدة التي احتضنت الأحرار منذ الأربعينات حتى قيام ثورة 26 سبتمبر وكان أول قرار اتخذته قيادة الثورة تشكيل جيش شعبي تحت اسم (الحرس الوطني) وفتحت فروعه في تعز وصنعاء، وقد هب كالبركان أبناء الجنوب فوصلوا الى تعز وصنعاء في زمن قياسي مؤيدين ومباركين قيام الجمهورية وشكلت منهم سرايا الحرس الوطني وتم تسجيلهم وإرسالهم مع اخوانهم من أبناء الشمال إلى المناطق الشمالية الغربية للمشاركة في التصدي للهجمة الاستعمارية الرجعية الشرسة، وفتحت حكومة الثورة الكليات والمدارس العسكرية المختلفة في صنعاء وتعز وأرسلت البعثات الى مصر والاتحاد السوفيتي والعراق، وكانوا يمثلون مختلف المناطق اليمنية الى درجة ان الكلية الحربية في صنعاء استوعبت 50 % من منتسبيها من أبناء الجنوب اليمني المحتل و50 % من الجمهورية العربية اليمنية، وكانت الحملة المعادية لليمن شرسة جداً إذ فتحت جبهات قتال في أكثر من أربعين جبهة، وفي يوم الرابع عشر من أكتوبر عام 1963م كان شعبنا على موعد آخر مع القدر إذ بدأت المعركة المسلحة من جبال ردفان الشماء بقيادة البطل الشهيد راجح لبوزة، وقد كلفت قيادة الثورة في صنعاء كلاً من الإخوة الشهيد/ احمد بن احمد الكبسي ومحمد حاتم الخاوي وحسين شرف الكبسي وعلي علي الحيمي وعلي محمد السعيدي واحمد الفقيه وعيدروس القاضي وغيرهم بالتنسيق مع الثوار في الجنوب وتوفير الامكانيات المتاحة لهم من أسلحة وذخائر وأموال ورجال.كما منحت وزارة الدفاع في صنعاء للضباط والصف والجنود الذين هم أصلاً من الجنوب اليمني إجازة مفتوحة للقتال مع اخوانهم في الجنوب واستمرت مرتباتهم وحقوقهم كسائر زملائهم العاملين في صنعاء.وقد حصلت الجمهورية العربية اليمنية على قرض تشيكي أثناء زيارة الرئيس المرحوم المشير عبدالله السلال تم بموجبه الحصول على إذاعة جديدة تم تركيبها في الجند بتعز لتكون على مقربة من الجنوب وأدت واجبها خير أداء في إلهاب حماس الثوار والمجاهدين ضد الاستعمار وعملائه.كما جرت مفاوضات سرية بين صنعاء وبريطانيا (وبطلب بريطاني) وعد الانجليز بموجبه بالاعتراف بالجمهورية العربية اليمنية ومساعدتها شريطة أن توقف اليمن دعمها ومساعدتها للثوار في الجنوب اليمني وطبعاً هذا يتعارض مع أهداف الثورة اليمنية الغالية والتي أهمها التحرر من الاستبداد والاستعمار.. الخ.وأتذكر زيارة قمت بها لمدينة البيضاء ومعي عدد من الزملاء الضباط وذلك عقب فشل مؤتمر حرض، من ضمنهم الأخ المناضل الملازم أول علي عبدالله صالح ضابط تسليح مدرسة المدرعات حيث سلّم الإخوة عيدروس القاضي وحسن الشوذري كمية من الأسلحة الخفيفة والذخائر والبوازيك والألغام في حدود حمولة (لوري فورجو) فقاموا بايصالها الى مناضلي ومجاهدي حرب التحرير في ذلك القطاع من الجنوب اليمني.ورغم الاختلاف والتباين في الأفكار في الصف الجمهوري إلا أن الجميع كان متمسكاً بالثوابت الوطنية التي ارتكزت عليها الثورة اليمنية وهي واحدية الثورة اليمنية، جمهورية الى الأبد، الجمهورية أو الموت، الوحدة الوطنية، ونعني بالوحدة الوطنية وحدة كامل التراب اليمني وأن اليمن عبر التاريخ يمن واحد لا يمنان.إن المؤامرة الخارجية على اليمن بشطريه قد تحطمت بفضل التقاليد الثورية والوطنية المجيدة التي تحلت بها قيادتا الشطرين والتي انتهت بإعلان دولة الوحدة وقيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م هذه الجمهورية الفتية الغالية جاءت لتحمي شعبها ولا تهدد أحداً تصون ولا تبدد، تجمع ولا تفرق، تبني ولا تهدم، جاءت ومعها الديمقراطية الهدف الثالث من أهداف ثورة 26 سبتمبر والتعددية الملتزمة بالقيم النبيلة والثوابت الوطنية التي أجمع عليها شعبنا اليمني في مسيرة كفاحه الطويلة.وإذا قارنا بين الماضي الإمامي والماضي الاستعماري السلاطيني نجد أن النظام الجمهوري، في زمن قياسي، لا يتعدى أربعين عاماً قد حقق للشعب اليمني إنجازات في الخدمات الاجتماعية والثقافية والصحية والاقتصادية والفكرية والسياسية ما لم يتحقق خلال ألف عام من حكم الأئمة لليمن.أما دولة الوحدة فهي الشمعة المضيئة الوحيدة في عالمنا العربي المحبط، والوحدة اليمنية مازال أمامها مهام شاقة في المراحل القادمة وهي ترسيخ العدل الذي هو أساس الحكم والأمن والتنمية والتركز على التنمية لأنها هي اساس كرامتنا ورخائنا واستقرارنا في المستقبل والاستمرار في بناء الإنسان اليمني الذي هو الغاية والوسيلة.وما دامت بلادنا في أيد أمينة وعلى رأسها الأخ رئيس الجمهورية اليمنية علي عبدالله صالح فان القافلة بإذن الله ستسير بخطى سريعة نحو التقدم والتنمية والرقي ولان الاخ الرئيس القائد ـ حفظه الله ـ قد أكد في أكثر من مناسبة وناشد المناضلين الأحياء والأحرار والمجاهدين، ناشدهم جميعاً أن يدونوا تاريخ الثورة قبل أن يرحلوا من الحياة الفانية الى الحياة الدائمة حتى تتمكن الأجيال الصاعدة من معرفة ما دار في هذه المرحلة الصعبة وانه لولا التضحيات الجسام لما انتصرت الثورة التي انتهت بإعلان دولة الوحدة وقيام الجمهورية اليمنية.حقاً ان هذا الجيل هو جيل التضحية والفداء وقد سبقنا الى الخلود اخوة أعزاء كرماء انهم شهداء الثورة اليمنية أكرم بني البشر في شعبهم جزاهم الله خير الجزاء.