من أكثر الرسائل «لغريبة» التي أتلقاها كل حين على بريدي الالكتروني، رسالة من شخص غريب غامض، يتحدث بكل لباقة و«شياكة»، وكرم يتجلى من خلال تزويدي بروابط الى مواقع اخرى. رسائله مرتبة جدا، ومزينة بصورته وهو يرتدي ملابس »كاجوال«، هذا »الحبيب« يعرّف نفسه بأنه «المهدي المنتظر»!الرجل مقتنع جدا، ويتحدث بكل يقين، ويكتب بكل هدوء وبدون تشنج او حماسة ملحمية، وكأنه يحدثك عن هطول أمطار على لندن، او ثلوج على كندا، اي أن عليك أن تستقبل تعريفه كمعلومة معتادة جدا.لنتحدث بجد أكثر، هناك من يعتقد أن المهدي المنتظر على وشك الخروج، كل كما يرى شكل ومواصفات وأولويات هذا المهدي...فمهدي الشيعة يختلف عن مهدي السنة، وبطبيعة الحال عن مهدي الطوائف الأخرى.من هؤلاء المتحمسين، ولكنهم ليسوا، والحق يقال، بشياكة صاحبنا «الكاجوال»، مولانا مقتدى الصدر، الذي اشتهر بمواقفه الساخنة، وصورته الشهيرة التي يحملها اتباعه، وهو يشير بسبابته المشدودة وعيناه ترمقان بحدة واتساع، ومكتوب على الصورة بخط يراه الاعمش: «هيهات منا الذلة».السيد، الشاب، مقتدى الصدر، نقلت الانباء عنه اثناء زيارته للكويت الاسبوع الماضي قوله: «القوات الأميركية لم تأت إلى العراق من أجل السنة أو الشيعة، وإنما جاءت وفق معتقدات أيديولوجية يمينية غربية، للتصدي لخروج المهدي المنتظر من العراق».شخص آخر، قريب الصلة بـ«سيدنا» الصدر، أعني الصلة الفكرية والذهنية، الرئيس الايراني المتحمس، أحمدي نجاد. ففي كلمته التي ألقاها في السادس عشر من نوفمبر الماضي أمام حشد ديني في ايران، قال إن المهمة الرئيسية لحكومته تتلخص في «تمهيد الطريق للعودة المجيدة للإمام المهدي». ومما يتناقله بعض الايرانيين، من باب التندر ربما، أن أحمدي نجاد قام أثناء توليه منصبه كمحافظ لمدينة طهران، بإعادة تخطيط المدينة لكي تليق بعودة الإمام.طبعا الأمر مع احمدي نجاد، الذي يسعى الآن الى التسلح بالحراب النووية، لا يصبح باعثا على الابتسام، بل على القلق والوجوم. فالتاريخ يحدثنا أنه يمكن للمؤمنين بأفكار موغلة في غيبيتها، أن يمسكوا بدفة التاريخ، ويصنعوا مساره رغم أنف الواقعية، وأهل الواقعية، بل انهم هم يصيرون أهل الواقعية، ما دام ان الواقع هو ما يتحقق فعليا!هوس «المهدوية»، والتنبؤ بحلول ملحمية ولا طبيعية تتدخل على مسار التاريخ والسياسة، ليس حكرا على امثال مقتدى الصدر، الذي يعتقد ان القوات الامريكية انما جاءت من اجل الحيلولة دون ظهور المهدي، او احمدي نجاد الذي يعتقد انه، وبكل سياساته ووجوده اصلا، ليس الا تمهيدا لظهور المهدي، وان هالة من النور كانت تحيط به أثناء إلقاء خطابه في الامم المتحدة، وليس حكرا أيضا على المسلمين، ولهذا قصة أخرى.. وبالعودة الى حديثنا، فهناك نماذج كثيرة في الحاضر والغابر، بعضها محزن وقاس، وبعضها طريف ويدخل في باب النكات، وقصصهم وجدت طريقها الى كتب النوادر تحت اسم «نوادر المتنبئين»، خصوصا في عهد الخليفة العباسي «المهدي»، والذي كان هو بدوره أحد مدّعي المهدوية، حسب مخطط والده الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور، من اجل إكسابه هذه الصفة الملحمية المسيطرة بسلطان التفويض الالهي، وصفه بذلك ومنحه هذه الخاصية من أجل قطع الطريق على خصومه من العلويين الذي يرون انهم هم معدن المهدوية. وتقول الاخبار المروية ان مهدي آخر الزمان منهم. المفارقة ان العباسيين انما خرجوا في ظل عباءة شرعية العلويين، وثاروا باسم »الرضا من آل محمد«، وهو الشخص الذي كان الناس يتكتلون ضد الامويين حوله، دون الافصاح عن اسمه علانية، خوفا من بطش الامويين وحرصا على السرية. فلما نجحت ثورة العباسيين، نكلوا بالعلويين، أضعاف ما فعل الامويون، ويكفي ما صنعه المنصور في ابناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب، من مجازر.هي السياسة، قاتلها الله، تتوسل بكل شيء، حتى بالنقي من المعاني، من أجل غايتها، ففكرة المهدي، بصرف النظر عن معناها المباشر او الحرفي، هي تعبير عن الشوق الانساني العارم الى العدالة.والعبرة من هذا الحديث، ان السياسة لها شروطها، والمواعظ واخبار آخر الزمان لها مجالها. لأن الغيب لا يعلمه الا الله.والمشكلة ان كثيرا من الساسة يحاول ركوب خيل الشرعيات التي تخلقها بعض الاثار والنصوص الدينية المروية، يستغلونها من اجل حماية شرعيتهم، والقول بأنهم تجسيد حي لارادة الله، وانهم يتصلون بقوة علوية تجعل قدرتهم غير قابلة للمقاومة، فهي من الله مباشرة، ولذلك فإننا نجد أغلب المتصفين بشيء من هذه الصفات الغيبية في السياسة، هم أهل بطش ودموية اثناء الحكم، بل ربما يشعرون براحة ضمير داخلية لأنهم أمناء على ارادة الله. كما كان الشأن في الماضي مع مؤسس دولة الموحدين »ارهيب«،المهدي بن تومرت، او غيره.وفي الوقت المعاصر، ألصق كثير من اللاعبين في ميدان السياسة، سواء من الذين يحكمون او من الذين يعارضون الذين يحكمون، بنفسهم نوعا من هذه الصفات والسمات الالهية. ففي السودان، نجد محمد بن أحمد (الشهير بلقب المهدي) الذي ولد في جزيرة «لبب» بالقرب من مدينة دنقلا، 1844، يركب هذا المركب، او يحمله اتباعه على هذا المركب، تحت حجة ان هناك احاديث تبشر بخروج المهدي اخر الزمان، وانه يملأ الارض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما. وبصرف النظر عن صحة هذه الاثار من عدمها (للأمانة اغلبية علماء السنة وكل علماء الشيعة يعتقدون صحتها، ربما باستثناء عالم الاجتماع ابن خلدون الذي كان ينكر صحة هذه الاحاديث، من القدماء، ومن المعاصرين الشيخ عبد الله ال محمود مفتي قطر السابق، وقلة قليلة).لكن، بصرف النظر عن الصحة من عدمها، فإن «تعيين» الاخبار الغيبية بشخص محدد يعد ضربا من التخرص، ويقود الى كوارث بشرية ومآس انسانية، كما حصل مع حركة جهيمان العتيبي 1979 التي احتلت الحرم المكي 15 يوما، ووقعت مصادمات حصدت عشرات القتلى، ثم أعدم هو وعدد من مجموعته، وكان من ذرائع هذه المجموعة للقيام بهذا العمل، هو ان المهدي المنتظر الذي بشر به، موجود معهم، وتحدثوا عن الرؤى والمنامات التي رؤيت في صاحبهم، اضافة لعشرات الاحاديث التي كان خطيب المجموعة يتلوها من أمام الكعبة ومن ميكروفون الحرم!في هذا الصدد، ومن غرائب الاشياء التي وقعت في العلاقة ما بين الغيب السياسي، او المسيس، والواقع السياسي، وما أكثره، يحدثنا التاريخ القريب في الجزيرة العربية، ان أحد الامراء من اسرة آل رشيد، وهو أمير اتصف بالحزم والدهاء وطالت مدة حكمه، وهو الامير محمد بن عبد الله بن رشيد ،(توفي بحدود 1897)، قد بلغ من اعتقاد البعض به ان جعلوه هو »القحطاني« الذي ورد في بعض الأخبار أنه لا تقوم الساعة حتى يسوق الناس بعصاه. المهم ان هذا الامر عرض على أحد العلماء والفقهاء، وهو الشيخ سعد بن عتيق، فنفى ذلك في حينه، وقال: «وقع البحث الذي في الصحيحين، عن حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه»، فصرح بعض الحاضرين بأن القحطانيّ المذكور في هذا الحديث هو محمد بن رشيد، الذي خرج في أواخر المائة الثالثة بعد الألف من الهجرة، وعظمت شوكته وانتشرت دولته في أوائل المائة الرابعة (...) فسألني بعض الخواص هل يسوغ القول بما قاله القائل؟ وهل ينبغي الجزم به أم لا؟»، فكان مما جاء في جوابه: «اعلم أن قول القائل إنّ القحطانيّ المذكور في الحديث ، هو الرجل الذي وصفناه، لا شكأنه تعيين لمراد المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم». ثم قال: «وأمَّا الجزم بالتعيين (...) فلا يخفى بعده عن المُعلِم المفيد عند أهل المعرف».وأغرب من هذا، وفي الضفة السنية من هذه الحكاية الملحمية، انني وجدت من يتحدث عن أن «غزوات» بن لادن، أي جرائمه وتفجيراته في مشارق الارض ومغاربها، ليست الا تمهيدا لظهور المهدي المنتظر!نحن اذن أمام فوضى عارمة، اختلطت فيها سيول السياسة الملوثة، بطين الطمع ووحول الجشع، بمياه الدين الزلال، الذي يجب ان يكون للناس، كل الناس، وليس لأنصار هذا المهدي المزعوم ، أو اعداء ذلك المهدي الآخر.ترى هل نستطيع منع هذه القصة المحزنة بلوغ نهايتها، ونمنع معها بالذات، احمدي نجاد من ان يبايع المهدي على ظهر صاروخ نووي... شيء محيّر فعلا.*كاتب سعودي
|
فكر
الحاطبون في أحراش المهدي المنتظر
أخبار متعلقة