[c1]علي العميم*[/c]في السنوات الأخيرة، نشأ في المملكة العربية السعودية وبعض الدول العربية تقارب بين جمهرة من الاسلاميين وجموع من الليبراليين والقوميين واليساريين، نتج عنه قيام تحالف مشترك فيما بينهم، وكان هذا التحالف ذا طبيعة سياسية.فصدرت بيانات مشتركة، يكون البيان فيها اما بيانا للاسلاميين يشترك في التوقيع عليه قوميون ويساريون وليبراليون، واما بيانا للقوميين ولليساريين، يشترك في التوقيع عليه اسلاميون وليبراليون. آخر بيان مشترك صدر ضمن هذا التحالف السياسي الجديد، كان بياناً للاسلاميين، عنوانه (نداء وطني الى القيادة والشعب معا). على ضوء هذا التحالف السياسي الجديد، وعلى ضوء تغيرات حدثت في الخطاب الصحوي قبل ما يقرب من ست سنوات يعيد كتابة تاريخ السعوديين السياسي والاجتماعي والعقائدي من جديد. فنكتشف ان المطالب السياسية والاجتماعية التي كان ينادي بها الناصريون والبعثيون والشيوعيون في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات الميلادية هي ذات المطالب التي اصبح الاسلاميون يتبنونها ويطالبون بها في مطلع التسعينات! ونكتشف أيضا ان ثمة علماء ودعاة في خمسينات القرن الماضي وستيناته كانوا يشاركون الناصريين والبعثيين والشيوعيين مطالبهم السياسية والاجتماعية. يقوم البيان المشار اليه في مقدمة المقال على اقتباس شكليات ليبرالية، ويستلهم من ناحية المضمون جوهر الرؤية الاسلامية الأصولية المعاصرة، لكن على نحو مشوش ومضطرب، وينطلق البيان من مقدمات غير مسلم بها، ثم يقفز منها الى نتائج مغلوطة، ويقول في فقرة شيئا ويناقضه في فقرة أخرى. [c1]تعريف غير سياسي وغير مدني[/c] يقدم كاتب البيان تعريفا بالموقعين على البيان، ويكشف عن الدور المناط بهم وعن طبيعة الرسالة التي حملوا اياها من لدن الغيب. يقول كاتب البيان (ان الموقعين يؤمنون بدورهم في قول كلمة الحق، بل واجبهم ومسؤوليتهم (كذا) تجاه الميثاق الذي حملهم الله اياه في قوله تعالى: ( واذ اخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، من أجل ذلك يقدمون انفسهم على انهم دعاة للمجتمع الاهلي المدني، ودعاة للاصلاح الدستوري معا). أولا: من هذا التعريف الديني الاخلاقي نفهم ان الموقعين على البيان امناء على ميثاق الهي، فحواه كلمة الحق التي تقتضي ان يصدعوا بدعوتهم ويجهروا برسالتهم. هذه الدعوة هي، دعوة المجتمع الاهلي المدني وهذه الرسالة هي، رسالة الاصلاح الدستوري. كما نفهم ان غيرهم فعلوا كما فعل بنو اسرائيل بالميثاق الذي اخذه الله عليهم. تقول تتمة الآية التي استشهدوا بها (فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون). وأقل ما يقال في هذا التعريف انه تعريف غير سياسي وغير عقلاني وغير واقعي وغير مدني. ومن النافل التذكير بأن القيم العقلانية والتصورات الواقعية من مداميك المجتمع السياسي المدني واركانه. [c1]مغالطات في التفسير[/c] بعد ذلك التعريف تأتي فقرة توهمك انها ستدين العنف والارهاب، لكنها تدين شيئا آخر! تقول هذه الفقرة (انهم يدينون العنف بكافة أشكاله ومصادره داخليا وخارجيا، سواء أكان عنف دول وحكومات أم عنف أفراد وجماعات، ويرون ان انتشار عنف الجماعات قضية مركبة تحتاج الى تحليل عميق، يتجاوز رؤية ما ظهر فوق السطح وما استدعى لتبرير العنف من أفكار، لكي لا يغفلنا ذلك عن المسببات الجوهرية، ويرون ان مكونات العنف ليست ناتجة حصرا عن مناهج التعليم الديني وانما هي حتما احد افرازات غياب المشاركة الشعبية عن القرار الحكومي. ولن يجاروا وسائل الاعلام الصهيونية والأمريكية، التي تريد ان تبرئ ساحتها من ان تعاملها في فلسطين والعالمين العربي والاسلامي، هو السبب الخارجي في شيوع العنف، فتحاول تحميل الاسلام وقيمه ومناهج تعليمه فاتورة الغلو والتطرف، ولن يسوقهم تباطؤ الدولة في اتخاذ خطوات اساسية لتجسيد المشاركة الشعبية المطلوبة، الى الاحباط واليأس وتبرير مآسي العنف). [c1]التفسير الرسمي وغير الرسمي[/c] لاحظ ان الادانة هنا تتجه الى ما يعتقدون انه (المسببات الجوهرية) لانتشار عنف الجماعات، هذه المسببات هي: 1 ـ سبب داخلي يكمن في عدم اعتماد الليبرالية الدستورية في الهيكل السياسي لنظم الحكم . ونظرا لعدم اعتمادها الليبرالية الدستورية خرجت حركات عنف سياسي بررت عنفها من خلال أفكار دينية. 2 ـ سبب خارجي ويتمثل في اسرائيل وأمريكا، فبسبب (تعاملهما في فلسطين والعالمين العربي والاسلامي) لجأت تلك الحركات الى تبرير عنفها، ايضا، من خلال أفكار دينية. ولنناقش ـ الآن ـ ما جاء في الفقرة التي استشهدنا بنصها الكامل: [c1]أولا:[/c] لا يوجد في السعودية اتجاه يقول إن مكونات العنف ناتجة حصرا عن مناهج التعليم الديني، فالتفسير الحكومي الرسمي لمكونات العنف والتطرف الديني، هو ان مصدرها، مصدر خارجي. هذا المصدر هو فكر الاخوان المسلمين وحركة الجهاد في أفغانستان، وهذا التفسير لا يرى ان الفكر السلفي بمكونه التاريخي القديم وبمكونه الحديث، يمكن ان يقود الى تطرف ديني سياسي، وانطلاقا من هذه الرؤية أعادت الحكومة السعودية منذ احداث 11 سبتمبر النظر بمناهج التعليم الديني، فازالت عنها الصبغة الاخوانية، وزادت من الصبغة الوسطية فيها. ومنذ منتصف التسعينات شهدنا في المكتبات التجارية انحسارا في وجود كتب الاخوان المسلمين. بعدما كان فكر الاخوان المسلمين هو الفكر الرسمي والشعبي لدى قطاع عريض من السعوديين، وبالامكان القول ان المكتبات التجارية السعودية الى مطلع التسعينات كانت بمثابة (المكتبة الوطنية) لفكر الاخوان المسلمين ولكافة الادبيات الاسلامية المحدثة، رفيعها ومبتذلها. اما الجهاد الافغاني، فلقد تم رسميا نزع القداسة عنه منذ مطلع التسعينات فصار حربا بعدما كان جهادا مقدسا. ولقد استمر التفسير الحكومي الرسمي على ما هو عليه من ثبات الى اليوم. والمستخلص من هذا التفسير ان الخارج العربي والاسلامي وبالذات الفكر الاخواني وفكرالجهاد الافغاني هو الذي افسد على السعوديين دينهم وافسد عليهم سلفيتهم، فجنح بالسلفية في شق منها الى التطرف والتكفير، ونزح بها الى ان تتطور الى حركة عنف سياسي مسلح وارهاب سياسي ديني، محلي ودولي. اما التفسير غير الحكومي فيرى ان التطرف الديني بكافة أشكاله السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، مصدره مصدر محلي وخارجي. وهو لا يقول ان مكونات العنف هي ـ حصرا ـ ناتجة عن مناهج التعليم الديني. فهو، يضع مناهج التعليم الديني مكونا من بين مكونات متعددة ومختلفة. [c1]ثانيا:[/c] لنفترض جدلا، ان (مكونات العنف حتما هي احد افرازات غياب المشاركة الشعبية عن القرار الحكومي) لماذا لم تظهر حركة عنف سياسي ديني واحدة في الخمسينات والستينات الى منتصف السبعينات؟ ولماذا لم تتحول التجمعات الجبهوية من الناصريين والبعثيين والشيوعيين، والتي كانت ترفع لواء المطالبة بالتحديث السياسي والاجتماعي والثقافي، الى حركة عنف وارهاب سياسي؟ لماذا لم تتحول الى ذلك مع انها كانت هي المعنية بهذه المطالبة وهي التي تسعى الى تحقيقها، والأكثر تأهيلا من غيرها الى هذا التحول، فالعنف كمقولة سياسية وفلسفية منظّر لها في العقيدة الماركسية التي كان بعض هؤلاء يقتبسها والبعض الآخر كان يأخذها بشكل حرفي وكامل؟ ان صعود موجة العنف الاسلامية في العالم العربي ليست له علاقة بتاتاً بوجود الديمقراطية في الهيكل السياسي أو بغيابها منه . فهذه الموجة بدأت في مطلع السبعينات وفي منتصفها، وصعدت في اوائل الثمانينات الميلادية، بدأت وصعدت في ظل المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التالية: 1 ـ ازالة الرئيس انور السادات لجوانب من الممارسات القمعية والبوليسية التي كانت موجودة في عهد سلفه الرئيس جمال عبد الناصر وقد أزالها سنة 1971. 2 ـ في سنة 1971 أطلق الرئيس السادات سراح جماعة الأخوان المسلمين من السجون، وأطلق أيديهم في مجال العمل الديني والاجتماعي والثقافي والسياسي، وكان هناك ثمة تحالف سياسي وثقافي بين السادات وبينهم من جهة، وبين السادات والجماعات الدينية الخارجة من عباءتهم. من جهة أخرى، فقد كان يساندهم في مواجهة التيارات السياسية الأخرى كالناصريين والقوميين واليساريين. 3 ـ في تلك السنة أقر مجلس الشعب ان الشريعة الاسلامية (مصدر رئيسي) للقوانين المصرية. 4 ـ في سنة 1972 تم تحول مصر عن الاشتراكية الى سياسة الانفتاح الاقتصادي وتم طرد السوفيات من مصر وانشاء علاقة قوية ومتينة مع امريكا. وقد حظي هذان القراران بترحاب الاخوان المسلمين ونالا مباركتهم. فالاشتراكية والاتحاد السوفياتي في تلك الفترة محور عداء عقائدي بالنسبة للاخوان المسلمين. 5 ـ في سنة 1973 خاض السادات معركة العبور، وقد حققت مصر في هذه المعركة نصراً جزئياً استردت به كرامتها الوطنية التي أهينت في هزيمة 1967. هذه المعركة خاضها السادات تحت شعارات دينية، وكان السادات في مطلع تلك السنة قد طرد مائة وعشرين صحافيا وكاتبا بتهمة الشيوعية واغلق مجلة ( الكاتب) التي كانت منبرا اعلاميا للماركسيين منذ منتصف الستينات ضمن سياسة عبد الناصر لاحتواء الشيوعيين واغلق السادات كذلك منبرهم الاعلامي الآخر، مجلة (الطليعة) في أواخر السبعينات، وقد حمد له الاخوان المسلمون والجماعات الجهادية المتشددة بطشه بالناصريين والماركسيين. 6 ـ في مطلع السبعينات تقدمت السعودية على الانظمة الثورية الاشتراكية في ميدان الجذب والتأثير على المسرح السياسي العربي، وكان في تقدم السعودية على الانظمة الثورية الاشتراكية فائدة كبرى للحركات الاسلامية لعلاقة التحالف السياسي والثقافي والمالي التي تربطهم بالسعودية. فرجحان كفة السعودية في ميزان القوى، السياسي العربي، قوى من موقع الاسلاميين في مواجهة التيارات القومية واليسارية التي كانت مدعومة من الانظمة العربية الاشتراكية الثورية. والحقيقة ان بروز السعودية في تلك الفترة كقوة مالية كبرى أفاد حتى البلدان الاشتراكية الثورية على مستوى الحكومات وعلى مستوى الأفراد، اذ خلق حالة من الانتعاش الاقتصادي داخل هذه البلدان، وخلق لأبنائها فرصاً للعمل داخل السعودية. 7 ـ في سنة 1976 أقر الرئيس انور السادات نظام التعدد الحزبي، وألغى النظام السياسي الشمولي الذي انشأه جمال عبد الناصر. وكان السادات في بدايات عهده قد وعد بالعودة الى نظام تعدد الأحزاب والعودة الى الحياة البرلمانية. 8 ـ في منتصف السبعينات كانت البدايات الأولى لصعود جماهيرية الخطاب الاسلامي، وفي أوائل الثمانينات بلغ هذا الخطاب ذروته من الجماهيرية. 9 ـ أتى عمل الحركات الاسلامية في ظل الانفراج السياسي أكله في أوائل الثمانينات. فالالتزام الديني انتشر بين الشباب المتعلم، الذين كانت تجتذبهم تيارات سياسية وفكرية علمانية. والحجاب عاد مرة أخرى وانتشر حتى بين الفنانات. وأعلام النهضة الحديثة تحولوا الى رموز بغيضة وكريهة، فصار يقرأ عنهم عبر كتب الادانة والتجريم والتخوين أكثر مما يقرأ لهم، وكان المزاج الثقافي العام وقتها ينطلق من مسلمات الاسلاميين ومصادراتهم غير المنهجية. وامتد هذا التأثير الذي خلقه صعود الحركات الاسلامية الى النخب العربية العلمانية، فشهدنا في أوساطهم تحولات سياسية وعقائدية من مربع اليسار العلماني الى مربع الاسلام السياسي والاسلام الثقافي الحضاري. ومن جهة أخرى، اتجهت بعض الحكومات العربية الى تعميق شرعيتها الدينية وابراز وجهها الاسلامي، فصارت تزاحم الحركات الاسلامية على خطاب الاسلام بغية تملكه وتمثيله. 10 ـ في سنة 1981 أقر مجلس الشعب المصري ان الشريعة الاسلامية هي (المصدر الرئيسي) للقوانين المصرية. في هذا الجو السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي نشأت حركات العنف السياسي الديني، كشباب محمد (الفنية العسكرية) وجماعة المسلمين (التكفير والهجرة) وحركة جهيمان العتيبي، وتنظيم الجهاد والجماعة الاسلامية. [c1]أمريكا واسرائيل .. هل هما السبب؟[/c] وأما قول البيان، ان اسرائيل وأمريكا هما السبب الخارجي لشيوع العنف، فهو قول غير دقيق. فالعنف، كما أوضحنا سابقاً، بدأ في السبعينات وصعد في أوائل الثمانينات، وأمريكا وقتها لم تكن محل عداء بالنسبة للاسلاميين، فالعداء كان يستأثر به الاتحاد السوفياتي والشيوعية. والاسلاميون عامة كانوا في الخمسينات والتسعينات والسبعينات، يعيشون حالة من الانقطاع مع القضية الفلسطينية. ومع دخول الاسلاميين الفلسطينيين الى ساحة النضال الفلسطيني في أوائل الثمانينات كان رفقاؤهم يخوضون مواجهات سياسية وعسكرية مع بعض الانظمة العربية، ويخوضون مواجهتهم الكبرى في أفغانستان، وكان الاسلاميون وقتها مشغولين بالقومية والليبرالية والاشتراكية والشيوعية واليسار وطه حسين! وفيما يخص الاسلام السعودي الحركي، فان عداءه السياسي لأمريكا بدأ مع حرب الخليج الثانية وتضخم مع اشتداد المواجهة بين تنظيم (القاعدة) وأمريكا في أواخر التسعينات. أما التفاته للقضية الفلسطينية فلا يتعدى الثلاث سنوات. [c1]البيان والعنف السياسي الديني[/c] مما يلفت النظر في البيان ثلاث ملاحظات، الاولى انه تحاشى استخدام مصطلح الارهاب، والثانية انه لم يحدد محتوى العنف وطبيعته، والثالثة انه استخدم تعبير (عنف الجماعات) وتلافى استخدام تعبير (جماعات العنف) فلماذا فعل البيان ذلك؟ تفسير الملاحظة الأولى:[/c] تحاشي استخدام مصطلح الارهاب، يعبر عن تحفظ على استخدامه، وذلك على اعتبار انه وصف اعلامي دعائي لا يعكس مضمون هذه الظاهرة وحقيقتها، وانما يركز على الوسيلة أو الشكل الذي اتخذته في صراعها السياسي والذي يتمثل في أسلوب القوة والعنف والتخويف والترويع. فالقوة والعنف والتخويف والترويع هنا وسيلة وليست غاية بحد ذاتها تنم عن نزعة اجرامية متأصلة، وسيلة من وسائل الصراع السياسي يلجأ اليها من ليس بيدهم السلطة، من أجل تحقيقها وفرض رؤاهم على الحكومات والدول، هكذا يرى البيان الأمور. وبما ان الارهاب لا يستهدفهم وانما يستهدف أمريكا والحكومة السعودية والمقيمين على أرضها من غير المسلمين، فانهم ينظرون اليه على انه حرب على خصوم أو لعله ارهاب ابيض ! [c1]تفسير الملاحظة الثانية:[/c] يعتقد البيان، خطأ، ان اثبات الصفة السياسية والمحتوى الديني للعنف يحتمل ادانة للفكر الذي أغرقونا به منذ قرابة العقدين. كما ان هناك سببا آخر وهو ان فهم الدين وتفسيره لدى كاتب البيان مهما كان متشددا ومهما كان متطرفا، فانه لا يمكن ان يطلق حركة عنف مسلحة وارهاب دموي بشع، واذا ما حدث مثل هذا الأمر فالعلة في العالم الخارجي المحيط بالفهم المتشدد للدين والتفسير المتطرف له. والعالم الخارجي يختزل هنا الى (السياسي) و( السلطة السياسية). فالسياسي والسلطة السياسية، بعد فترة الخلافة الراشدة، هما اللذان افسدا في الاسلام دينه ودولته وثقافته وحضارته وعلماءه. [c1]تفسير الملاحظة الثالثة:[/c] يشير استخدام تعبير (جماعات العنف) الى جماعات محددة بعينها وهي الجماعات الدينية الجهادية والتكفيرية، كما يتضمن استخدام هذا التعبير اقرارا بالمعنى والدلالة التي ينطوي عليها، وهو ان العنف هو السمة الرئيسية لفكرها، وانه بحد ذاته يشكل أيديولوجيا أو عقيدة، وهذا ما لا يقره كاتب البيان، فهو يرى ان عنفها عنف ظرفي ومؤقت وعرضي، وسينتهي ويزول بانتهاء وزوال الأسباب التي توهم انها مسؤولة عن نشأته وعن انتشاره. [c1]ديمقراطية أم ثيوقراطية؟[/c] على الرغم من ان البيان لا يذكر اسم الديمقراطية، وكان يذكر عوضا عنها، الشورى الشعبية، الا ان المطالب التي نادى بها كانت منتزعة من مبادئ الديمقراطية ومن تقاليدها. فالديمقراطية الحديثة أو الليبرالية او الدستورية تقوم على المبادئ والتقاليد التالية: - انتخاب النواب، انتخابا عاما، مباشرا وسريا، ويكون من مهامهم الأساسية الأشراف على وزارات الدولة ومراقبتها وسن القوانين والتشريعات، وتكون الحكومة مسؤولة أمامهم ولهم حق محاسبتها، ويكونون هم محاسبين أمام الرأي العام، وللرأي العام حق تغييرهم واستبدالهم. - الفصل بين السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية (الحكومة)، السلطة التشريعية (البرلمان)، السلطة القضائية، وتكون السلطة القضائية مستقلة بشكل تام وكامل عن نفوذ وتأثير السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. - ضمان الحريات السياسية وحمايتها: حرية الفكر، الحرية الدينية، حرية الصحافة، حرية الاجتماع، تكوين الجمعيات، انشاء النقابات.. الخ. - وجود احزاب معارضة للحكومة القائمة. والبيان نادى بكثير من هذه المبادئ والتقاليد مع شيء من التكييف لها، فلقد نادى بـ(انتخاب مجلس لنواب الشعب) وبـ(اقرار الحقوق والحريات العامة للمواطنين الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على اختلاف مناطقهم وطوائفهم ومذاهبهم وطبقاتهم وانتماءاتهم). ودعا الى (تعزيز استقلال القضاء والى السماح بقيام تجمعات المجتمع الأهلي المدني، ثقافية واقتصادية ومهنية واجتماعية وسياسية، من نقابات وجمعيات وجماعات، والالتزام بعدم المساس بحق الناس في التجمع والاعتصام والتظاهر السلمي) والى (حرية التفكير والتعبير المسؤولة) والى (ترسيخ ثقافة التسامح والتعددية في اطار الهوية الوطنية الجامعة). لننظر الآن في صحة دعواه واتساقها مع مبادئ الليبرالية وتقاليدها ومع مبادئ الاسلام وأصوله. يقول البيان عن مجلس نواب الشعب (انه مكون من أهل العلم والخبرة والرأي والايثار الذين ينتخبهم الشعب، وهؤلاء هم الامناء على مصالحه ومحط ثقته في الحل والعقد ومحل اجماعه، وهم مرجعيته بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين تنطبق عليهم مواصفات أولي الأمر في كتاب الله). حسب مفاهيم الفكر العربي الاسلامي (أهل العلم) هم علماء الدين، وأهل الحل والعقد، هم ذوو الرأي والخبرة والمشورة، والمقدمون في أقوامهم وعشائرهم وبطونهم، و(ولي الأمر) هو رئيس الدولة الاسلامية الذي له على المؤمنين حق الولاء والطاعة ويستعين رئيس الدولة الاسلامية الذي قد يكون خليفة أو اماما أو أميرا أو سلطانا بالعلماء العارفين بأحكام القرآن وبمقتضيات الشريعة وبمصادرها التي تمثل السنة النبوية مصدرها الثاني، فالعلماء أو الفقهاء هم الوسيط بين الدين والدولة الذين ترجع لهم الحكومة ويرجع اليهم الفرد في الأمور الصغرى والكبرى. ورأس الدولة في الاسلام، أيا كان مصدر سلطته، اختيارا او تغلبا، يجب على المؤمنين طاعته، ما دام مؤمنا بالله ويصون الشريعة، ويستعين بالعلماء بوصفهم سلطة تشريعية في تسيير شؤون البلاد وتدبير أمورها الداخلية والخارجية. وفق هذه المفاهيم نفهم ان النواب في المجلس المنتظر هم العلماء، فالعلماء ينص البيان على انهم (مرجع الشعب، بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم). وما نعرفه ان الناس لا تعتبر أهل الخبرة والرأي من غير المنتسبين الى سلك العلماء وسلك طلبة العلم، مرجعها بعد كتاب الله وسنة رسوله. ونلحظ ان البيان أعطى ما للأمير للعلماء وبالتالي لم يعد العلماء هم الوسيط بين الدين والدولة، وانما أصبحوا هم الدين والدولة. وهذا يعيدنا الى الفكرة التي روج لها الاسلام الصحوي في مطلع التسعينات، وهي ان أولي الأمر المعنيين بالقرآن الكريم هم العلماء وليسوا الأمراء، وكانوا بذلك يمهدون لتسويغ الخروج على أولي الأمر ونقل الولاية اليهم، فعلماء المؤسسة الدينية بحكم الواقع هم أعضاء في الحكومة. وبالنظر الى الشروط التي وضعها البيان، فانه لا يحق للطوائف الاسلامية الأخرى، كالاثني عشرية والاسماعيلية، والمتصوفة، ولا للتيارات الفكرية السياسية المحدثة ان يُنتخبوا أو ينتخبوا، اذ ان هذه الشروط بشكل آلي تنحيهم وتقصيهم. ولا ادري كيف يستطيع الناس ان ينتخبوا غيرهم وهم (الأمناء على مصالحه ومحط ثقته في الحل والعقد ومحل اجماعه، وهم مرجعيته بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم)؟ لأنهم ان انتخبوا غيرهم فهم يعرضون انفسهم لأحكام الفقه الاسلامي المتعلقة بشق عصا الطاعة، ويصبحون من فئة العصاة والخوارج والمارقين على سلطة النواب المقدسة! لا اعرف حقيقة ما الجديد في البيان حتى يوقع عليه ليبراليون وقوميون ويساريون ، لأن حدود ليبرالية البيان قائمة على رفض الغلو في التكفير والتبديع! أي انه لا بأس ان (يُكفِّر) باعتدال، وان (يُبدّع) باقتصاد ! ! ؟حقاً ان البيان طريف ومسلٍ ... وسأورد لكم بعضاً من طرائفه وتساليه: - توصل البيان، وذلك من خلال التحليل الاجتماعي والسياسي، الى ان السعودية في ماضيها وحاضرها لا تعتمد الديمقراطية الليبرالية في بنيتها وهيكلها السياسي. وأعتقد لو ان رياح العصر كانت الغلبة فيها للانظمة الشمولية، وتمركس كاتب البيان لفاجأنا باستنتاج مختلف جداً مؤداه: انه، ومن خلال التحليل الاجتماعي السياسي، توصل الى ان السعودية في ماضيها وحاضرها لا تعتمد الماركسية اللينينية في بنيتها وهيكلها السياسي، ولا حتى أي صورة تحريفية منها. - يعرّف الاسلام بانه (مشروع تقدم في الدنيا والآخرة) ومعنى هذا ان الاسلام لم يمارس ويعاش الى يومنا هذا، انما ظل مشروع تقدم يُنوى تطبيقه ويعزم على تنفيذه! وان الآخرة ليست ثابتة وحالة مستقرة من العذاب الدائم والنعيم المقيم، بل ستسري عليها سنن التاريخ وقوانينه، كالنمو والتغير، والتطور من حالة أدنى الى حالة أعلى! ان ما هو جديد في هذه الفكرة، هو التصور الخطي الارتقائي لليوم الآخر! وواضح ان حماسه لهذا التصور، الذي هو أحد مذاهب تفسير التاريخ، دفعه ان يبالغ ويشتط في التعبير. [c1]الشورى الشعبية[/c] يطرح البيان ما يسميه: الشورى الشعبية معادلة للديمقراطية البرلمانية. الجديد في هذه المعادلة، هو صفة (الشعبية)، التي أضيفت الى مصطلح الشورى. والشورى، كما نعرف، من مبادئ الفكر الاسلامي السياسي القديم، وقد وردت الاشارة اليها في القرآن الكريم في أكثر من آية. وبين الفقهاء المسلمين الأوائل خلاف على من تكون فيه الشورى، وهل هي ملزمة أم غير ملزمة؟ لكننا حقيقة لم نقرأ خلافاً في ما بينهم عن أيهما أدخل في الاسلام: الشورى البرجوازية أم الشورى الشعبية..؟ هذا الخلاف أو ما يشبهه، جاء متأخراً، فتساءل معاصرونا: هل الاسلام ديمقراطي ليبرالي أم هو ديمقراطي اجتماعي..؟ وأيهما نأخذ: بالديمقراطية السياسية البرجوازية أم بالديمقراطية الاجتماعية الشعبية ولم يحسم الجدل في ما اختلفوا فيه، الا عندما سقطت الشيوعية، فلم يبق أمامهم الا الأخذ بالديمقراطية السياسية البرجوازية. ومن المؤكد ان البيان لا يقصد بالشورى الشعبية الديمقراطية بمعناها الاجتماعي، فالشكل الذي تحدث عنه كان يميل الى الديمقراطية الليبرالية لا الى الديمقراطية الاجتماعية. أرجِّح انه كان يؤسلم المعنى الأصلي للديمقراطية، فقام بالآتي: عادل ديموس (الشعب) بالشعبية، وعادل كراطيا (حكم) بالشورى. ومنعاً للبس الحاصل، كان من الأوفق ان يستخدم المصطلح العربي الاسلامي، حكم الشورى، أو على الأقل يؤسلم الديمقراطية (حكم الشعب) بشورى الشعب. البيان لا يعرف الشورى الشعبية ولا يعرف ما هو الاصلاح الدستوري، وانما يحدد مكانتهما من الاسلام بكلام انشائي: فالشورى الشعبية (أصل عظيم من أصول الدين، صرح بها القرآن والسنة، وطبقها السلف الصالح من الرعيل الأول من هذه الأمة، رضي الله عنهم). والاصلاح الدستوري، هو (من فروض الدين العظمى، بل هو التطبيق الأمثل الأشمل الصحيح للحكم بالشريعة). فلا تفهم ما الفرق بين الشورى الشعبية والاصلاح الدستوري؟، فالشورى الشعبية مرة مفهوم ديني أساسي مواز للاصلاح الدستوري، ومرة أخرى الشورى الشعبية هي الاصلاح الدستوري نفسه. لكن ما تفهمه ان هذا الأصل وهذا الفرض اخل بهما بعد فترة الخلافة الراشدة. وهنا نلتقي بتنظيرات سيد قطب والمودودي، التي تقدم تاريخ الاسلام بوصفه تاريخاً من الانحراف عن أصوله والاخلال بفروضه. نلتقي بهذه التنظيرات، لكن على نحو مشوش ومضطرب، فسيد قطب والمودودي، كانا متّسقين مع الاطار الفكري الذي وضعاه لفهم الاسلام وفهم التاريخ. أما هذا البيان فكان غير متّسق مع نفسه بين فقرة وأخرى، وغير أمين مع التاريخ الخاص بالحركة، التي يمثلها وينطلق منها، فلقد صور ان هاجسها الديمقراطية لا الأصولية. [c1]* كاتب سعودي[/c]
|
فكر
شكليات ليبرالية ومضمون أصولي
أخبار متعلقة