الدكتور/ عبدالحميد الأنصاري:تبنّت (قمة مكة) وثيقتي ''بلاغ مكة'' و''خطة العمل العشرية لمواجهة تحديات القرن ''21 في ختام أعمالها. وأكد بيانها الختامي عزم قادة العالم الإسلامي على مواجهة الفكر المتطرف -المتستر بالدين والمذهب-، وهم إذ أدانوا الإرهاب بكل صوره وأشكاله -دعماً وتمويلاً وتحريضاً- فإنهم طالبوا بتجريمه، رافضين كل المبررات والمسوغات المروّجة له. وقد تضمن البيان إقرار المؤتمرين (صحة إسلام) كافة المذاهب الإسلامية المؤمنة بأركان الإسلام لقطع الطريق على الفتاوى التي تكفر الشيعة في العراق كتبرير للإرهاب.وقد حظيت قضية (الفتاوى) المنفلتة بجانب كبير من اهتمام القمة التي سعت إلى إيجاد (مرجعية فقهية) موحّدة للحد من فوضى الفتاوى في العالم الإسلامي، وقد نددت الخطة العشرية بالجرأة على الفتوى وطالبت بدحض الفتاوى التي تخرج المسلمين عن قواعد الدين وثوابته وما استقر من مذاهبه.وكلفت (القمة) الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي تقديم دراسة لتطوير مجمع الفقه الإسلامي -في جدة- وبما يتلاءم مع التنسيق بين جهات الفتوى في العالم الإسلامي ويعزز الاعتدال والوسطية والتسامح وروح الحوار بين المذاهب الإسلامية المختلفة.إن اهتمام قمة مكة بمواجهة ظاهرة (الفتاوى) غير المنضبطة، أمر يستحق الإشادة والتأييد، فالعالم الإسلامي وفي العقود الأخيرة، أصبح مبتلياً بها، وأخطرها الفتاوى (التحريضية) و(التكفيرية) التي فرّقت المسلمين، ودفعت آلاف الشباب إلى محاضن التطرف، وتسببت في هلاكهم وسفك دماء آلاف البشر في الساحة العربية والإسلامية والدولية، وكانت وراء العديد من الكوارث والمآسي في العالم الإسلامي وخارجه.لقد تنامت ظاهرة (الفتاوى) وتعاظم دورها السلبي، وأصبحت سلاحاً خطيراً فيما سميت بـ''حروب الفتاوى''، ونستطيع أن نرصد آثار وتداعيات تلك الفتاوى السيئة في (4) مواقف أو محطات مهمة:1)- حرب تحرير الكويت: لقد كانت (الفتاوى) المسيسة، سبباً في اختلاف مواقف الدول العربية والإسلامية من حرب تحرير الكويت، ففي حين أيدت فتاوى صدرت من العلماء والمشايخ الذين اجتمعوا في كلمة (الاستعانة بالقوات الأجنبية) صدرت فتاوى معارضة في بعض الدول العربية رأت عدم شرعية الاستعانة.2)- الجهاد في العراق: لقد تسببت الفتاوى في تحريض آلاف الشباب للذهاب إلى العراق للجهاد ضد الاحتلال حتى من دون إذن ولي الأمر، بحجة أنه (جهاد الدفع) وهو لا يحتاج إلى إذن، وقد راح آلاف الشباب ضحية تلك الفتاوى وقتل آلاف الأبرياء من العراقيين وغيرهم وضربت المصالح الحيوية للعراقيين. لقد اختطف بعض مشايخ الدين في الساحة الخليجية، منابر بيوت الله التي هي منابر للهداية والدعوة بالحسنى والتسامح فحولوها إلى منابر للتحريض وإهدار دماء المسلمين والتغرير بالشباب. وظّفوا منابر بيوت الله لتصدير فتاوى (الرعب) و(سفك الدماء) فاستحلوا قتل المدنيين في العراق بحجة أنهم على علاقة بالاحتلال واستباحوا دماء العراقيين من الشرطة والمجندين وقوات الأمن العراقية وكل من يشارك في الحكومة العراقية أو في العملية السياسية، بفتوى (أن من تعاون مع المحتل يُقتل)، وهي فتوى آثمة تسببت في قتل آلاف العراقيين الأبرياء، حرّض عليها (الزرقاوي) من جهة، وبعض المشايخ الذين يعدون أنفسهم رموزاً للوسطية والاعتدال في الخليج من جهة أخرى.3)- الظاهرة الإرهابية والانتحارية: لقد وقع آلاف الشباب في براثن الإرهاب وأصبحوا قنابل بشرية ضد مجتمعاتهم وأوطانهم بفعل (الفتاوى) المحرّضة وظاهرة أن يفجر الإنسان نفسه في أناس أبرياء، لم تعرفها البشرية من قبل. نعم هناك الانتحاريون اليابانيون وغيرهم ولكن هؤلاء فجروا أنفسهم في أعدائهم المحاربين، لا المدنيين الآمنين من مواطنيهم وبني جنسهم ودينهم كما يحصل في العراق وفي السعودية وفي مصر والأردن وغيرها، أن يفجر أحدهم نفسه في حافلة للركاب أو مترو للأنفاق أو في مطعم أو سوق أو مبنى سكني أو تجاري أو في مجلس عزاء أو حفل زفاف أو في مسجد أو مستشفى لإصابة أكبر عدد من الأبرياء. هذه الظاهرة لم تكن معروفة من قبل، ولذلك فهي ظاهرة خطيرة تنمُّ عن أزمة أخلاقية وفكرية عظيمة لدى المسلمين، كما يقول جمال خاشقجي. والشريعة الإسلامية واضحة وقاطعة في تحريم هذه العمليات، وأئمة السلفية مثل الشيخ بن باز والعثيمين وآل الشيخ وغيرهم على تجريمها قولاً واحداً لأنها جريمة مزدوجة (قتل النفس المحرمة وقتل الآخرين)، ولكن توظيف الدين في سوق السياسة هو الذي دفع بعض فقهاء (الصحوة) و(الإسلام السياسي) إلى إباحة هذه العمليات، ومنهم من سماها (أسمى أنواع الجهاد).يقول خالد الحروب في مقالة مرعبة بعنوان ''16 ألف مسلم يعلنون استعدادهم للقيام بعمليات انتحارية في بريطانيا'' -(وكأن أفضل طريقة للتلاعب بمشاعر الجيل الشاب، هي التركيز على ''المظلومية'' الراهنة للمسلمين في كل مكان، فلسطين، العراق، الشيشان، البوسنة، كشمير). وهي نفس المواضيع التي يرددها ويركز عليها خطباء الإسلام السياسي في المساجد والفضائيات. وليت قمة مكة ركزت على (الظاهرة الانتحارية) باعتبارها (قمة التوحش) في العمليات الإرهابية، ولذلك فأنا مع جمال خاشقجي في مطالبته بموقف حاسم صريح ينبثق عن أعلى مؤسسات الفتوى ومجامع الفقه يحرّم بصريح العبارة وبدون تبعيض واستثناء ''العمليات الانتحارية'' كافة. وقد كانت ندوة لندن عن التطرف والإرهاب حاسمة في إدانة الظاهرة الانتحارية.(4)- قضايا الصراع السياسي: لقد استثمرت (الفتاوى التكفيرية) في الخصومات السياسية بصورة أدت إلى إهدار دماء كتاب ومثقفين وصحفيين وفنانين. يتحدث د. طه العلواني في كتابه ''لا إكراه في الدين'' عن فتاوى كادت تهدر دماء آلاف الخصماء السياسيين، تتهمهم بالردة وتشكك في عقائدهم والتزامهم الديني أو لمجرد اتهامهم بالعلمانية أو التغريب. ومن يطلع على الشبكة الإلكترونية يصاب بالهلع إذ يرى آلاف المواقع التي تصور الفتاوى المكفرة لمجرد خلاف سياسي أو مذهبي.القمة قامت بمسؤولياتها وأدت واجبها وهي قد جرّمت التحريض، كما أن مجلس الأمن قد جرّم التحريض، وطبقاً لذلك فإن مصدري (فتاوى التكفير) محرّضون على جرائم الإرهاب. فهل يمكن مقاضاة أصحاب الفتاوى أمام القضاء؟يظل هذا السؤال معلقاً حتى نجد تفعيلاً حقيقياً وجاداً (عبر قوانين وإجراءات عملية ملموسة) لتوصيات القمة.(عميد كلية الشريعة في جامعة قطر سابقاً)
|
آراء
قمة مكة تجرّم الفتاوى التحريضية... فهل نقاضي مشائخها؟
أخبار متعلقة