فيما يصر كهنة أحزاب ( اللقاء المشترك ) على محاربة الغناء والموسيقى في اليمن
بدعوةٍ من وزارة الإعلام العُمانية زرتُ سلطنة عُمان في النصف الأول من شهر نوفمبر الجاري للمشاركة في تغطية أعمال الاجتماع السنوي المشترك لمجلسي الدولة والشورى الذي اعتاد السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان على افتتاحه في خريف كل عام بكلمة تتضمن اتجاهات رئيسية لخطط وبرامج التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في هذا البلد الشقيق الذي يشهد تحولات نهضوية نقلت المجتمع العُماني من زمن البداوة والتخلف والكهنوت ، إلى آفاق المجتمع الحديث والدولة العصرية والتفكير العلمي والمشاركة الشعبية في الحياة العامة .كنت قد زرت عمان في أوقات سابقة ولاحظت أنّ المسؤولين العُمانيين يحرصون حين يستقبلون ضيوفهم على إدارة حلقات نقاش معهم تتناول تحديات الحضارة الحديثة، وسبل البحث عن صيغ واقعية تحقق الاستجابة الواقعية لهذه التحديات الحضارية ، بعيداً عن مخاطر التفريط بالخصوصية ، أو الانعزال عن تحولات العصر. وإذ يحرصُ المسؤولون في عُمان على تنظيم لقاءات مفتوحة تجمع ضيوفهم بعددٍ من الوزراء والمثقفين ورجال وسيدات الأعمال والإعلاميين العُمانيين ، تتميز هذه اللقاءات بطرح عددٍ كبيرٍ من هموم وقضايا العصر على بساط النقاش المفتوح بهدف التعرف على رؤية الآخرين لهذه القضايا المعاصرة ومقاربتها .المثير للدهشة والتأمل أن كل الذين قابلتهم من المسؤولين والمثقفين والشبان والشابات في عُمان الشقيقة يتمتعون بقدرٍ واسعٍ من الثقافة الرفيعة واللغات الأجنبية ــ وخاصة اللغة الإنجليزية ــ ويتعاطون نمطا ً جديدا ً من التفكير الذي ينزع إلى تجاوز القوالب الجامدة ، والابتعاد عن الثقافة الشفاهية السطحية والشعارات الشعبوية ، وعدم الخضوع لهواجس الخوف من الانفتاح على العصر ، والتحرر من الوهم بوجود عدو خارجي يتآمر على الهوية والخصوصية ، مع الأخذ بعين الاعتبار اعتزاز العُمانيين بهويتهم وخصوصيتهم ، ونزوعهم إلى الاستجابة لتحديات الحضارة المعاصرة واستيعاب أدواتها وقيمها في آن واحد.في هذه الزيارة أثار دهشتي مبنى ضخم وعصري في قلب العاصمة العمانية مسقط تشير لافتة عملاقة بجانبه الى أنه مشروع دار الأوبرا في عمان ، والذي من المقرر افتتاحه في العام القادم. وعندما سألت الاستاذ عبدالعزيز الرواس مستشار السلطان قابوس للشؤون الثقافية عن هذا المشروع بحضور عدد كبير من رؤساء تحرير الصحف العربية والخليجية وفي مقدمتهم الأستاذ مكرم محمد احمد نقيب الصحفيين المصريين قال الرواس ان افتتاح دار الاوبرا أصبح ضروريا لاستيعاب النمو المتزايد في فعاليات الفرق الموسيقية والغنائية العمانية التي بلغ عددها 50 فرقة ، وعلى رأسها فرقة الأوركسترا السيمفونية السلطانية بالاضافة ، الى المهرجانات الثقافية والموسيقية والغنائية العربية والعالمية التي تحتضنها مدينتا مسقط وصلالة في سلطنة عمان فصليا . أعجبني كثيرا رد الاستاذ عبدالعزيز الرواس على سؤال من أحد الزملاء الحاضرين بشأن الحملة التي يشنها المتطرفون في العالم العربي والاسلامي ضد الفنون والموسيقى بدعوى أن الاسلام يحرمها ، حيث دافع الرواس عن الموسيقى مشيرا الى أنها لغة الطبيعة بما هي إحدى ايات الله المنشورة في الكون . لا ريب في أن الموقف من الغناء والموسيقى وحقوق المرأة يعد قضية ثقافية بدأت تتشكل في مجتمعنا اليمني منذ أواخر الثلاثينات من القرن العشرين المنصرم ، عندما أصدر فقهاء النظام الامامي الكهنوتي فتاواهم السوداء بتحريم الغناء والموسيقى، ثم نصبوا المشانق للآلات الموسيقية في باب السباح بصنعاء القديمة ، وشنوا أبشع حملة ضد الفن والفنانين في اليمن سبقوا فيها جلاوزة إمارة (طالبان) المقبورة سيئة الصيت ، ما أدى الى انتقال الأغنية الصنعانية الى عدن التي تحولت منذ ذلك الحين الى رافعة لمشاعل الفن والغناء والموسيقى . لعلنا نتذكر ذلك النفير الصاخب الذي صدَّع به رؤوسنا شيوخ وملالي ونواب وخطباء حزب ((الإصلاح)) بصفته القائد الميداني لأحزاب ( اللقاء المشترك )) ، سواء أثناء التحضيرات لمهرجان عدن الفني الأول في فبراير الماضي، أو عند إحالة مشاريع تعديل القوانين التي تكرس التمييز ضد المرأة من قبل الحكومة إلى مجلس النواب في مارس الماضي أيضا .بينما لا نجد مايشبه هذا النفير من قبل رجال الدين في سلطنة عمان التي تحتضن أكثر من عشرة مهرجانات غنائية سنويا يشارك فيها مشاهير الفنانين والفنانات من جميع أنحاء العالم العربي والاسلامي وأوربا وامريكا وآسيا الى جانب احتضانها لأكثر من خمسين فرقة موسيقية عمانية وعلى رأسها فرقة الأوركسترا السيمفونية السلطانية ، فيما تستعد حاليا لافتتاح أول دار للأوبرا في عمان.بوسع الذين تابعوا ذالك النفير الصادر عن أكبر أحزاب المعارضة في ( اللقاء المشترك )) سواء من خلال الفتاوى أو خطب الجمعة أو الندوات أو المقالات التي نـُشرت في صحف حزب ((الإصلاح)) واخواتها بشأن إقامة المهرجانات الموسيقية والغنائية في المدن اليمنية ، ملاحظة مدى هشاشة وسطحية خطاب التحريم الذي يجري تسويقه علينا بأسلوب أوامري يستوجب السمع والطاعة فقط ، ويرفض النقاش والنقد .الثابت أنّ الذين تبنوا حملة تسويق خطاب التحريم المناهض للغناء والموسيقى، استندوا إلى آراء فقهية تندرج ضمن أسوأ ما ورثناه في كتب التراث القديمة ، ولا تجد لها أساساً في القرآن أو السنة النبوية الصحيحة.. ناهيك عن أن هذه الآراء المتخلفة تعرضت للنقد والخلاف من قبل مشاهير الفقهاء الأسلاف والمعاصرين بدءاً بأبي حامد الغزالي ومروراً بابن حزم والفارابي وابن رشيق والجاحظ وابي اسحاق الموصلي وانتهاءً بشيخ الأزهر الدكتور محمد طنطاوي والدكتور يوسف القرضاوي ، بما في ذلك الأحاديث التي نسبها الوضّاعون إلى رسول الله ، وجميعها كما وصفها ابو حامد الغزالي وابن حزم والقرضاوي مثخنة بالجراح، لم يسلم منها حديث من طعن فقهاء الحديث وعلمائه ، مع الأخذ بعين الاعتبار، أنّ ما ينطبق على حملة تحريم الغـناء والموسيقى التي قادها شيوخ وملالي حزب ((الإصلاح)) وجامعة الإيمان في فبراير الماضي ، ينطبق أيضاً على الحملة المسعورة التي يشنها هؤلاء حاليا ً على مشاريع التعديلات التي تقدّمت بها الحكومة للقوانين التي تكرس التمييز ضد المرأة وبضمنها مساواة دية القتيلة بالقتيل تنفيذا للبرنامج الانتخابي لفخامة رئيس الجمهورية الذي حاز على ثقة الأغلبية الساحقة من الناخبين في الانتخابات الرئاسية لعام 2006م .من حقنا والحال كذلك ، أن ندافع عن تراثنا الغنائي والموسيقي، وأنْ نعتز برواد الغناء والموسيقى في اليمن.. وأن نتساءل عن مصير هذا التراث الرائع ورصيد هؤلاء الرواد العظام في حال وصول أحزاب المعارضة المنضوية في إطار (( اللقاء المشترك )) بقيادة حزب ((الإصلاح)) إلى السلطة ، بما ينطوي عليه مشروعه السياسي والثقافي من مخاطر تهدد حق المجتمع في الغناء والاستمتاع بالموسيقى والفرح الإنساني، بما في ذلك المخاطر التي تنطوي عليها تصريحات شهيرة أطلقها في ربيع العام الحالي 2008الأستاذ محمد قحطــان وهو من أبرز قــادة (( اللقاء المشترك )) ، ودعا فيها إلى منع الأحزاب السياسية من تناول قضايا الغناء والموسيقى في برامجهم الانتخابية بذريعة أنّه لا يحق لهم القول بأنّ الغناء حرام أم حلال؟.. حيث من يحق لهم ذلك هم شيوخ وملالي الإسلام السياسي لا غير .ومما له دلالة أنّ النفير المعادي لمهرجان عدن الفني وغيره من المهرجانات الغنائية في صنعاء وتعز احتوى على غثاء كثير مما أسماه شيوخ وملالي حزب ((الإصلاح)) أدلة شرعية على تحريم الغناء والموسيقى.. وقد تمحورت جميع ((أدلتهم)) البائسة حول آراء فقهية لا تعدو أن تكون سوى روايات منقولة عن فلان وفلان، وأحاديث موضوعة تعرضت جميعها ـــ وبدون استثناء ـــ للطعن والتجريح، وآراء فقهية تقوم على تفسير بعض آيات القرآن من قبل بعض الفقهاء الذين عملوا على تحويل آرائهم وفهمهم لتلك الآيات إلى أحكام مطلقة غير قابلة للخلاف أو النقاش، وهو ما دفع معظم الفقهاء الذين يخالفونهم في تلك الآراء ، إلى القول بأنّه لا يجوز استخراج أي حكم من نص قرآني إلا إذا جاء صريحاً بصورة لا تقبل التأويل.. لأنّه إذا قبلنا التأويل ظهر الاحتمال، وإذا ظهر الاحتمال بطل الاستنباط والاستدلال. والثابت أنّ الفقهاء الأسلاف والمعاصرين اختلفوا حول تحريم الغناء والموسيقى ولم يحدث إجماع على الإطلاق بهذا الشأن أو بغيره من الشؤون، لأنّ القول بالإجماع يعد أكبر كذبة في التاريخ.ومما له دلالة عميقة أنْ يتمحور الخطاب المناهض للموسيقى والغناء حول آراء فقهية تواترت خلال عصر الانحطاط الذي جاء عقب أفول شمس الحضارة الإسلامية في أواخر القرن الخامس الهجري الذي شهد في مطلعه ظهور أكثر الآراء الفقهية تشدداً وانغلاقاً على يد الإمام أبو حامد الغزالي . بيد أنّ فقه الغزالي على تشدده وتزمته وإنغلاقه لم يذهب الى تحريم الغناء والموسيقى على نحوٍ ما قاله الفقهاء المتأخرون الذين تزامن ظهورهم مع تزايد انقطاع العالم الإسلامي عن المساهمة في صنع الحضارة، حيث ذهب فقهاء التحريم الى القول بأنّ الغزالي لم يكن يعرف علم الحديث الذي كان غائباً في فترة صعود الحضارة الإسلامية ثم برز وانتشر في فترة سقوطها ، وهي الفترة التي شهدت ترهل وتفكك نظام الخلافة الامبراطوري ، وظهور ملوك ودويلات الطوائف على أطراف دولة الخلافة!! وقد سبق لنا في مقالات سابقة القول بإنّ سيل أدلة التحريم الذي انطوى عليه نفير الخطاب السياسي لشيوخ وملالي (( اللقاء المشترك )) ، بشأن تحريم الغناء والموسيقى كان أشبه بالغثاء، لجهة هشاشة الاستدلالات التي تمّ اقتطاعها من بطون أسوأ ما ورثناه في تراثنا الفقهي القديم، وهو ما يمكن الرد عليه في آراء فقهية قديمة أيضاً لمشاهير الفقهاء والفلاسفة الأسلاف الذين لم يتعاملوا مع الموسيقى كأنغام بل كعلم وصناعة للألحان على نحو ما جاء في العقد الفريد لابن عبدربه ، أو صناعة الإيقاع بحسب ما أورده الإمام السيوطي في (المزهر)، أو تأليف اللحون كما هو مبين في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ ، حيث قدم جميع هؤلاء الفقهاء والفلاسفة تعريفا للموسيقى يقول بأنها صناعة في تأليف النغم والأصوات ومناسباتها وإيقاعاته وما يدخل منها في الجنس الموزون والمؤتلف بالكمية والكيفية .. فيما أوضح أبو نصر الفارابي في ( كتاب الموسيقى الكبير ) أنّ الموسيقى والشعر يرجعان إلى جنس واحد هو التأليف و الوزن والمناسبة بين الحركة والسكون، مشيراً إلى أن الموسيقى والشعر صناعة تنطق بالاجناس الموزونة ، كما أن الفرق بينهما يتحدد في اختصاص الشعر بترتيب معاني الكلام على نظم موزون مع مراعاة قواعد النحو والصرف واللغة، وأما الموسيقى فهي تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون وإرسال أصوات على نسب مؤتلفة بالكم والكيف في طرائق تتحكم بالتلحين.في هذا السياق تحدث الكثير من الفقهاء والفلاسفة والشعراء العرب عن الارتباط الوثيق بين الشعر والموسيقى والغناء أمثال ابن رشيق في (العمدة) والمزرياني وأبو إسحاق الموصلي في (الموشح).. وبوسع كل من يطالع هذه المؤلفات ملاحظة أنّ كلمات مثل (الترنم والترنيم والترتيل والترجيع والتغني والدندنة بما في ذلك الصنج والمزهر والقينة وغيرها من المفردات الغنائية الاصطلاحية وأسماء الآلات الموسيقية ، لم تكن غريبة عن صناعة الشعر العربي منذ أقدم العصور، بل يمكن القول إنّ هذه المفردات كانت من صميم عمل الشعر العربي، لجهة الروابط بينها وبين أوزان الشعر، وهي روابط يتجسد فيها تركيب الأصوات وتلحينها وأداؤها في صورة جميلة تفسر قول أبي نصر الفارابي بأنّ ((الصناعة الشعرية هي قوام الهيئة الموسيقية وأنّ غاية هذه أن تطلب لغاية تلك)) ، راجع (كتاب الموسيقى الكبير 3 / 1093).لا تخلو كتب الفقهاء الأسلاف الذين عارضوا تحريم الغناء والموسيقى من الاشارة الى أن حب الغناء والطرب للصوت الجميل يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة بشرية، حيث اشار معظمهم الى أن الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه . ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات على الغناء للأطفال منذ زمن قديم، فيما ذهبت أحدث الدراسات والأبحاث العلمية الى التأكيد أن الموسيقى تنمي الذكاء عند الأطفال . بل أن الأصفهاني قال في كتاب ( الأغاني ) إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة فيما قال الغزالي في كتاب ( إحياء علوم الدين ) : (من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر ـــ لقوة نشاطه في سماعه ـــ المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فترى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها، حتي تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها .. فهل يعقل بعد كل هذا الكلام أن يحرم الله ما فيه فائدة للانسان والحيوان الذي يخدم الانسان ؟!![c1]--------------------------------* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
فرقة الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية التي تضم فنانين وفنانات من عمان الشقيقة في إحدى المهرجانات الغنائية العالمية بالعاصمة مسقط