في سبق صحفي( 14أكتوبر ) تنشر بعد 42 عاماً قصصاً من تضحياته البطولية
تقديم : نجيب مقبل / رصد : جمال عرب أتذكر قصة الدكتورة السوفيتية التي أنبرى لها طالب يمني مفتخرا أنه يحمل وسام الثورة فقالت له كم عمرك.. قال لها كذا.. فأجابته.. لقد كنت في عدن وأعرف عن ثورة (14 أكتوبر) كيف أعطوك الوسام وأنت في عمر الخامسة.. قال لها كنت أقود الحمار الذي يحمل السلاح.فقالت له : أجدر بالدولة أن تعطي الوسام للحمار الذي حمل السلاح.. لا أنت الذي تمشي وراءه.كم هي قصص البطولات المزيفة التي يخترعها الحاكمون المتحكمون الذين يسطرون التاريخ على هواهم.. وكم هي البطولات الحقيقية التي تدفن في رمال النسيان؛ لأن أصحابها لا يحكمون، وماتوا أو استشهدوا ولم يجدوا قطرة حبر واحدة تخلد مآثرهم.وهذه قصة من القصص البطولية الحقة التي نالها النسيان طويلا، وتجاهلها كاتبو التاريخ المزيف كل هذه السنوات.. أكثر من (42) عاما ولم يكتب أحد عن العملية الفدائية الجريئة التي ذكرتها يومها إذاعة بي . بي . سي البريطانية وذكرت بطلها الجسور خالد صبري.يحز في نفسي هذا الزيف العارم في تناول البطولات واختلاقها من جهة ودفن البطولات الجسورة والحقيقية التي كان خالد صبري ابن حارتي عنوانا حقيقيا وجوهرا أصيلا لها لا لشيء؛ إلا لاختلافات تنظيمية هذا قومي وهذا تحريري.البطولة معناها واحد.. التضحية جوهرها واحد.. إن كانت لفدائي في الجبهة القومية أو فدائي في جبهة التحرير والتنظيم الشعبي.. وكتابة التاريخ الوطني لا يعنيها انتماء الشهيد أو البطل لقومي منتصر أخذ السلطة أو تحريري منهزم خرج منها بعد الاستقلال.فكيف الحال بقصة خالد صبري البطولية الذي جعل صدره مفتوحا أمام رصاص الإنجليز بعد انكشافه ورفاقه الفدائيين أمامهم إثر عملية القاهرة الفدائية المشهورة، وأبى إلا أن يكون المضحي الذي يشاغل الإنجليز برصاصاته المعدودة حتى نفدت، آمرا زملاءه أن يتركوا المكان الذي انكشف، ويهربوا آمنين، ليلقى بصدر مفتوح رصاصات العدو الإحدى وعشرين طلقة وتخرم جسده النحيل، ضاربا أروع مثال للبطولة الحقة والتضحية النبيلة التي لا تساويها النياشين كلها لو وضعت على موطئ جرح من جراحات جسده النبيل.والعجيب في قصة الرجل أن يعالج في أيام الإنجليز المعدودة حتى بزوغ الاستقلال ثم يرمى في البيت ليتعفن بجراحاته النبيلة حتى يستشهد وحيدا منبوذا لا فدائيا بطلا ضرب أروع بطولات التضحية والفداء التي نسمع عن كلماتها الرنانة كثيرا ولا نعرف لها صاحبا أو حاملا حقيقيا لجوهرها ومعناها في قصة واقعية وملموسة؛ إلا عند القليلين من أمثال خالد صبري.هذه نتيجة من نتائج ثقافة التخلف حيث يعتقد أي منتصر في التاريخ أنه يملك الحقيقة وحده وأنه سوف يستأثر بها حتى يوم القيامة، والحال أن التاريخ حين يجد قلما نزيها ونبضا في القلب لا تخطئه الروح - وهذه صفات لا أدعيها ولكم أتمناها - فستظهر الحقيقة ناصعة كما تظهر قصة هذا البطل الجسور الشهيد خالد صبري بعد (42) عاما من استشهاده على صحيفة (14 أكتوبر).أسئلة كثيرة أطرحها على الذات : لماذا طال زمن رواية هذا الرجل والعملية الفدائية التي قام بها هو وزملاؤه حتى هذه اللحظة؟! هل لأنه تحريري والسلطة البازغة كانت قومية.. هل أثمرت حرب إلاخوة الأعداء (القومية - التحرير) هذا العداء والحقد على بعضهما حتى أن المنتصر فيها - في لحظة غيه - غيب التاريخ عنا فغاب هو عنه.. وكما يقولون : (لكل طاهش ناهش).قيل لي إن خالد صبري كان بطلا جسورا ولذلك يجب أن يموت ويتعفن بجراحه حتى لا يتشافى ويكون شوكة في حلق السلطة الناشئة.فكرة مجنونة وغير إنسانية لو صحت روايتها.وقيل لي : كان من أبناء عدن ولم يأت من الريف.. وأنى يكون لأبناء عدن شهداء حقيقيون.. كيف يكون لعدني أصيل أن يعترف به شهيدا وبطلا جسورا وتلك عقيدة كانت وما زالت تصيب أبناء عدن وترميهم في مقتل، وما زال مروجوها يتناسلون في كل مرحلة وتحت يافطات وأشكال مختلفة لا هم لهم سوى أن يثخنوا صدر هذه المدينة بخنجرهم المسموم، تلك ثقافة كانت وما زالت تخاف ثقافة المدينة ومدنييها، ولذلك تنزع عن أبنائها كل صفات البطولة.أتذكر أول مرة استرجعت فيها روح الشهيد خالد صبري التي كانت كامنة في ذاكرتي الحية حين جاءني الفقيد عصام سعيد سالم وطلب مني المشاركة بوضع أسماء شهداء وفقداء ومفقودين لم يذكروا من قبل ليدفعها إلى الزميل الأستاذ عبده بورجي وشاركت في وضع القائمة التي تم الجلوس عليها في مقيله بالمنصورة، وكان أول اسم طرأ على ذهني هو اسم الشهيد خالد صبري إلى جانب صهري الشهيد محمد السيد عبدالله الحبشي الذي فقد في أحداث 13 يناير 1986م، وسعدت بأن نال الشهيد خالد صبري وسام الاستقلال الذي اعتبرته أول اعتراف بقيمة ونضالية هذا الشاب اليافع الذي لا أتذكر من سحنته سوى اللون البني ومن شفته غير ضحكته البريئة، ومن ملامحه سوى خطوط الاتزان المرسومة على وجهه ومن كلامه سوى تلك الكلمات الممزوجة بالجد والضحك كأي شاب من شباب حارات الهاشمي.وفاءً لذاكرة طفولتي التي اغتصبها الزمن.. ووفاء لحارات الهاشمي التي أسمعتني في طفولتي أزيز ولعلعة الرصاصات ودوي القنابل وهتاف الحرية والاستقلال، ورأيت في طرقها الدم النازف، وأرغمتني معايشة ومعاينة واحدة من الحربين الأهليتين بين القومية والتحرير.ووفاء لابن حارتي الشهيد خالد صبري وأمثاله من المناضلين الشرفاء المغبون حقهم التاريخي في نيل شرف البطولة وحوز التكريم اللائق.. أترك للقارئ أن يطلع على قصته كما سجلها الزميل جمال عرب :
الشهيد (الاخير من اليسار) مع زملائه الطلبة
الشهيد خالد الصبري على فراش الموت بعد انتقاله الى مستشفى الملكة