ملكة عبداللاه ..
نادرة عبد القدوسيحتفي شعبنا اليمني في الثلاثين من نوفمبر بالذكرى التاسعة والثلاثين لاستقلال الجنوب المحتل ، بعد 128 عاماً من الاحتلال البريطاني الذي عاث في البلاد فساداً. وبعد نضال طويل قدم فيه الشعب خيرة أبنائه قرباناً للحرية والكرامة.وإذا ما فتحنا صفحات التاريخ النضالية لوجدنا أن للمرأة اليمنية وبالذات العدنية (دون مغالاة) الدور الكبير والبارز في النضال السياسي لا يقل أهمية وقيمة تاريخية عن دور الرجل بل ولعلها تفوقت عليه. ولكن لأن مجتمعنا المتخلف قد أعطى للرجل الحق في التملك وفي فرض وصايته على المرأة كحال مختلف المجتمعات العربية القبلية الذكورية المتخلفة التي حتى اليوم لا تعترف بقيمة دور المرأة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ، فإن ما حدث من طمس لدور المرأة النضالي أكان إبان الطغيان الإمامي في شمال وغرب الوطن أو الحكم الأنجلو سلاطيني في جنوبه وشرقه يُعد من البديهيات التي للأسف سلمنا بها دهراً بل دهوراً .. ومعظمنا متفق مع هذا الواقع المؤلم غير السوي وغير المنطقي الذي تسود فيه سلطة الذكورة حتى في عدم تسجيل الحقائق وعدم الاعتراف بالآخر . وحتى اللحظة - وأقولها بمرارة - لم تعط المرأة اليمنية المناضلة في الميدان السياسي ضد الإمامة والاحتلال البريطاني في اليمن حقها من الذكر الكريم والرفيع كما يعطى للرجل .. فالمرأة اليمنية حملت السلاح وأوت الفدائيين ووزعت المنشورات السرية وقامت بأعمال جبارة لم يقم بها ، أحياناً ، فتوات الرجال الذين كانوا في غيهم يعمهون أو كانوا مع رموز الاحتلال والكيان الإمامي فكهون أو في بيوتهم قابعون خوفاً وفزعاً من الموت .. علماً أن معظم المنظمات السياسية اليمنية السرية والعلنية كانت تعتمد على العنصر النسائي لتأجيج الحماس الثوري بين صفوف أبناء الشعب. ولكي لا تضيع الحقائق التاريخية، قام عدد من النساء الراسخات في العلم والمعرفة ، ومنهن من كان لهن دور نضالي في الساحة السياسية ، بفتح ملفات قديمة كانت مطوية عقوداً من الدهر غطاها غبار النسيان ألذكوري ، والكشف عن الملابسات في قضية النضال السياسي للمرأة اليمنية ووضع النقاط على الحروف.. كثيرات هن النساء اليمنيات في جنوب الوطن المحتل اللاتي كان لهن شرف الريادة في النضال السياسي المستميت ضد الاحتلال البريطاني، ولعل من نافلة القول أن سبب قدرة المرأة في هذا الجزء من الوطن على المشاركة الفاعلة في مضمار العمل السياسي أو الحركة الوطنية بعكس أختها في شماله هو الاحتلال الأجنبي نفسه ، الذي أعطى مساحة من الديمقراطية وحرية التعبير بشتى الوسائل في مدينة عدن بالذات ، وذلك حتى لا يقال أن المحتلين أخلّوا بمبادئ الأمم المتحدة التي رسمتها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وليسلّم الجميع بأن بريطانيا العظمى دولة ديمقراطية ومسالمة وتحب أبناء مستعمراتها !! ورغم بلائنا بالاحتلال إلا أن هذه المساحة من الديمقراطية والحرية كانت ذات فائدة ولها نتائجها الإيجابية ، وتم الاتكاء عليها في النضال السياسي والاجتماعي والثقافي في عدن وعدد من المحميات الشرقية والغربية ، وكانت ثورة الجنوب المحتل إحدى هذه النتائج وكان الاستقلال الوطني من ربقة المحتل أرقاها.. أسماء نسائية كثيرة تأتي في مقدمة الحقائق التاريخية المشرفة والمشرقة في آن .. وهي التي لعبت دوراً بارزاً في الكفاح المسلح والنهوض السياسي والوطني بشكل عام .. فلا يغرنكم هذا الكم من الجمعيات الخيرية والثقافية النسائية في عدن التي لم تكن للترفيه أو التسلية ، فجلها تقريباً كانت غطاءً للعمل الوطني الشريف ، وهذا ما ميز المرأة العدنية عن غيرها من نساء أخريات مناضلات في عدد من البلدان العربية ، إذ لم تعمل مثلاً المرأة اليمنية في عدن في مجال الرقص أو الغناء أو ما شابه ذلك كغطاء لعملها السياسي .. بل كانت مشاركتها واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء فكانت تنشئ الفعاليات الاجتماعية المختلفة وتلقي الخطابات النارية فيها كما كانت تفعل المناضلة المنسية رضية إحسان الله وكانت تسير في مقدمة المظاهرات والحشود الجماهيرية غير مكترثة برصاص المحتل أو (الجَرجَرة) إلى المعتقلات كما حدث للمناضلات الجسورات معها نجوى مكاوي وصافيناز ونورا خليفة ونجاة راجح وعيشة سعيد وليلى جبلي وأنيسة سليمان ومنيرة محمود منيباري وهيام معتوق وعادلة صالح عوض ولطيفة شوذري وكثيرات غيرهن .. ورغم ما كُتب عن المرأة المناضلة في اليمن إلا أنها تبقى نزيف حبر على الأوراق ليس إلا.. ذلك لأن المرأة اليمنية والمناضلة بالذات لم تأخذ حقها بعد في الوصول إلى مراكز صنع القرار.. وهي المراكز التي لا زال يحتكرها الرجال دون منازع، والواقع يؤكد ذلك وليس أدل على ذلك من وصول امرأة واحدة إلى البرلمان اليمني وسط 300 رجل ...ومشهديات أخرى كثيرة تؤكد أن سلطة الرجل لا زالت هي الأقوى والأعنف . فتشوا أيها السادة .. وستجدون أن الكثيرات فارقن الحياة دون عزاء، وكثيرات مهملات في زوايا بيوتهن مستورات الحال، وعدد لا بأس به منزوٍ في ذاكرة التاريخ يشار إليه على استحياء وعدد لا يشار إليه البتة وكأن الاقتراب منه شر ماحق .. ملكة عبد اللاه واحدة من أبرز النساء المناضلات اللاتي سجلن مواقفهن النضالية بصمت وبسرية تامة وبات السر كامناً - حتى بعد الاستقلال الوطني لأرض الجنوب اليمني - في أعماق صاحبته وفي ذاكرة (الرجال المناضلين) عقوداً إلى أن أفرجت عنه في مساء أحد الأيام منذ بضعة سنوات في لقاء أجريته معها في بيتها بمدينة كريتر بعدن .. شاءت ظروف قاهرة ألا يُنشر في حينه .. وكانت ذاكرة ( الرجال المناضلين ) الذين شاركتهم معمعة النضال ضد المحتل أوصدت أبوابها عن ذكرها وكأنها لم تكن وهي التي كانت المرأة الوحيدة ضمن فريق التباحث مع مندوبي التاج البريطاني في جنيف قُبيل الاستقلال .. فكيف إذن تجاهلها الرفاق ؟! وليست ملكة هي الوحيدة التي غُيبَت عن ذاكرة التاريخ فهناك رجال ونساء كثر مثلها ، إلا أن الحقيقة دائماً هي المنتصرة شاء أم أبى الآخرون وذاكرة التاريخ أقوى من ذاكرتهم، فقط ، لعلهم يفقهون . بغيرها من فتيات مدينة الحب والجمال ،عدن، كانت الاستثناء من بنات جلدتها العدنيات .. طفلة .. أحبت اللعب بالعرائس وغنت ورقصت .. إلا أنها امتلكت حساً وطنياً وحباً عظيماً لبلدها الرازح تحت نير المحتل جعلها تتميز بعقل أكبر من سنها وبتشجيع من أمها انخرطت في صفوف المقاومين والمناضلين في الجبهة القومية وهي لم تزل في الخامسة عشرة من عمرها.. لتحقت في مدرسة الراهبات كغيرها من بنات الأسر المقتدرة ، إلا أن مستواها الاجتماعي والمعيشي لم يمنعانها من تلبية نداء الواجب والامتثال للقيم الإنسانية التي تتمثل في قول الصادق الأمين " حب لأخيك ما تحبه لنفسك " ، فاقتطعت من وقتها للنشاطات الاجتماعية .. جمعت التبرعات من الأموال والمواد الاستهلاكية والغذائية من التجار لتوزعها على الأسر الفقيرة والمعوزة المنتشرة في حواري عدن وفي أكناف الجبال.. وكانت مع عدد من قريناتها تقوم بزيارة السجون ودار العجزة الوحيد الكائن في مدينة الشيخ عثمان أسبوعياً وتوزع على النزلاء ما يحتاجونه من ملابس وبطانيات ومأكولات وغير ذلك . وتتذكر ملكة قائلة " كنت عضواً بارزة في فريق الكشاف في المدرسة حيث تعلمنا الإسعافات الأولية كما كنا ننظم الرحلات ونقوم بالتدريبات الرياضية .. لقد كانت من أجمل أيام عمري .. " تصمت ملكة هنيهة لتواصل ذكرياتها المخزونة منذ أكثر من ثلاثة عقود قائلة : " تولد في داخلي شعور بالتمرد من الأوضاع القائمة آنذاك وأنا أرى الكثير من أبناء بلدي يعانون من الفقر والمرض والجهل .. وقررت أن أعمل شيئاً أفرغ ما بداخلي من كراهية للوجود الاستعماري البغيض .. انخرطت في خلية نسائية للجبهة القومية ، وتدربت على السلاح والقنص في منطقة باب المندب على يد محمود سبعة وعبد الله الدحيمي وكانت المنطقة مناسبة للتدريب العسكري حيث كنا نقوم بقنص الغزلان .. شاركت في توزيع المنشورات السياسية المحرضة على النضال ، كما كنت أقوم بإخفاء السلاح في سيارتي التي أقودها وأوصلها للفدائيين ولأن الجنود الإنجليز لا يفتشون النساء فإنني كنت بكل سهولة أمر من أمامهم وبدون أية عرقلة حتى في أحلك الظروف السياسية وفي أوج غضب جنود الاحتلال في حالة حدوث العدوان عليهم من قبل الفدائيين .. لقد شاركت في الكثير من المظاهرات كغيري من نساء عدن كما ساهمت بطوعية في نشر الوعي السياسي بين صفوف النساء " . وهنا تصمت ملكة لتتناول المرطبات الموضوعة أمامنا على الطاولة ، ثم استأنفت ذكرياتها التي لم تشخ ، وكذلك لم يحفرا لزمن على بشرتها المائلة إلى البياض ، كما لم يتسلل إلى شعرها الشيب .. في الحقيقة لم أخفِ إعجابي بمحافظتها على هذه النعمة الإلهية .. قالت : " في أحد الأيام وكان ذلك عام 1967م وأتذكر أنه كان يوم أعلن فيه حضر التجول إذ كانت الأوضاع متأزمة .. جاءني الأخ سيف الضالعي وأخبرني بأنه تم اختياري في قيادة الجبهة القومية للمشاركة في وفد الجبهة للتفاوض حول استقلال الجنوب، وكان سبب الاختيار كما أخبرني لغتي الإنجليزية التي أتقنها والجرأة التي أتمتع بها ونشاطي السياسي .. وكان يجب علي أن أعد نفسي خلال 24 ساعة .. كانت لعلعة الرصاص لا تتوقف في مدينة عدن وكريتر بالذات وممنوع التجوال والخروج إلى الشارع .. لكني رغم كل الظروف خرجت ووصلت إلى فندق (سي فيو) في خور مكسر حيث اجتمع الوفد المشارك والذي ترأسه الأخ قحطان محمد الشعبي الذي أصبح رئيساً لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية بعد الاستقلال.. ومن هناك انطلقنا إلى المطار بالاتجاه إلى جنيف وبعلم السلطات البريطانية .. وقد بقينا فيها أسبوعان وسبب التأخير في البث هي مماطلة البريطانيين الذين كانوا يتعمدون تعطيل عدد من الاتفاقات والشروط التي كان يضعها الفريق اليمني الممثل لشعب الجنوب الحر". وتستطرد قائلة : " أشعر بالفخر لمشاركتي في ذلك اليوم التاريخي.. كنت حينها في العشرين من عمري تقريباً إلا أن حجم المسؤولية كانت أكبر مني وكنت أعيها تماماً " . أطلقت ملكة تنهيدة خافتة وكأنها أنة حزينة خرجت من أعماقها .. سألتها وماذا بعد ؟ ردت مبتسمة : " نلنا الاستقلال ولكننا لم ننل الأمان .. بدأ الأخوة ورفاق السلاح يقتلون بعضهم البعض .. دب الخلاف بينهم وتغيرت أمور كثيرة .. و كغيري من أصحاب المواقف المغايرة للأطراف الأخرى في التنظيم السياسي للجبهة القومية شعرت بالمضايقات الاستفزازية ، فتقدمت للحصول على منحة دراسية في فرنسا التي وصلتها في يناير عام 1971م لأبتعد عن الكثير من التهديدات .. والتي لم أسلم منها حتى أثناء عودتي إلى عدن لقضاء الأجازة الصيفية بين الأهل والأقارب .. وفي مطار عدن تم منعي من المغادرة والعودة إلى فرنسا وتم احتجاز جواز السفر من قبل (مباحث أمن الثورة) .. لم أدرِ إلى أين ألجأ .. حينها قررت الهروب متخفية إلى محافظة لحج ومنها إلى منطقة القبيطة مشياً على الأقدام وكنت متنكرة بلباس نساء الريف الأغبر ودهنت وجهي بالكركم( الهرد ) وشعري بالحناء كما تفعل النساء في الريف اليمني .. ولم أكن أملك فلساً واحداً ولا طعام .. قضيت يومين في أحد البيوت هناك وفي اليوم الثالث سرت وحدي في تلك المناطق المقفرة وفي الساعة الخامسة من فجر أحد أيام السبت، وكان الناس هناك يستعدون لبدء نشاط سوق السبت، حسب التقاليد عندهم في تحديد يوم للتسوق، تمكن أحد العسكر اليمنيين من التعرف علي بعد أن شك فيّ وعرف بأنني هاربة من عدن وهمّ بتسليمي إلى السلطات في عدن لولا أن أنزل الله تعالى الرحمة في قلبه وتركني أمضي في طريقي .. إذ مشيت إلى منطقة الراهدة ومنها وجدت سيارة لمسافرين حملتني إلى مدينة تعز في الشمال اليمني .. بعدها سافرت إلى صنعاء براً ، ساعدني في ذلك أحد أعضاء جبهة التحرير المحظورة في الجنوب، وفي صنعاء وجدت بعض المضايقات عندما علمت السلطات هناك بوجودي في منزل أحد أعضاء جبهة التحرير الذي استقبلني بكل ترحيب وحفاوة وتم التحقيق معي واستجوابي من قبلها لمدة شهر كامل لكن عندما علمت السلطات بأن سبب هروبي من عدن من أجل مواصلة الدراسة وما تعرضت له من مضايقات هناك قدمت كل الدعم وذللت لي الصعوبات بأن تم استخراج جواز سفر جديد وتذكرة سفر إلى فرنسا ومبلغ 500 ريال يمني وكان هذا المبلغ يساوي الكثير حينها .. وأثناء ذلك اتصلت بالسفير الفرنسي في صنعاء وأخبرته بأنني مواطنة يمنية تحصلت على منحة دراسية في فرنسا .. ورحب بدوره بذلك وساعدني على مواصلة الدراسة وكانت السلطات في عدن ألغت منحتي الدراسية .. وهكذا درست اللغة الفرنسية في كلية الآداب في جامعة (بيزنسو) في باريس وبعد عامين من التخرج درست في معهد الإدارة الدولية في كلية العلوم السياسية - القسم الدبلوماسي - في باريس أيضاً وأثناء الدراسة تم ابتعاثي إلى (أتوه) في كندا للمشاركة في دورة تدريبية . . نلت شهادة الماجستير عام 1976م بتفوق وأحضر الآن لنيل الدكتوراه من جامعة السوربون في العلوم السياسية والإدارية ".كان هذا اللقاء بالمناضلة الجميلة ملكة عبد اللاه قبل أكثر من عقد من الزمان ...