يبدو العالم العربي والإسلامي اليوم أمام عاصفة قادمة، لا محالة، تتمثل بصعود حركات الإسلام السياسي ونجاحها في الاختبار الانتخابي في العديد من الدول في الآونة الأخيرة. ولعل المثال - الذي لا يزال موضوعا حيويا للجدل الإعلامي والسياسي- فوز حماس الساحق في الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، وقد سبقه النجاح الملفت لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، على الرغم من كل القيود ومحاولات التحجيم، وهو ما يمكن أن ينطبق لكن بنسب متفاوتة على كل من العراق ولبنان والكويت والبحرين واليمن والأردن والمغرب العربي.في موازاة الصعود الإسلامي ثمة أسئلة تطرح نفسها حول مستقبل هذه الحركات ومدى قدرتها على تجاوز المخاضات السياسية العسيرة في المرحلة القادمة، في ظل عوامل دولية ومحلية وإقليمية متداخلة تشكل بمجموعها العام تحديات خطيرة تتطلب مرونة وقراءة سياسية فاعلة. من بين الأسئلة الملحة والمطروحة سؤال الإصلاح السياسي: فيما إذا كان انتصار حركات الإسلام السياسي يمثل حالة من النكوص الديمقراطي وخطوة إلى الوراء، على النقيض مما تشهده دول العالم الأخرى التي تسير بخطى متسارعة إلى الإصلاح السياسي، أم أن هذه الحركات ستكون هي القوى الحاملة لمشروع الإصلاح في العالم العربي والإسلامي؟التساؤلات السابقة تجيب عليها، بالدرجة الأولى، خطابات هذه الحركات وممارساتها السياسية. ففي الوقت الذي قدمت فيه جماعة الإخوان المسلمين في المشرق العربي (مصر والأردن وسورية) مبادرات إصلاحٍ تضمنت قبولا بمفاهيم الديمقراطية من تعددية سياسية، حق المعارضة، حقوق الأقليات، والشراكة السياسية مع القوى الأخرى، إلاّ أن هذه المبادرات لم تمثل "قفزة نوعية" حقيقية في الفكر السياسي للإخوان، إذ لا يزال هناك تردد حول التعامل بواقعية مع الحياة السياسية، ولا يزال شعار "الإسلام هو الحل" يفتقر إلى تفصيل عملي يمثل جوابا واقعيا على المشكلات السياسية والاقتصادية. في المقابل فإنّ حزب العدالة والتنمية التركي تمكن من إحداث "نقلة نوعية" في خطابه الفكري وممارسته السياسية، وتخلى تماما عن لغة الشعارات وانخرط في تجربة واقعية في الحكم وفي صفقات سياسية تتطلب قدرة عالية من البراغماتية، وقد صل قادة الحزب إلى إعادة الهيكلة الكاملة لمبادئه وشعاراته متخلين عن العنوان الإسلامي ليقترب الحزب أكثر من نموذج الأحزاب المسيحية المحافظة في أوروبا.ما بين النموذجين المشرقي والتركي تقع اليوم تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي، وعلى الرغم من حداثة مشاركة الحزب في الحياة السياسية والبرلمانية، إلاّ أنه يخطو خطوات ثابتة إلى الأمام ويقدم خطابا سياسيا متطورا يقوم على تأصيل فكري يجذر المفاهيم السياسية المدنية في التعامل مع الحياة السياسية الواقعية، وفي الوقت ذاته يحافظ على تواصل الحزب مع جذوره الإسلامية دون إحداث قطيعة كاملة، كما حصل مع حزب العدالة التركي.الجديد في خطاب "العدالة" المغربي، مقارنة بالتجربة المشرقية، هو تصالحه التام مع الديمقراطية ومفاهيم المواطنة دون تردد أو خجل، وتقدمه خطوات أكثر جرأة نحو الواقعية السياسية، وقد ساعد الحزب على ذلك وجود مثقفين ومفكرين بارزين كأمينه العام سعد الدين العثماني ود. محمد يتيم وأحمد الريسوني (أحد القادة البارزين في حركة التوحيد والإصلاح التي اندمجت في الحزب عام 1999). ويقدم الحزب نفسه، ابتداء، على أنه ليس حزبا دينيا، بل "حزب سياسي وطني يقوم على أساس المواطنة"، ويؤكد أمينه العام سعد الدين العثماني على الفصل بين النشاطات الدينية والوعظية والاجتماعية وبين النشاطات السياسية، وعلى ضرورة إبعاد المساجد عن الصراع الحزبي لتكون مظلة للمجتمع بأسره. وتحت عنوان "الإسلام قوة تخليقية" يؤكد الحزب على دور الإسلام في ترسيخ مفاهيم المسؤولية المدنية والأخلاقية والواجبات الوطنية. ويرى العثماني (في بحثه: الإسلام والدولة المدنية أزالة التعارض) أنّ الدولة الإسلامية هي دولة دنيوية تخضع لاعتبارات المصالح العامة والوطنية، ويجب أن يتم التعامل معها في إطار نسبي موضوعي، وأنه ينبغي التعامل مع السياسة على أنها "فن الممكن"، وفي هذا الموقف تأكيد للمسار الواقعي والمدني للحزب.كما يقدم الحزب قراءة نقدية للمشكلات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها المغرب، موضحا معالم رؤيته، بدرجة لا تصل إلى التفصيل والتحليل الذي كنا نقرأه في البرنامج الانتخابي لحزب العدالة التركي، لكن في الوقت نفسه، بتفصيل عملي أكبر من التجربة المشرقية، بخاصة في الجانب الاقتصادي، الذي يقدم فيه الحزب معالم رؤية عملية تتمثل بخطاب "ليبرالي معتدل" يقوم على ضرورة الانفتاح الاقتصادي والقبول بالخصخصة وبدور القطاع الخاص، لكن مع احتفاظ الدولة بدور اقتصادي في جوانب حيوية، بعيدا عن السياسة الاقتصادية الرعوية، ومظاهر الفساد الإداري والسياسي التي يرى الحزب أنها أحد أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية وهدر الموارد المالية في البلاد. وينطلق الحزب من القبول بالملكية الدستورية، والنضال في سبيل ترسيخ النهج الديمقراطي وتفعيل الحياة الحزبية والسياسية، معتبرا أن ذلك هو الطريق المعبد الرئيس نحو الإصلاح السياسي. لا تقف جهود الحزب الإصلاحية عند حدود المواقف السياسية المباشرة والممارسة العملية والبيانات السياسية، فهناك جهود فكرية ومعرفية موازية يقدمها نخبة الحزب لتجذير فكر إسلامي إصلاحي حقيقي يقوم على تغليب روح الاجتهاد والتجديد الديني بناء على مقاصد الشريعة وروحها العامة، وفي ذلك تواصل مع الفكر الإصلاحي الإسلامي الأول وبناء على مساهمات ابن باديس وابن عاشور وعلال الفاسي وقبلهم محمد عبدة وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي.الإطلالة على تجربة العدالة والتنمية (في المجال السياسي) وصنوانها التوحيد والإصلاح (في المجال الاجتماعي والدعوي) تدفعنا إلى القول: أننا أمام تجربة إسلامية عربية جديدة تتشكل لتقدم طرحا إصلاحيا جديدا، والمثير أن هذه التجربة ولدت من رحم جماعة الإخوان المسلمين في المغرب العربي، وهو ما يمثل محفزا لإخوان المشرق ليحذوا حذوهم. ووفقا لمؤشرات متعددة فإن الانتخابات النيابية المغربية القادمة 2007 ستمثل فرصة لاختبار الإسلام السياسي المغربي في السلطة.ـــــــــــــــــــ* نقلا عن جريدة "الغد" الأردنية
|
فكر
الإسلام السياسي بين المشرق والمغرب
أخبار متعلقة