دعاة الكراهية والمقاطعة ومثيرو الشغب، فرحون، لأنهم أثاروا حمية الجماهير فخرجت نصرة للرسول صلى الله عليه وسلم، ويعدون ما حدث أمراً إيجابياً، ومظهراً لوحدة المسلمين، حتى لو أحدث أضراراً وإساءة لصورة الإسلام والمسلمين، تمثلت في تظاهرات خربت وأحرقت واعت دخل نفسي لجمع المسلمين على هدف واحد ولا تهمّ الأضرار الاقتصادية لأن المعركة من أجل العقيدة لا الاقتصاد. هكذا يصوّرون الأزمة، وهم بما حصل ويحصل فرحون.ورغم أن الصحيفة المسيئة اعتذرت وكررت الاعتذار، ونشرته كإعلان مدفوع الأجر حين تجاهلته صحف عربية، وقال رئيس تحريرها: "المهم أن يرى الناس أننا آسفون للغاية". وجاء منسق سياسات الاتحاد الأوروبي خافير سولانا معتذراً، متعهداً بعدم تكرار الإساءة ومؤكداً احترامه العميق للمسلمين ورافضاً جرح مشاعرهم، قائلاً إن أوروبا لا تؤيد الرسوم المسيئة. ويتدخل المجتمع الدولي للتهدئة، فيرسل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ويأتي ليؤكد في اجتماع الدوحة (تحالف الحضارات) دعوته لاحترام الديانات والثقافات كافة.وبابا الفاتيكان بدوره يؤكد رفضه "حرية الإهانة" ويستنكر رئيس مجلس الكنائس العالمي ( آدام الأول) العمل غير الأخلاقي للرسوم ويقول: "أدين بشدة هذا التصرف، وأؤكد أن الناس من كل الأديان متفقون حول أسس أخلاقية عامة، ترفض هذه الأعمال المسيئة"، ويضيف: "إن مبدأ حرية الصحافة، أمر إيجابي، ولكن لا يجوز أن تُستغل لإهانة رموز الأديان والثقافات والمعتقدات". ويصرّح أسقف كوبنهاجن بأن المسيحيين في الدانمرك قد أهينوا بالرسومات، وتدعو كافة كنائس الدانمرك المسلمين لقبول الاعتذار، بل وتتعهد الدانمرك باتخاذ إجراءات قانونية ضد الإساءة وعدم تكرارها.ولكن كل تلك الاعتذارات، وكل تلك الجهود لم تفلح في زحزحة دعاة التصادم والعداء عن مواقفهم، يقول أحدهم: "هذه الفزعة، بشارات خير، ونتمنى أن يستمر المسلمون في المقاطعة حتى يجف ضرع بقرهم". ويرفض أمين عام تجمع ثوابت الأمة بالكويت، اعتذار الدانمرك لوقف المقاطعة ويؤكد استمرارها من دون استثناء، لأن معادن الرجال تظهر في الشدائد. وفي مهرجان خطابي حماسي يزايد بعضهم على بعض فيطالبون بقطع العلاقات الدبلوماسية - أيضاً- وبقطع النفط عن الدانمرك والنرويج حتى يتضرر اقتصادهما، وهناك من يطالب بمقاطعة شاملة لكل المنتجات الغربية، بل وحتى المنتجات الأميركية -إن أمكن- فنحن نستطيع أن نعيش على (التمر واللبن) ولأن هؤلاء -جميعاً- يضربوننا عن قوس واحدة لكنهم يتقاسمون الأدوار والكُفر ملّة واحدة، بعضهم أولياء بعض. ويفتي شيخهم بأن المقاطعة التزام ديني والتحركات الشعبية غير ملزمة بالاتفاقيات الرسمية.يريدونها حرباً شاملة وصداماً حضارياً عاماً، فالغرب يتربص بنا وهم في حالة حرب صليبية ضدنا تقودهم الأحقاد الدفينة والعنصرية الدينية، فلنواجههم بالمقاطعة الشاملة.ويتداعى عقلاء القوم في الساحة الإسلامية لمحاصرة الفتنة ولاحتواء الأزمة، مطالبين المسلمين بأن تكون نصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، بالأسلوب الحضاري الذي ينادي به الإسلام بتحكيم العقل، والدعوة بالحسنى والحوار البناء الذي يقيم علاقات صحية ناضجة مع الغرب لا بردّ الإساءة والاعتداء، فتدعو "منظمة المؤتمر الإسلامي" المسلمين إلى ضبط النفس موضحةً أن العنف لا يخدم المسلمين، ويقول الشيخ عبدالله التركي أمين عام "رابطة العالم الإسلامي": "محبتنا للرسول صلى الله عليه وسلم لا تدفعنا لإيقاع الضرر بالتجار". ويدعو إمام المسجد الحرام المسلمين إلى الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم برويّة وتعقّل.وتبدي الكويت استعدادها لاستضافة مثقفين وإعلاميين نرويجيين لإجراء حوار معهم وتعريفهم بالإسلام، ويتطوع نخبة من علماء المسلمين فيصدرون بياناً من القاهرة مؤكدين أن الاحتجاجات العنيفة مخالفة للشرع وهي تعزلنا عن العالم، ويذهب نخبة منهم إلى الدانمرك لإجراء حوار مع النخب الدانمركية. ويصرح الشيخ الجفري: "واجبنا منع التصادم بين الشرق والغرب". ويقول عمرو خالد: "إن شعب الدانمرك يحب السلام وإن تاريخه يشهد بأنه لم يعتد على أحد، وإن هناك قلة تتلاعب بمشاعر المسلمين، وعلينا محاصرة الفتنة". ولكن المؤسف أن يخرج علينا من يريد نسف كل تلك الجهود بحجة أن "الأمة بحاجة إلى منبهات". أي خير في منبهات تدفع الأمة إلى التناطح؟ ولماذا يريدوننا أن نستمر في مناطحة الغرب؟ يجيبنا على ذلك، جمال خاشقجي بقوله: "إنهم لا يريدون إحقاق حق أو نصرة مظلوم، وإنما التكسّب بمظالمنا كي يبرروا وجودهم وما ينعمون به من مكاسب مادية ومعنوية في مجتمع ما زال يسحر بكلامهم، إنهم يريدون سلطة، وليتها من أجل البناء والرخاء والسعادة، وإنما سلطة على خراب، يسودها صراع بين الأمم والشعوب... إنهم يريدون إقناعنا أن العالم كله ضدنا، يكرهنا، ويكره نبينا وديننا، فوجدوا فرصتهم وقضيتهم الرابحة في هذه الأزمة".إن ما هو أسوأ من الغرب، العداء الأعمى له، وإن تغذية نزعة العداء للعالم مباراة نحن الأخسرون فيها. لقد طالبنا القرآن بالتعاون على البر والتقوى وأن نقول للناس حسناً وأن ندفع بالتي هي أحسن، ووصفنا القرآن بأننا خير أمة تدعو إلى الخير والتسامح والسلام، وهؤلاء يريدون لنا أن نفرح بكراهيتنا للعالم! بانتقامنا من أوروبا؟هؤلاء الفرحون بأن "الغضب" وحّدنا و"الانتقام" جمعنا و"الكراهية" عمتنا، ويستبشرون خيراً بما حصل، يتناسون أن تلك كلها عوامل "هدم" لا "بناء"، إنها دليل "عجز" و"فشل" لا "قوة" و"تنمية" و"إنتاج"، فلا تُبنى المجتمعات ولا تتقدم بالغضب والكراهية والانتقام. ليتهم فرحوا بما هو "إيجابي" لا بما هو "سلبي".بالأمس فرحوا بـ"العمليات الانتحارية" ومجّدوها ورأوا أنها أسمى أنواع الجهاد، واليوم يفرحون بـ"الانتحار الاقتصادي والحضاري" ويرونه جهاداً سامياً... إنه العجز والإفلاس. وكما يقول خاشقجي ويضيف إنه دليل: "تردّي المجتمع عندما يجمعه عامل مشترك أدنى: الخوف والكراهية والغضب". هل يجمعنا عامل مشترك أعلى وأسمى وأبقى؟! ــــــــ عميد كلية القانون والشريعة سابقاً/ جامعة الدوحة
|
فكر
ليتهم فرحوا بما هو أسمى
أخبار متعلقة