لا أتخيل أنّ حزباً فيه الدكتور رفعت السعيد، يمكنُ أنْ يبتلع طعم الغزل المشبوه الذي تدسه الجماعة المحظورة لأحزاب المعارضة المصرية، لأنّه معروف عنه أنّه أشد المعارضين للجماعات المتطرفة والدولة الدينية.. ولكن حسين عبدالرازق يمكنُ أنْ يفعلَ ذلك ويجلسُ مع وفد المحظورة على مائدة واحدة. ليس حباً فيهم ولكن نكاية في الحكومة.. ويمكنُ أنْ يلهث وراء الطعم ـ أيضاً ـ الدكتور أسامة الغزالي حرب المتحوِّل سياسياً نحو أي جامعة يتصور أنّها يمكنُ أنْ تكون له سنداً ونصيراً.. أما حزب الوفد فعنده حصانة تاريخية ضد آلاعيب المحظورة موروثة من فطنة ودهاء فؤاد سراج الدين رحمه الله.. ويبقى الحزب الناصري الذي تتصور بعض قياداته أنّ المحظورة يمكنُ أنْ تنسى الثأر التاريخي من الثورة وقائدها جمال عبدالناصر.لقد دب الحماس فجأة في كيان «المحظورة»، واكتشفت أنّها قطعت صلة الرحم مع أحزاب المعارضة المصرية، وأرادت أنْ توصلها في شهر رمضان الكريم، في زيارات مكوكية خاطفة، باءت بالفشل في حزب الوفد لكنها عقدت في التجمع دون حضور رفعت السعيد، وكان الشعار الزائف المرفوع هو «مد جسور التواصل مع القوى السياسية».[c1]1 - مخاطر حالة «اليأس السياسي»![/c]من حقِ أحزابِ المعارضة المصرية أنْ تجتمع مع من تشاء من القوى السياسية، فهذا حقها الدستوري، ولكن الدستور ـ أيضاً ـ وضع ضوابط وضمانات لحماية الحياة السياسية من العبث باسم الدين، ولا يختلف أحد مع فكرة الدولة المدنية التي تحمي الوطن ومواطنيه من حمى التعصب والتطرف الديني.. والسؤال هنا : هل أعلنت المحظورة صراحةً أو ضمناً أنّها مع الدولة المدنية؟!المحظورة تريد أنْ تشكل نظاماً سياسياً على مقاسها، ولا تريد أبداً الاندماج في النظام السياسي القائم الذي يمنح الأحزاب السياسية الشرعية حقوقاً قانونية ودستورية، دون التفاف أو اختراق أو تسلل، كما تفعل المحظورة التي تريد التحايل على النظام بأي شكلٍ، باستغلال شعارات دينية تحتكرها لنفسها، وتميز نفسه دون غيرها من القوى والأحزاب السياسية بأنّها تريد الدين والسياسية في صفقة واحدة.كيف ـ إذن ـ تتمُ عملية مدْ الجسور بين المحظورة وأحزاب المعارضة دون أنْ تطمئن الأحزاب على فكرة مدنية الدولة، التي تحمي البلاد من الفتن والصراعات الدينية والطائفية والعرقية؟ وهل يتصوَّر أعضاء حزب التجمع أنّ المحظورة سوف تعطيهم جزءاً من الكعكة حال وصولها المستحيل إلى السلطة، أم أنّهم سيكونون أول من تدق عظامهم وتـُزيِّنُ بجثثهم الميادين؟!هذه الأسئلة يعرفُ إجابتها جيداً حسين عبدالرازق وأمينة النقاش والدكتور سمير فياض، الذين استقبلوا وفد المحظورة، لكن يبدو أنّ سنوات اليأس السياسي التي تعيشها بعض الأحزاب تدفعها إلى البحث عن أية وسيلة للخروج من العزلة، حتى لو كان ذلك بالارتماء في أحضان الخطر![c1]2 - الوفد وحصانة الماضي[/c]لم تتمُ زيارة المحظورة لحزب الوفد، والمرجح أنّها لم تتم لأنّ الوفد هو أكثر الأحزاب المصرية التي عاشت مآسي المحظورة منذ نشأتها، سواء قبل الثورة أو بعد عودة الأحزاب السياسية في السبعينيات.. وكان وفد ما قبل الثورة أكثر دراية ووعياً، وكانت مواقف فؤاد سراج الدين أكثر شدة ووضوحاً، ولا تنس أنّ قرار حل جماعة الإخوان المسلمين صدر قبل الثورة وعلى يد حكومة النحاس باشا الوفدية.نتذكر أيضاً فؤاد سراج الدين حين كان وزيراً للداخلية قبل الثورة استدعى الى المكتبه مؤسس الجماعة حسن البنا، وواجهه بعنف وشراسة وطلب منه أنْ تـُحددَ الجماعة هويتها، فإما أنْ تكونَ دينية، وبالتالي تبتعد عن السياسة، وإما أنْ تكون سياسية، وبالتالي لا تستخدم الدين في دعايتها، ولكن البنا ناور وراوغ وتهيب من تحديد هوية جماعته.تكرر المشهد في الثمانينيات، وتحالف الوفد مع الجامعة المحظورة في الانتخابات البرلمانية بنظام القائمة، وحصلت بعض عناصر الإخوان على عدة مقاعد في البرلمان، وعندما أرادوا اقتسام الحزب مع فؤاد سراج الدين كان يقظاً لخدعتهم، وقرَّر أنْ يتغذى بهم قبل أنْ يتعشوا به، وانتهت اللعبة بخروجهم من الوفد، وحاولوا مع أحزاب أخرى، لكن محاولاتهم باءت بالفشل.[c1]3 - القفز فوق الثأر التاريخي[/c]أغرب صور الغزل المشبوه هي اللقاءات التي تتمُ بين حين وآخر بين المحظورة وبعض القيادات المنسوبة للتيار الناصري، خصوصاً القيادات التي كان لها موقف معادٍ للمحظورة أيام حكم الرئيس عبدالناصر، ولكنها تحاول الآن أنْ تقفز فوق الثأر التاريخي الموروث.. الذي لن تغفره أبداً الجماعة المحظورة.المحظورة بدورها لا ترفض الغزل الناصري، ولكنها في الوقت نفسه لا ترحب به وتتعامل معه على مضض، فلن تنسى أبداً لعبد الناصر أنّه مزَّق صفوفهم وقضى على قوتهم في حملتين شهيرتين في أواخر الخمسينيات ومنتصف الستينيات.. ويلتزم الناصريون القدماء أمثال محمد حسنين هيكل بالصمت السياسي تجاه ممارسات المحظورة، وفي أحيانٍ أخرى تحمل آراؤهم وتحليلاتهم نوعاً من النفاق أو الخوف السياسي.فشل التيار الناصري في أنْ يكون له تواجد قوي وملموس في الشارع السياسي، هو الذي يدفع بعض التيارات داخل الحزب بأنْ تفتحَ حواراً مع المحظورة، بوهم أنّ التنسيق يمكنُ أنْ يكون مفيداً للجانبين، ولكن فشلت كل المحاولات في الانتخابات البرلمانية الماضية، ويبدو أنّ أوجاع الماضي جعلت هذا التقارب شبه مستحيل.[c1]4 - الحجج القديمة والمتغيِّرات الجديدة[/c]تكتسبُ المحظورة وجودها بسبب هشاشة وضعف أحزاب المعارضة التي ما زالت تعلق ضعفها وفشلها على شماعات لم يُعد لها وجود، مثل قانون الطوارئ الذي تتهمه بأنّه يحول دون اتصالها بالجماهير، وكانت الصورة الوحيدة للاتصال هي السرادقات التي تـُقام في الشوارع.. في الوقت الذي أصبح فيه «الفيس بوك» مثلاً أكبر شبكة اتصال بين الجماهير.مثل هذه الحجج القديمة تثيرها الأحزاب القديمة مثل الوفد والناصري والتجمع، بينما الأحزاب الأخرى يكادُ يكون تواجدها محصوراً في الصحف التي تصدرها أو الأشخاص القليلين الذين يحضرون لمقراتها وفيما عدا ذلك، أصبحت الساحة السياسية شبه خالية، ويزداد الأمر صعوبة لأنّ معظم الأحزاب لا تملك برامج للمستقبل. وتفتح بارقة أمل لأنْ يكون لها دور أو تواجد ملموس.من ثغرة الفراغ السياسي تحاول المحظورة النفاذ إلى الأحزاب وإلى الناس، فهي توهمُ الأحزاب بقدرتها على دعمها جماهيرياً، وتوهم الناس في الوقت نفسه بأنّ أحزاب المعارضة لا ترفض وجودها رغم أنّها خارجة عن إطار الشرعية.. وسوف تستمر هذه اللعبة في المستقبل، خصوصاً في السنوات الصعبة القادمة التي تشهد انتخابات برلمانية في الشعب والشورى وانتخابات رئاسية، ولا تملك أحزاب المعارضة خططاً واضحة للتعامل مع المستقبل.[c1]-5 اصطياد مشاكل الجماهير[/c]باتت هذه اللعبة مكشوفة ومفضوحة لدى قطاعات كبيرة من الرأي العام، حيث وظفت المحظورة وجودها في بعض الأحداث والمشاكل الجماهيرية التي تكتسب من ورائها شعبية، ولكن عمليات الخداع لا يمكنُ أنْ تستمرَ الى ما لا نهاية. واكتشفت أحزاب المعارضة زيف دعاوى المحظورة في أحداث كثيرة آخرها الدويقة.المحظورة ترفضُ مبدأ التنسيق مع أحزاب المعارضة في القضايا التي تخدمُ الجماهير؛ لأنّها تريد أنْ تحتكر الأمر لنفسها، ولكنها تنادي دائماً بالتنسيق السياسي في الأوقات التي تشعر فيها بالعزلة والأزمة، وأنّها تريد كسر عزلتها بلقاءات الغزل المشبوه التي تنتهي بالفشل، لأنّ الهوة بين المحظورة والأحزاب واسعة، ولا يمكن سدها بمثل هذه اللقاءات الهامشية.المحظورة تحاول الصيد في أزمات الأسعار ومياه الشرب ورغيف الخبز والبطالة، وهي المشاكل الملحة التي كان من المفترض أنْ تتبناها برامج الأحزاب وخططها، وتتعامل مع هذه المشاكل من زاوية واحدة هي تضخيمها وزيادة حدتها، واللعب على مشاعر وأحاسيس الجماهير دون تقديم خطط أو حلول أو تصورات للمستقبل.[c1]6 - الاعتداء على حقوق الأقباط والمرأة[/c]في الوقت الذي تتاجر فيه المحظورة بقضايا الناس، أفصحت عن نواياها القديمة في الاعتداء على الدستور الذي يكفل الحقوق المتساوية لأفراد المجتمع. بما في ذلك المرأة والأقباط، وتتمسك عناصر المحظورة وبرنامجهم بالانتقاص من الحقوق السياسية للفئتين.. والسؤال هنا : كيف يكون تبادل الآراء والتنسيق بين المحظورة والأحزاب السياسية، بينما هي تعتدي على حقوق جزءٍ أصيلٍ من الشعب المصري وتحرمه من العدالة والمساواة؟ماذا يمكن أنْ تقول أحزاب المعارضة للرأي العام؟. وهل عبَّرت عن رفضها واستيائها من إصرار المحظورة على حرمان المصريين من حقوقهم لأسباب دينية وعنصرية؟ وكيف قبلت أمينة النقاش ـ مثلاً ـ أنْ تجلس على مائدة واحدة مع أعضاء المحظورة الذين ينقصون حقوق المرأة؟.. كيف قبلت ذلك وهل تنتمي الى التيار اليسار الذي يرفض مثل هذه الآراء المتخلفة التي كانت السبب الرئيسي وراء معاناة المرأة وتراجع دورها في المجتمع ؟لقد حاول بعض «محللي» المحظورة في الفترة الأخيرة أثناء عناصرها عن فكرة انتقاص حقوق المرأة والأقباط، وألا يكون ذلك بشكل مُعلنٍ وصريحٍ في البرنامج، غلا أنّه رفضوا ذلك تماماً، رغم أنهم الآن في حالة استعطاف للرأي العام، فما بالنا إذا «تمكنوا»؟ [c1]7 -كل المحاولات كانت فاشلة ![/c]سواء قبل الثورة أو بعدها، سواء أيام الملك فؤاد أو فاروق، أو في فترات حكم الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك.. أثبتت التجارب والدروس أنّ المحظورة لا يؤتم جانبها، وأنّها لم تقترب من أي نظام حكم أو تحالفت مع أية جماعة سياسية، إلا وانقلبت عليها.. لأنّ فلسفة الجماعة هي الدين والسياسة معاً، والوصول إلى السلطة عبر شعارات دينية تثير الفرقة والفتنة بين أبناء الوطن الواحد.ما أخذه الوفد حين تحالف مع المحظورة في الثمانينيات، يمكن أنْ يأخذه التجمع والناصري إذا تحالفاً مع المحظورة في الوقت الراهن، وما فعلوه مع الرئيس السادات الذي رفع شعار الرئيس المؤمن، وفتح لهم أبواب السجون والمعتقلات وأعادهم إلى الحياة السياسية، يمكنُ أنْ يفعلوه مع غيره، لأنّ الجميع من وجهة نظرهم هم «سلمة» للصعود إلى السلطة.أحزاب المعارضة التي تستكين لحالة الغزل المشبوه مع المحظورة، تعرف ذلك جيداً وتحفظه عن ظهر قلب، وتعرف أنّ مصيرها هو الغدر والخيانة، ولكنها تقدم على ذلك كنوع من المكيدة السياسية للحزب الحاكم، الذي تتهمه بأنّه يحتكر السلطة، ولا يترك لها حتى الفتات.. والسؤال هنا :هل من مصلحة الحزب الحاكم أنْ يترك أحزاب المعارضة تتآكل في عزلتها وتترك الساحة شاغرة للمحظورة؟ أم يجب أنْ يمدَ لها يد العون والمساعدة التي تنهض، وتقوم بتصحيح الخريطة السياسية؟[c1]8 - الكرة في ملعب الحزب الوطني[/c]أتصوَّر أنّ الحزب الوطني في حاجةٍ لأنْ يقوم بخطوة أكبر من مؤتمرات الحوار التي جمعته في السنوات الماضية مع أحزاب المعارضة، وثبت فشلها ولم تؤد إلى التقارب، بل مزيدٍ من الاختلاف والتباعد.إذا كانت الحياة السياسية أشبه بدوري كرة القدم، فالمنافسة لن تشتعل ولن تكون حقيقية وشيِّقة غلا إذا ضمَّت أكثر من فريقٍ لديه القدرة والكفاءة على خوض المنافسات الشرسة القادمة سواء في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، وهي محطات ديمقراطية مهمة وخطيرة، وتفتح الطريق إلى الممارسة الديمقراطية التي يستحقها هذا الشعب.الغزل المشبوه الذي تتبناه المحظورة هو مجرد طعم فاسد للصيد في الماء العكر، لكن لن يُقدِّم ولن يُؤخر، ولن ينفع أحزاب المعارضة، ولن يخلصها من عزلتها ولن يفتح لها الطريق أمام الجماهير.. وليس متصوراً أنّ المحظورة لا تنام الليل من أجل أحزاب المعارضة وأنّها مهمومة بالتفكير فيها وفي مصلحتها.الطريق الوحيد هو أنْ تجيب أحزاب المعارضة عن ثلاثة أسئلة مهمة :أين نحن الآن؟.. أين نريد أنْ نصل؟ كيف نصل إلى هناك.. وإذا فعلت ذلك فسوف تهوِّن على نفسها كثيراً في الماراثون الديمقراطي الشاق.[c1]* عن مجلة ( روز اليوسف )[/c]
|
فكر
الغزل المشبوه !
أخبار متعلقة