قبل أن يسمي المؤتمر الشعبي العام الرئيس على عبدالله صالح مرشحه لخوض الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها البلاد في 20 سبتمبر 2006 م، كانت أحزاب المعارضة المنضوية في إطار «اللقاء المشترك» تطالب رئيس الجمهورية عبر بيانات مشتركة أو أحاديث صحفية، بالتنحي عن رئاسة وعضوية المؤتمر الشعبي العام، والوقوف محايداً في الخلافات السياسية بين الأحزاب، وحكماً بينها وراعياً للعمل السياسي لا مشاركاً فيه، بمعنى أنّهم كانوا يدعون الى تحييد وظيفة رئيس الدولة في ساحة الممارسة السياسية، وما يترتب على ذلك من إشكاليات نظرية ودستورية تتعلق بالسلطة السياسية للدولة، في حالة الاستجابة لهذه الدعوة!!يمكن القول بأنّ إصرار قيادات أحزاب المعارضة على طرح هذا المطلب قبل أن يحسم المؤتمر الشعبي العام تسمية الرئيس علي عبدالله صالح مرشحه في الانتخابات الرئاسية كان يعكس شعوراً لديها بأهمية وضرورة تحييد السلطة السياسية للدولة في خلافها مع الحزب الحاكم ، بيد أنّ هذا « الشعور» يُعاني من أزمة بنيوية في تقديرنا بسبب عجز هذه القيادات عن فهم وظيفة السلطة السياسية للدولة، ولذلك فإنّ موقفها من هذه الوظيفة كان ينطلق كما هو واضح من نطاق «الشعور» بأهمية تحييد هذه الوظيفة لا من نطاق «الوعي» بها وبالتالي فهمها.. وهنا وقعت قيادات أحزاب المعارضة في مأزق آخر يتمثل في افتقارها لمنهج معرفي يساعدها في تحليل وظائف الدولة ونظم التغير في هذه الوظائف والبيئة التاريخية التي تؤثر في صيرورة نظم التغيُّر.ما من شكٍ في أنّ هذا المأزق، يعد أحد تجليات الأزمة العامة التي تعيشها أحزاب المعارضة المحسوبة على اليسار القومي واليسار الاشتراكي والتيار الإسلامي، بسبب عجزها عن إعادة بناء فكرها السياسي وتجديد هويتها المعاصرة في ضوء المتغيرات الجذرية التي شهدتها البيئة العالمية، والاختلالات العميقة التي عصفت بالبنى الأيديولوجية، لهذه الأحزاب، الأمر الذي يفسر اضطراب أطرها الفكرية الحالية بوصفها واحدة من المحددات التي يتوقف عليها نجاح هذه الأحزاب في امتلاك أدوات التحليل المعرفية، وبالتالي صياغة مواقف سياسية واعية، أي مبني على عنصر « الوعي» لا عنصر «الشعور» كما هو حاصل الآن.إنّ أهم ما يميِّز وظائف الدولة هو الميول الموضوعية لتأمين شروط ممارسة السيادة والسلطة على رقعة الأرض التي تمثلها هذه الدولة، فيما يقوم شكل النظام السياسي للدولة بتحديد مصادر الشرعية للأطر والمؤسسات التي تُمارس السيادة والسلطة.في هذا السياق يمكن القول إنّ الحكومة هي واحدة من الآليات التي تمارس الدولة من خلالها سلطتها السياسية سواء على الصعيد الداخلي أوالخارجي، فيما تدل محاولة الفصل بين الدولة والحكم على سطحية وسذاجة في التفكير.. لأنّ الحكومة ليست بديلاً للدولة وليست مستقلة عنها في الوقت نفسه، فالسلطة التنفيذية للحكومة والسلطة التشريعية للبرلمان وسلطة الدستور والقانون التي يمارسها القضاء للفصل في المنازعات والخلافات بين الأفراد والجماعات، كل هذه السلطات هي أشكال متنوعة لسلطة الدولة ومكملة للسلطة السياسية لرئيس الدولة وليست مستقلة عنها.. ولذلك لا يجوز تحييد أو تهميش أياً منها بدعوى حراسة الدين أو حماية الديمقراطية، إذ يؤدي مثل هذا الموقف إلى الخلط بين مبدأ الفصل بين السلطات لمنع الاستبداد والحكم المطلق، وبين الدعوة إلى تهميش أو تحييد وظيفة السلطة السياسية للدولة ورئيسها باسم الديمقراطية.تمارس الدولة حضورها في العالم المعاصر وعلى وجه الخصوص في مواجهة تحديات العولمة من خلال وظيفة السلطة السياسية، وتتجسد هذه السلطة في مجالات حيوية مثل إصدار التشريعات والقوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي ومساراته، وإدارة المفاوضات مع العالم الخارجي بشأن المسائل المتعلقة بالتجارة الحرة وتدفق رؤوس الأموال وهيكلة الأسواق التي أصبحت في ظل العولمة سوقاً عالمية واحدة، وصولاً الى إعادة هيكلة المصالح المتنوعة لكافة القوى الاقتصادية والفئات الاجتماعية.وبالنظر إلى الطابع الكوني للاقتصاد العالمي، فإنّ ثمة ترابطاً بين مصالح هذه القوى والفئات على الصعيد الداخلي ، وبين مصالح موازية لها على الصعيد الخارجي يعبر في نهاية المطاف عن مجموعة مصالح ذات بعدين داخلي وكوني.والحال أنّ نمط الإنتاج الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق يتميز عن أنماط الإنتاج السابقة للرأسمالية بكونه عالمياً، وقد دخل في أواخر القرن العشرين طوراً جديداً هو العولمة بما هي مرحلة أخرى لما بعد ا لعالمية.. ويتميّز اقتصاد السوق في هذه المرحلة بكونه نظاماً اقتصادياً كونياً يتكوّن من وحدات إنتاجية متنافسة في إطار آليات السوق الكونية.قبل العولمة كانت النظريات الاقتصادية المختلفة (الرأسمالية والاشتراكية) تبحث في المسائل والتناقضات المتعلقة برأس المال والعمل في إطار نمط الإنتاج السائد .. واليوم نجد صورة مختلفة، فرأس المال عالمي، والسوق المالية والنقدية والمصرفية عالمية، ونمط الإنتاج هو الآخر عالمي.. وبالإضافة إلى ذلك هناك منظومات اقتصادية ومالية وتجارية متعددة الجنسيات وعابرة للحدود والقارات، تنشط في المساحة الواقعة بين الفرد والنطاق النهائي للممارسة السياسية على الصعيد الكوني، الأمر الذي أدى إلى ولادة مجموعة جديدة من العمليات والتناقضات بين مصالح هذه المنظومات الكونية التي أشرنا إليها، وميول إصلاحية تسعى إلى إضفاء أبعاد إنسانية عليها أو ما يصطلح عليه بأنسنة العولمة.بهذا المعنى تعتبر الدولة هي الساحة الرئيسية للسياسة سواء على النطاق الداخلي أو الكوني.. وإذا كانت ثمّة منظومات اقتصادية ومالية وتجارية كونية تضغط لتهميش وظائف الدولة، بهدف أضعاف حضورها في مجال الممارسة السياسية، حيث يشكل هذا الحضور عائقاً أمام الميول غير الموضوعية لنشاط ومصالح هذه المنظومات، فإنّ الدعوة إلى تحييد دور الدولة في الصراع السياسي الداخلي - وهو عبارة عن صراع مصالح بالدرجة الأولى - يتقاطع في نقطة مشتركة مع هذه التحديات الخارجية.[c1]الاستقلال النسبي[/c]الثابت أنّ تطور منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية بقدر ما أسهم في إعادة صياغة العَلاقة البنيوية بين الدول والشعوب من جهة، ورؤوس الأموال والأسواق والتكنولوجيا والعلوم من جهة أخرى بقدر ما أسهم أيضاً في إعادة تعريف الدور الوظيفي للدولة، باتجاه توسيع مشاركة المجتمع بكافة قواه الاقتصادية وفاعلياته السياسية والثقافية في إدارة شؤونها وبلورة أهدافها الإستراتيجية، على النحو الذي يجعل من السلطة العليا للدولة قيادة سياسية بالدرجة الأولى، وهو ما يدحض بعض الأفكار النظرية التي روجت لما يسمى «الاستقلال النسبي» للدولة عن المجتمع!.صحيح أنّ ثمّة نظماً سياسية مختلفة في الدول المعاصرة، إلا أنّ هذا التنوع لا يلغي وظيفة السلطة السياسية لرئيس الحكومة التي تمثل الغالبية المنتخبة في البرلمان، حيث تتولى هذه الحكومة ممثلة برئيسها وظيفة السلطة السياسية العليا للدولة داخلياً وخارجياً، فيما يلعب الملك في النظام الملكي الدستوري أو الرئيسي في النظام الجمهوري البرلماني دوراً محدوداً في ظروف استثنائية فقط ، وذلك بهدف تطويق أي أزمة قد تؤدي إلى شلل أو فراغ دستوري في حالة تفاقم الخلاف بين الحكومة المنتخبة والبرلمان المنتخب، وذلك من خلال التدخل بحل الحكومة أوالبرلمان أو كلاهما معا وصولا إلى الدعوة لانتخابات عامة خلال فترة معلومة يحددها الدستور.أما النظام الرئاسي الديمقراطي الذي يسود معظم دول العالم، فإنّه ينيط وظيفة القيادة السياسية للدولة بالرئيس المنتخب، الذي يمثل عادةً حزباً سياسياً وبرنامجاً انتخابياً، حيث يكون من حق الرئيس والحزب اللذين فازا بثقة الأغلبية تنفيذ سياسة حزبه وبرنامجه الانتخابي بواسطة سلطة الدولة السياسية وآلياتها المختلفة وبضمنها الحكومة.صحيح أنّ الأقلية تحظى بالحق الدستوري في ممارسة الرقابة من خلال مؤسسات الدولة الدستورية وآليات المجتمع المدني والرأي العام، إلا أنّ ذلك لا يعني حرمان الرئيس المنتخب، ومن خلفه الحزب الذي يمثله من ممارسة وظيفة السلطة السياسية للدولة بدعوى تحييد رأس الدولة.. لأنّ ذلك يشكل عدواناً على حقوق الأغلبية المنتخبة في توظيف السلطة السياسية للدولة من أجل تنفيذ البرنامج الانتخابي الذي نال ثقة الشعب كمصدرٍ لهذه السلطة!ولما كان الطابع التعددي للنظام ا لديمقراطي يعكس المصالح المتنوعة في المجتمع، وهو تعدد لا يخلو من التنافس والاستقطابات والتوازنات الداخلية، فإنّ الدستور وحده هو الذي يتولى رعاية هذه العمليات والتوازنات والفصل في المنازعات التي تنشأ عنها من خلال آليات دستورية، وليس من خلال السلطة السياسية للدولة التي تبقى على الدوام موضوعاً لهذا التنافس وليس حكماً بين المتنافسين.لو تصرفت الدولة وقيادتها السياسية باستقلالية وحيادية كما كانت تريد أحزاب ((اللقاء المشترك)) قبل الانتخابات، فإنّ ذلك كان سيعد في نهاية المطاف إجحافاً بحق الحزب الفائز بثقة الأغلبية في تنفيذ برنامجه من خلال وظائف الدولة السياسية الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية.... الخ، إذ لا يجوز دستورياً أن تحول ا لدولة دون تمكين حزب الأغلبية من تنفيذ برنامجه السياسي الذي فاز على أساسه مرشحو هذا الحزب لرئاسة الدولة والحكومة.حاول بعضهم تبرير الدعوة لتحييد رئيس الجمهورية عن المباراة السياسية بين الأحزاب السياسية بالقول أن الرئيس لم يكن في دورته الرئاسية السابقة مرشح المؤتمر الشعبي العام فقط ، بل كان أيضاً مرشح التجمع اليمني للإصلاح الذي أعلن أنّ الرئيس هو مرشحه أيضاً لانتخابات الرئاسة خلال الفترة 2000 - 2006 م .الرد على هذا القول كان دائما ً في غير صالح التجمع اليمني للإصلاح، فالتقاليد الديمقراطية توجب على كل الأحزاب السياسية أن تتنافس من أجل نيل ثقة الناخبين سواء في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية على أساس الاختلاف في البرامج السياسية.وعندما كان حزب الإصلاح يزعم بانّ الرئيس علي عبدالله صالح هو مرشحه أيضاً، وبالتالي يجب عليه أن يكون على الحياد، فقد ارتكب بذلك خطأ تاريخياً وصل إلى درجة التدليس، لأنّ برنامج المؤتمر الشعبي الذي يرأسه الرئيس علي عبدالله صالح وترشح على أساسه في الدورة الرئاسية السابقة 2000 - 2006 م، يتعارض مع برنامج التجمع اليمني للإصلاح.وما من شك في أن القول بأنّ رئيس المؤتمر الشعبي العام هو مرشح حزب الإصلاح في تلك الانتخابات الرئاسية أنطوى على نوعٍ من المزاح والخفة ، لأنّه كان يعني تخلي حزب الإصلاح عن برنامجه في تلك الانتخابات لصالح برنامج المؤتمر الشعبي العام ، وهنا لم يكن يحق له أو لغيره من الأحزاب استثمار تلك المزحة الانتخابية والمناورة بها لتحييد الرئيس بعيداً عن برنامج حزبه الذي رشحه لانتخابات الرئاسة وحاز على ثقة غالبية الناخبين بناءً على ذلك البرنامج.الحال كذلك أيضاً بالنسبة للحزب الاشتراكي الذي رشح أمينه العام لخوض معركة الاتنخابات الرئاسية 2000 - 2006م في مواجهة مرشح المؤتمر الشعبي العام في تلك الانتخابات أيضا والذي هو الرئيس علي عبدالله صالح، بيد أنّ مرشح الاشتراكي لم يتمكن من الحصول على العدد المطلوب من أصوات مجلس النواب لتزكية ترشيحه بناءً على ما تقتضيه النصوص الدستورية.. وعندما كان الحزب الاشتراكي يطالب هو الآخر من الرئيس أن يتخلى عن حزبه ويبقى محايداً في خلافاته مع أحزاب المعارضة، فقد جسد بذلك الموقف سلوكاً غير ديمقراطي وغير دستوري، ناهيك أنّ الخلافات بين الأحزاب هي خلافات سياسية تعكس مصالح مختلفة، بعضها يتصل بتيارات المصالح الاقتصادية والسياسية في البيئة العالمية، الامر الذي يقتضي حضور السلطة السياسية لرئيس الدولة لا تحييده.لعل ذلك يفسر ما قاله هارولد ولسون رئيس حزب العمال البريطاني الذي ترأس الحكومة البريطانية، في أواخر الستينات حتى منتصف السبعينات، حين شبَّه الدولة بالسيارة قائلاً : «إنّ من يكسب الانتخابات يحصل على مفتاح تحريك السيارة ويحق له الجلوس في مقعد القيادة ثم يوجه السيارة أما في اتجاه اليسار أو في اتجاه اليمين».والثابت أن أحزاب اللقاء المشترك أدركت صعوبة الإنفراد بالمؤتمر الشعبي بعد تجريده من الرئيس علي عبدالله صالح بما هو قائده ومؤسسه حيث قررت خوض الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سبتمبر 2006 الماضي بمرشح مشترك وبرنامج مشترك أيضا ً، الأمر الذي يعد وبكل المقاييس تقدما إيجابيا أنجزته هذه الأحزاب لجهة استيعابها لمعايير العملية الديمقراطية التعددية، بيد أن فشلها في فوز مرشحها بمنصب رئاسة الجمهورية وعجزها عن الوصول الى القصر الجمهوري بالوسائل الديمقراطية يجسد عمق التباينات في مواقف أحزاب المعارضة وحزب الأغلبية تجاه مسائل تتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية. وبصرف النظر عن رأينا في عجز أحزاب المعارضة عن استيعاب المتغيرات الحاصلة في البلاد والبيئة العالمية، واعتمادها على الشعارات الشعبوية في صياغة برامجها وسياساتها، وعدم امتلاكها برنامجاً واقعياً يؤهلها لتحمل مسؤولية قيادة الدولة والبلاد والمجتمع، فإن قبولها خوض الانتخابات الرئاسية للفترة الدستورية القادمة 2006 - 2012م بمرشح مشترك ينافس الرئيس علي عبدالله صالح كمرشح لحزب المؤتمر الشعبي العام الذي حصد نجاحاً كبيراً في تلك الانتخابات التي أعترف العالم بنزاهتها وشفافيتها، يكون قد وضع حدا حاسما للدعوات التي كانت تطالب بتحييد منصب رئيس الجمهورية في العمل السياسي بمعنى العدوان على الشرعية الدستورية التي تعطي الحق للرئيس المنتخب في ممارسة السلطة السياسية للدولة، بقدر ما تعطي الحق أيضاً لحكومة حزب الأغلبية في تنفيذ برنامجها استناداً إلى وظائف الدولة، وبضمنها السلطة السياسية لرئيس الجمهورية[c1]نقلا عن / صحيفة (26 سبتمبر)[/c]
|
فكر
عن الرئيس والدولة والأحزاب
أخبار متعلقة