صباح الخير
حين تركزت صناعة العالم وتجارته في كل من هولندا وانجلترا في بدايات القرن الخامس عشر الميلادي تميزت ـ تلك المدة ـ باكتشافات جاليليو وجلبرت لمغناطيسية الأرض وهارفي (ابن صانع الحبال) لهيدروليكا الجسم البشري. كما تميزت بتدفق الفضة الأمريكية على خزائن أوروبا واعتناق البرجوازية الأوروبية لمذهب لوثر وكالفن في الإصلاح الديني.. (ج.د. برنال. موجز العلم في التاريخ, 1982 ظل هذا الوضع لمدة طويلة لأنه تميز بفتوحات علمية في شتى الجوانب، وظلت الزراعة أساس الاقتصاد ولم يتم تحويلها إلى الهامش فلا غنى عن قيمتها الاقتصادية المهمة حتى اليوم لما تمثله من رافد مهم في الاستراتيجية التنموية الشاملة.بعد ذلك بعدة عقود أكتشف الايطاليون نظام الاصول والخصوم في المحاسبة (مسك الدفاتر) والتي اعتبرها الكثير من الاقتصاديين المقدمة الأساسية لظهور الرأسمالية بشكلها الحالي والمعروف ان احفاد الرومان الذين ظلوا مهووسين بالأبنية الضخمة للغاية والفراغات الهائلة والارتفاعات الشاهقة هم أنفسهم الذين شادوا القواعد الأولى لعصر النهضة في مدن البندقية وجنوى وفلورنسا وميلانو.كان من الضروري فهم الزمن من خلال اجزائه المكونة لدخول عصر الآلة التي سوف تدشن عصراً جديداً وثورة عنيفة تغير وجه الحياة التي ظل الإنسان أسيراً لدورانها لألاف السنين وقد تحقق هذا باختراع الساعة.إن الساعة لا المحرك البخاري، هي الآلة الرئيسة في العصر الصناعي الحديث لان كل مرحلة في تطور الساعة هي الواقعة البارزة والرمز النموذجي للآلة وليس ثمة آلة أخرى إلى اليوم منتشرة قدر انتشار الساعة في كل مكان.. إن الساعة نوع من آلة الطاقة، نتائجها الثواني والدقائق..".ويلاحظ (ممفورد) كما يقول (كاتين رايلي) إن الحديد والفحم صبغا كل جوانب التصنيع في القرن التاسع عشر بلونه الخاص الذي كان يتدرج من الأسود إلى ظلال مختلفة من الرمادي. وحتى زي رجال الصناعة الرسمي، ربطة العنق السوداء والبدلة السوداء والحذاء الاسود والقبعة الحريرية العالية السوداء ـ تعكس سواد مناطق الفحم، التي كانت تسمى في انجلترا "المناطق السوداء". كما ان المباني والجسور الرمادية ـ وهي انجازات حضارة التعدين الكبرى ـ غطاها السواد بسبب السناج والرماد المتطاير من أفران الصهر العالية..توالت المخترعات والفتوحات والإصلاحات والاكتشافات، وبرزت التعبيرات الفردية والجماعية والاطماع، وظهرت التمايزات الحادة وهاجمت الصناعة البيئة بعنف وشوهت الريف وكانت الانقلابات في كل مناحي الحياة تهز الكون كله لانه كان يدخل عصراً جديداً بكل معانيه، كل يوم فيه تمثل مرحلة تقدر بمئات السنين خلال عصر الحديد والبرونز وما قبلهما، حيث ظلت النار والزراعة لمئات السنين هي أعظم مخترعات العقل البشري.لكن، وبكل جدية نقول: ان أعظم الاختراعات قاطبة في تلك القرون وإلى اليوم هو "اختراع" نظري قلب حياة البشر رأساً على عقب، هو (مكيافلي): "لقد علمته خبرته السياسية ان لعبة السياسة لا تلعب البتة دون خداع ومكر وغدر وجريمة، وهو لا ينتقد هذه الأشياء أو يحبذها، فاهتمامه الوحيد منصب على التوصل إلى أفضل الحركات ـ الحركة التي تؤدي إلى كسب المباراة.. لم يخطر على باله ان يتساءل من يكون اللاعب.. جل اهتمامه هي المباراة ذاتها ولا شيء سوى المباراة" (كافين رايلي، الغرب والعالم، الجزء الثاني 1986م، الكويت).* عبدالرقيب مقبل[email protected]