لماذا يكره الإخوان المسلمون جمال عبدالناصر؟
قبل ثلاثة اسابيع نشرت في هذه الصحيفة مقالا بعنون لماذا يكره الإخوان المسلمون جمال عبدالناصر؟ وفور نشر المقال تلقيت اتصالات من عدد كبير من القراء والأصدقاء وفي مقدمتهم قياديون من التنظيم الناصري الوحدوي ، أشاروا فيها الى انني حاولت اختزال الصراع بين الإخوان وعبدالناصر في مؤامرة 1965 فقط ، وهو ما يدعم تبريرات بعض الكتاب الإخوانيين الذين يقولون ان تلك المواجهات جاءت كرد فعل لقرار مجلس قيادة ثورة 23 يوليو بحل تنظيم الإخوان المسلمين في منتصف الخمسينات ، وهو قرار اتخذته القيادة المصرية بعد أزمة طويلة سادت العلاقة بين ثورة 23 يوليو والإخوان المسلمين ، ووصلت ذروتها في محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في ميدان المنشية بالاسكندرية عام 1954 م، وصدور قرار حاسم بحل تنظيم الاخوان المسلمين بعد ذلك .وتلبية لملاحظات بعض الأصدقاء واصلت الكتابة حول هذا الموضوع مستعرضا بعض المعطيات التي تمكنت من الوقوف عليها من خلال قراءة بعض الكتب والوثائق الي تسلط الضوء على العلاقة بين ثورة 23 يوليو والاخوان المسلمين، والخلافات والتوترات التي رافقت تلك العلاقة منذ الأيام الأولى لقيام الثورة .في المدخل الاستهلالي لكتابه التحليلي الوثائقي القيم “عبدالناصر والإخوان المسلمون”، أورد الكاتب الراحل عبدالله إمام عرضاً موجزاً للأعمال الإرهابية التي ارتكبها الجهاز الخاص للإخوان المسلمين قبل ثورة 23 يوليو.وكرس الكاتب لهذا الغرض أكثر من 55 صفحة على امتداد هذا المدخل من صفحة 17 حتى صفحة 73 حيث شملت هذه الصفحات تلخيصاً “لأبرز الأعمال الإرهابية الإخوانية” التي شملت اغتيال عدد من الشخصيات السياسية والقضائية وتفجير دور السينما وإحراق المسارح والمحلات التجارية ومحلات التسجيلات الغنائية الصوتية في وسط العاصمة المصرية القاهرة.في هذا السياق يوضح الكاتب جوانب واسعة من العلاقات القديمة التي ربطت قادة ثورة 23 يوليو بجماعة الإخوان المسلمين، مشيراً إلى أن هذه العلاقات كانت معقدة وبدأت في الأربعينات حين كان مشروع إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة مجرد فكرة تختمر في عقول ونفوس عدد محدود من الضباط الوطنيين الذين تألموا لأوضاع البلاد وحاولوا تلمس طريق الخلاص من فساد الأحزاب السياسية، فلم يجدوا عندهم أي حل للقضية الوطنية وللقضايا الاقتصادية والاجتماعية.لم يعد أمام هؤلاء الضباط في ضوء تلك الحالة المحبطة سوى الاعتماد على أنفسهم وقوتهم، والشروع في تشكيل تنظيم محدود سرعان ما نما وتطور وأصبحت له خلايا وفروع داخل صفوف ضباط الجيش.لم يكن تنظيم الضباط الأحرار موحد الفكر والأهداف، لكنه كان يضم مجموعة متباينة من الضباط الوطنيين الذين التقوا حول عدد محدود من الأهداف وهي المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة.بيد ان ذلك التوحد لم يحل دون ان يكون لعدد منهم انتماؤه السياسي والفكري فكان بينهم الإخوان المسلمون والماركسيون والقوميون وغيرهم.. وقد بدأت العلاقة الاقتصادية بين الإخوان وقادة الثورة منذ الأيام الأولى للثورة حيث أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً بحل الأحزاب، ولكنه أستثنى جماعة الإخوان المسلمين لانها كانت تقدم نفسها كجمعية دينية دعوية.كان الإخوان المسلمون حريصين منذ اليوم الأول لقيام الثورة على تحريض مجلس قيادة الثورة ضد الأحزاب وتكوين قناعة بضرورة حلها. وعندما اقتنع قادة الثورة بعدم قدرة الأحزاب على تحقيق التغيير الذي يحتاجه الشعب بسبب فسادها وترهلها، طلبت وزارة الداخلية من الأحزاب أن تقدم إخطارات عن تكوينها، فقدم المرشد العام شخصياً أثناء زيارة مكتب سليمان حافظ وزير الداخلية إخطارا “رسمياً” بأن الاخوان جمعية دينية دعوية، وان أعضاءها وتكويناتها وانصارها لا يعملون في المجال السياسي، ولا يسعون لتحقيق أهدافهم عن طريق أسباب الحكم كالانتخابات، ونفى أن يكون ذلك من بين أهداف جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي جعل قانون حل الاحزاب الذي اصدره مجلس قيادة الثورة لا ينطبق على الاخوان المسلمين.بعد أربعة أشهر على قيام الثورة، وبالتحديد في صبيحة يوم صدور قانون حل الأحزاب في يناير سنة 1953م حضر إلى مكتب جمال عبدالناصر وفد من الاخوان المسلمين مكون من الصاغ الإخواني صلاح شادي والمحامي منير الدولة وقالا له: “الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من مؤيد للثورة إلا جماعة الإخوان ولهذا فانهم يجب أن يكونوا في وضع يليق بدورهم وبحاجة الثورة لهم”، فقال لهما جمال عبدالناصر: “إن الثورة ليست في أزمة أو محنة، وإذا كان الإخوان يعتقدون أن هذا الظرف هو ظرف المطالب وفرض الشروط فأنهم مخطئون”.. لكنه سألهما بعد ذلك: “حسناً ما هو المطلوب لاستمرار تأييدكم للثورة”؟فقالا له: “اننا نطالب بعرض كافة القوانين والقرارات التي سيتخذها مجلس قيادة الثورة قبل صدورها على مكتب الإرشاد لمراجعتها من ناحية مدى تطابقها مع شرع الله والموافقة عليها.. وهذا هو سبيلنا لتأييدكم إذا أردتم التأييد”.وكان رد جمال حازما ً : “لقد قلت للمرشد في وقت سابق إن الثورة لا تقبل أي وصاية من الكنيسة أو ما شابهها.. وانني أكررها اليوم مرة أخرى.. وبكل عزم وحزم.لكنهما أصرا على موقفهما وأبلغا عبد الناصر ان مهمتهما في هذا اللقاء ليست النقاش بل ابلاغ مطالب الاخوان فقط ونقل رد مجلس قيادة الثورة الى مكتب الارشاد، ثم جددا التأكيد على مطالب الاخوان المسلمين وهي:أولاً: ألا ّ يصدر أي قانون إلا ّ بعد أن يتم عرضه على مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين ويحصل على موافقته.ثانياً: ألا ّ يصدر أي قرار إلا بعد أن يقره مكتب الإرشاد.وقد رفض جمال عبدالناصر بكل حزم هذين الشرطين لأن الإخوان أرادوا من خلالهما وغيرهما من الشروط الأخرى الحكم من خلف الستار وعدم تحمل تبعات الحكم الداخلية والخارجية.كان هذا الموقف الحازم لجمال عبدالناصر من مطالب الإخوان المسلمين نقطة التحول في موقفهم من الثورة وحكومة الثورة، إذ دأب المرشد بعد هذا التحول على إعطاء تصريحات صحفية مهاجماً فيها الثورة وحكومتها في الصحافة الخارجية والداخلية، كما صدرت الأوامر والتعليمات إلى هيئات الإخوان بأن يظهروا دائماً في المهرجانات والمناسبات التي يحضرها وينظمها رجال الثورة بمظهر الخصم المتحدي!!وبعد ذلك قابل جمال عبدالناصر المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي في منزله بمنشية البكري في حي مصر الجديدة شمال مدينة القاهرة على أساس أن يكون هناك تعاون وتنسيق بين “الثورة” و”الإخوان” بعيداً عن الوصاية الدينية او السياسية، لكنه فوجئ بأن الهضيبي تراجع عن الشروط السابقة وقدم بدلاً عنها مطالب جديدة تتمثل في مطالبة مجلس قيادة الثورة بإصدار مراسيم بفرض الحجاب على النساء وإقفال دور السينما والمسارح ومنع وتحريم الأغاني و الموسيقى وتعميم الأناشيد الدينية واصدار مرسوم يلزم القائمين على حفلات وقاعات الافراح باستخدام أناشيد مصحوبة بايقاعات الصاجات (الدفوف) فقط، ومنع النساء من العمل وإزالة كافة التماثيل القديمة والحديثة من القاهرة وكل أنحاء مصر.كان رد عبد الناصر على هذه المطالب: “لن اسمح لهم بتحويلنا إلى شعب بدائي يعيش في أدغال أفريقيا مرة أخرى”، ورفض جميع هذه المطالب الجديدة التي تقدم بها “الإخوان المسلمون” وتساءل أمام مرشدهم الإمام حسن الهضيبي بصراحة ووضوح: “لماذا بايعتم الملك فاروق خليفة على المسلمين؟ ولماذا لم تطالبوه بهذه المطالب عندما كانت هذه الأشياء مباحة بشكل مطلق؟ ولماذا كنتم تقولون قبل قيام الثورة: “إن الأمر لولي الأمر”؟!!ثم كتب بخط يده تحت الورقة التي تضمنت تلك المطالب: “لن نسمح بتحويل الشعب المصري إلى شعب يعيش حياة بدائية في أدغال أفريقيا”!!واللافت للنظر ان الاخوان المسلمين قبلوا على مضض ــ او تظاهروا بقبول ــ رفض جمال عبدالناصر لجميع المطالب التي عرضوها عليه في اللقاءات السابقة، لكنهم أصروا على مطلب واحد يتعلق بضرورة الشروع باصدار مرسوم يقضي بفرض الحجاب على النساء، وقد حدث ذلك عندما اتصل به المرشد العام حسن الهضيبي واخبره بان مكتب الارشاد كلف كلا من حامد ابو النصر والشيخ فرغلي بمقابلته لأمر لا يعتقد الاخوان بانه قابل للتأجيل. وعندما قابل عبدالناصر موفدي الاخوان عرضا عليه رسوما قالوا انها تقريبية لثلاثة نماذج من الحجاب يمكن تطبيقها على مراحل بصورة تدريجية وفور مشاهدة عبدالناصر لهذه الرسوم التقريبية ضحك ساخرا وقال لهم (انا مش عارف سبب اهتمامكم باستهداف الستات!!).. ثم توجه الى حامد ابو النصر الذي اصبح مرشدا للاخوان المسلمين في وقت لاحق من الثمانينيات متسائلاً: “طيب ليه بناتك سافرات ياستاذ حامد و ليه متلزمهمش بواحد من الحجاب ده اللي عايزين من مجلس قيادة الثورة فرضه على الستات بمراسيم”!!؟؟بعد فشل هذا اللقاء حاول “الاخوان المسلمون” صياغة أفكار جديدة حول شكل النظام السياسي الذي يجب ان تحدده الثورة حيث كتب سيد قطب مقالاً في جريدة “الأخبار” بتاريخ 8 أغسطس 1952م.. وجاء هذا المقال في صيغة رسالة مطالب موجهة إلى اللواء محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة طالبه فيها بدستور لا يحمي البلاد من فساد الملك وحاشيته ولكن من فساد الأحزاب والصحافة!!ومضى سيد قطب في هذا المقال/ الرسالة قائلاً: “إن لم تحققوا أنتم التطهير الشامل الذي لا يبيح الحرية السياسية إلا للشرفاء فالشعب الذي احتمل ديكتاتورية طاغية باغية شريرة قادر على أن يحتمل ديكتاتورية مؤمنة نزيهة، على فرض ان قيامكم بحركة للتطهير يعتبر ديكتاتورية بأي وجه من الوجوه”!![c1]لماذا فصلوا الباقوري؟[/c]في أيام الثورة الأولى وقبل أن يعود المرشد العام من مصيفه بالإسكندرية وقفت الثورة إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين وتمثل ذلك في عدد من القرارات التي أصدرها مجلس قيادة الثورة ومن بينها إعادة التحقيق في مصرع المغفور له الشيخ حسن البنا، والقبض على المتهمين باغتياله وتقديمهم لمحكمة جنايات القاهرة.. وقد أصدرت المحكمة برئاسة الأستاذ محمود عبدالرازق وعضوية الأستاذين محمد متولي ومحمد شفيع المصيرفي أحكاماً قاسية بحق المتهمين والزمتهم بالتكافل مع الحكومة بدفع عشرة آلاف جنيه ــ وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت ـ على سبيل التعويض لزوجة المرحوم حسن البنا وأولاده القصر والمشمولين بولاية جدهم الشيخ حسن البنا!!كما أصدر مجلس قيادة الثورة عفواً خاصاً عن قتلة المستشار احمد الخازندار من أعضاء الجهاز الخاص للإخوان المسلمين وعن بقية المسجونين في قضية اغتيال رئيس الوزراء النقراشي باشا، بالإضافة إلى العفو عن المحكوم عليهم في قضية إحراق مدرسة الخديوية الثانوية للبنات من قبل المتشددين في جماعة الإخوان المسلمين.. وقد خرج كل هؤلاء المعفو عنهم من قبل مجلس قيادة ثورة 23 يوليو من السجن إلى مقر الجماعة وسط مظاهرة سياسية عقدوا في ختامها مهرجاناً خطابياً كبيراً.بعد ذلك اصدر مجلس قيادة الثورة قراراً خاصاً بالعفو الشامل عن كافة المعتقلين السياسيين باستثناء الشيوعيين وبلغ عدد المفرج عنهم 934 معتقلاً معظمهم من الإخوان المسلمين.. كما قامت الثورة بتقديم خصم الإخوان اللدود إبراهيم عبد الهادي باشا إلى المحاكمة بتهمة تعذيب “الإخوان المسلمين”.كانت الثورة أقرت تشكيل حكومة برئاسة محمد نجيب بالإضافة إلى منصبه كرئيس لمجلس قيادة الثورة على أن يكون للإخوان حقائب وزارية منها وزيران أو ثلاثة.. وقد اتصل المشير عبدالحكيم عامر ظهر يوم 7 سبتمبر 1952م بالمرشد العام الذي رشح وزيرين من الجماعة هما: الشيخ احمد حسن الباقوري عضو مكتب الإرشاد والأستاذ احمد حسني.وبعدها ببضع ساعات حضر إلى مبنى القيادة بكوبري القبة الأستاذان حسن العشماوي ومنير الدولة وقابلا جمال عبدالناصر وقالا إنهما قادمان ليدخلا الوزارة وموفدان من المرشد العام فرد عليهما جمال عبدالناصر بقوله: إنه ابلغ الشيخ الباقوري واحمد حسني بالترشيح وسوف يحضران بعد ساعة من الآن ليحلفا اليمين.اتصل عبدالناصر بالمرشد العام فوراً ليستوضح منه سبب تغيير أسماء المرشحين بعد أن تم إبلاغ الباقوري وحسني، فرد المرشد العام بأنه سيدعو مكتب الإرشاد للاجتماع بعد قليل وسوف يرد بعد ذلك على جمال عبدالناصر ولكنه لم يرد فعاود جمال عبدالناصر الاتصال به ففوجئ برد المرشد العام الذي أفاده بأن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك في الحكومة الجديدة، وعندما قال له جمال عبدالناصر إن مجلس قيادة الثورة ابلغ الشيخ الباقوري واحمد حسني وأنهما سيحضران بعد قليل لأداء اليمين رد عليه المرشد العام قائلاً” :نحن رشحنا صديقين للإخوان ولا نوافق على اشتراك الإخوان في الوزارة”؟!!في اليوم التالي نشرت الصحف المصرية تشكيل الوزارة الجديدة بعد أداء اليمين وكان ضمن أعضائها الشيخ احمد حسني الباقوري عضو مكتب الإرشاد وزيراً للأوقاف، فاجتمع مكتب الإرشاد وقرر فصل الشيخ الباقوري من جماعة الإخوان المسلمين واستدعى عبدالناصر الأستاذ حسن العشماوي وعاتبه على هذا التصرف وهدد بنشر جميع التفاصيل التي لازمت تشكيل الوزارة لكن العشماوي رجاه عدم النشر حتى لا تحدث مشكلة مع صفوف الإخوان تسيء إلى موقف المرشد العام.وهو ما كشف النقاب عنه اللواء محمد نجيب في مذكراته .[c1]مذكرات محمد نجيب[/c]تحدث اللواء محمد نجيب في كتاب له تضمن مذكراته عن بعض القضايا التي تتعلق بالإخوان المسلمين حيث قال: “حاول الإخوان المسلمون الاتصال في ديسمبر 1953م عن طريق محمد رياض الذي اتصل به حسن العشماوي ومنير الدولة وطلبوا أن تتم مقابلة سرية بيني وبينهم واقترحوا مكاناً للمقابلة منزل الدكتور اللواء احمد الناقة الضابط بالقسم الطبي في الجيش وكانت هذه مفاجأة لأنني عرفت لأول مرة أن للدكتور احمد الناقة ارتباطاً بالإخوان المسلمين ورفضت فكرة الاجتماع السري بهم وأبلغتهم بواسطة محمد رياض أنني مستعد لمقابلتهم في منزلي أو مكتبي، لكنهم اعتذروا عن ذلك وطلبوا أن أفوض مندوباً عني للتباحث معهم فوافقت وعينت محمد رياض ممثلاً عني للاجتماع معهم بعد أن زودته بتعليماتي واجتمع محمد رياض بممثلي الإخوان المسلمين حسن العشماوي ومنير الدولة عدة مرات”!!بحسب المذكرات أوضح محمد رياض لممثلي الإخوان رأي محمد نجيب في إنهاء الحكم العسكري الحالي وعودة الجيش إلى ثكناته وإقامة الحياة الديمقراطية البرلمانية وعودة الأحزاب وإلغاء الرقابة على الصحف، ولكنهم لم يوافقوا على ذلك بل طالبوا ببقاء الحكم العسكري الحالي وعارضوا إلغاء الأحكام العرفية وطالبوا باستمرار الأوضاع كما هي على أن ينفرد محمد نجيب بالحكم وإقصاء جمال عبدالناصر وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة وأن يتم أيضاً تشكيل حكومة مدنية لا يشترك فيها الإخوان المسلمون، ولكن يتم تأليفها بموافقتهم.كما طالب الإخوان بتعيين رشاد مهنا وهو “إخواني” قائداً عاماً للقوات المسلحة بالإضافة إلى تشكيل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين لمحمد نجيب، وعدد مساوٍ لهم من “الإخوان المسلمين” بحيث يتم عرض القوانين على هذه اللجنة قبل إقرارها كما تعرض على هذه اللجنة الاستشارية السرية سياسة الدولة العامة وأسماء المرشحين “للمناصب الكبرى”.ويضيف محمد نجيب في مذكراته: (كان الإخوان المسلمون يريدون بذلك السيطرة الخفية على الحكم دون أن يتحملوا المسؤولية)، ثم يمضي قائلاً: “رفضت جميع هذه الاقتراحات وانتهت المفاوضات السرية التي جرت بين محمد رياض وموفدي الإخوان المسلمين.. وقد تعرض محمد رياض للمتاعب في وقت لاحق بعد أن اعترف الصاغ حسن حمودة ــ وكان من الإخوان المسلمين ــ أمام المحكمة في شهر نوفمبر 1954م، بأن اتصالاً سرياً تم بيني والإخوان المسلمين بواسطة محمد رياض وذكر أمام المحكمة أرائي التي نقلها محمد رياض إلى حسن عشماوي ومنير الدولة، وصدر أمر بالقبض على محمد رياض بتهمة التخطيط لانقلاب على مجلس قيادة الثورة بالتعاون مع الإخوان المسلمين، ولكنه استطاع الهرب إلى الممملكة العربية السعودية بالطائرة”.[c1]هكذا يناورون!![/c]تدل الاعترافات التي أدلى بها قادة الإخوان بعد أحداث 1954م بميدان المنشية في الاسكندرية على أنهم بدأوا يعملون ضد الثورة في ثلاثة اتجاهات:الاتجاه الأول: معارضة المفاوضات المصرية البريطانية بشأن جلاء القوات البريطانية عن مصر وتوقيع اتفاقية الجلاء، وكان الإخوان اقترحوا على مجلس قيادة الثورة التوقف عن أسلوب المفاوضات وإعلان الجهاد وفتح المجال للمتطوعين من الإخوان للقتال..وتم الرد عليهم بأنكم بهذا المقترح تسعون إلى استنفار الانجليز ضد النظام الجديد وهو ما لم تفعلوه مع الملك.. بل إنكم أيدتم رئيس الوزراء الطاغية إسماعيل صدقي الذي وقع مع بريطانيا على معاهدة 1936م المعروفة بمعاهدة صدقي ـ بيفن وخرجتم بمظاهرة تأييد لهذا الطاغية، ووظفتم فيها الدين والقرآن لخدمة أهدافه السياسية وأهدافكم التي تقاطعت معها حين رفعتم في تلك المظاهرة شعار: “وأذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد”.وبعد إلغاء معاهدة 1936م في 18 أكتوبر 1951م تحت ضغط الكفاح المسلح والعمل الفدائي ضد الانجليز في قناة السويس قال المرشد العام الجديد لمندوب جريدة “الجمهوري المصري” في 25 أكتوبر 1951م: “وهل تظن أن أعمال العنف ستخرج الانجليز من البلاد؟.. إن واجب الحكومة اليوم أن تفعل ما يفعله الإخوان من تربية الشعب وإعداده أخلاقياً فذلك هو الطريق الصحيح لإخراج الانجليز من مصر، كما خطب المرشد العام الهضيبي في شباب الإخوان قائلاً: “اذهبوا واعتكفوا على تلاوة القرآن الكريم”!!وقد رد عليه خالد محمد خالد في (روز اليوسف) تحت عنوان “أبشر بطول سلامة يا جورج” في تاريخ 30 أكتوبر 1951م قائلاً: “الإخوان المسلمون كانوا أملاً من آمالنا لم يحركوا ولم يقذفوا في سبيل الوطن بحجر ولا طوبة، وحين وقف مرشدهم الفاضل يخطب منذ أيام في عشرة آلاف شاب قال لهم “اذهبوا واعتكفوا على تلاوة القرآن، ولا تتورطوا بالقتال”.ويتساءل خالد محمد خالد في مقاله الذي رد به على خطاب مرشد الإخوان وأحاديثه الصحفية.. “ أفي مثل هذه الأيام يدعى الشباب للاعتكاف على تلاوة القرآن الكريم ومرشد الإخوان يعلم ان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخيار صحابته تركوا صلاتي الظهر والعصر من أجل معركة”؟!!الاتجاه الثاني: الاتصال بمستر ايفانز المستشار السياسي في السفارة البريطانية بالقاهرة حيث عقدوا معه عدة اجتماعات استمرت عدة ساعات في منزل الدكتور محمد سالم الذي أوضح لمستر ايفانز موقف الإخوان بان تكون عودة الانجليز إلى القاعدة بناءً على رأي لجنة مشكلة من المصريين والانجليز وان الذي يقرر حظر الحرب هي الأمم المتحدة!والغريب في الأمر أن الانجليز تبنوا هذا الرأي في مفاوضات الجلاء بعد أن رفضه الجانب المصري وثبت أن المستر ايفانز التقى أكثر من مرة بالمرشد العام وصالح أبو رفيقة ومنير الدولة.وكانت هذه الاتصالات موضع مناقشة أثناء محاكمة الإخوان، حيث اتضح من اعترافات المتهمين حقائق كثيرة ومنها ان البكباشي الإخواني عبدالمنعم رؤوف قابل أيضاً موظفاً كبيراً في احدى السفارات الأجنبية وأخبره بأنه يتحدث باسم الإخوان ومرشدهم وأنهم سيتولون مقاليد الحكم في مصر بالقوة ويطلبون تأييد السفارة البريطانية للانقلاب الجديد، ثم أضاف أن “الإخوان” على استعداد بعد ان يتولوا مقاليد الحكم للاشتراك في حلف عسكري ضد الشيوعية لان إسلامهم يحثهم على ذلك، وأن هذا الحلف لن يتحقق ما دام جمال عبدالناصر على قيد الحياة لانه سبق وان أدلى بتصريحات نشرت في جميع الصحف العالمية عن رأيه في الأحلاف العسكرية وأهدافها الاستعمارية!!وكان المرشد العام للإخوان المسلمين اقترح على قادة الثورة ان تدخل مصر في حلف عسكري مع الغرب ضد روسيا وربطت الصحف بين توقيت الاعتداء الذي قامت به إسرائيل على الحدود المصرية في رفح وبين محاولة الإخوان لبدء تنفيذ خطتهم!!الاتجاه الثالث: تنشيط الجهاز السري من خلال ضم أكبر عدد من ضباط البوليس والجيش إليه، وقد اتصلوا بعدد من الضباط الأحرار وهم لا يعلمون انهم من تنظيم الضباط الأحرار فسايروهم وساروا معهم في خطتهم.. وكانوا يجتمعون بهم اجتماعات أسبوعية ويأخذون عليهم من هذه الاجتماعات عهداً وقسماً بان يطيعوا ما يصدر إليهم من أوامر المرشد العام وألا ينقضوا بيعتهم للمرشد.. كما جندوا عدداً من ضباط الصف وعندما تجمعت كل هذه المعلومات استدعى عبدالناصر حسن العشماوي وقال له: “إنني احذركم من أن ما يحدث سيلحق الضرر بالبلاد ثم وضع أمامه كل ما تجمع لدى مجلس قيادة الثورة فوعد بان يتصل بالمرشد العام ويبحث معه هذا الأمر ولكنه خرج ولم يعد على حد تعبير بيان مجلس قيادة الثورة الذي صدر عقب محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في وقت لاحق من عام 1954م بميدان المنشية في الاسكندرية!!وفي اليوم التالي استدعى جمال عبدالناصر فضيلة الشيخ سيد سابق والدكتور خميس حميدة وابلغهما ما لديه من معلومات وما ابلغه لحسن العشماوي في اليوم السابق فوعداه بأن يعملا على وقف هذا النشاط الضار.. ولكن النشاط لم يتوقف بل اتسع!!ومما له دلالة عميقة ان المرشد العام للإخوان المسلمين أدلى بتصريح صحفي يوم 5 يوليو 1953م لوكالة (الأسوشييتد برس) قال فيه: “اعتقد أن العالم الغربي سوف يربح كثيراً إذا وصل الإخوان إلى الحكم في مصر، وأنا على ثقة بأن الغرب سيفهم مبادئنا المعادية للشيوعية والاتحاد السوفييتي وسيقتنع بمزايا الإخوان المسلمين”.. وهكذا قدم المرشد العام مزاياه للغرب الاستعماري آنذاك.. ولعل هذا الموقف وغيره من مواقف الإخوان المسلمين هو الذي دفع المستر انثوني ايدن وزير خارجية بريطانيا إلى أن يسجل في مذكراته “أن الهضيبي كان حريصاً على إقامة علاقات ممتازة معنا، بعكس الرئيس جمال عبد الناصر”. وفي الحالين لا يمكن فصل تصريح المرشد العام لوكالة (الأسوشييتد برس) الأميركية عن شهادة انثوني ايدن عن الهضيبي في مذكراته ، وبالقدر نفسه لا يمكن فهم الموقفين الاخواني والبريطاني خارج سياق المخططات الاستعمارية التي تواصلت خلال الخمسينات بهدف تطويق المنطقة بحلف عسكري تحت ستار الدين هو “الحلف الإسلامي” الذي رفضه عبد الناصر بقوة!! كانت المخططات الاستعمارية تتواصل خلال الخمسينات لتطويق المنطقة بحلف عسكري تحت ستار الدين هو “الحلف الإسلامي” الذي رفضه عبد الناصر بقوة!!في هذا السياق شعرت قيادة ثورة 23 يوليو بأهمية إقامة تنظيم سياسي شامل اطلقت عليه اسم “هيئة التحرير” فذهب المرشد العام لمقابلة عبد الناصر محتجاً بقوله: “ما هو الداعي لإنشاء هيئة التحرير ما دامت جماعة الإخوان قائمة”؟!في اليوم التالي لهذه المقابلة أصدر حسن الهضيبي بياناً وزعه على جميع ُشُعَب الإخوان في المحافظات، وقال فيه: “إن كل من ينضم إلى هيئة التحرير يعد مفصولاً من الإخوان”. ثم بدأ هجوم الإخوان الضاري على هيئة التحرير وتنظيمها الجماهيري “منظمة الشباب”، وبلغت ضراوة المواجهة بين الإخوان وشباب الثورة إلى حد استخدام الأسلحة والقنابل والعصي وإحراق السيارات في الجامعات يوم 12 يناير 1954م وهو اليوم الذي خصص للاحتفال بذكرى شهداء معركة القناة.توترت العلاقة على إثر هذا الحادث بين الإخوان والثورة وفي هذه الأجواء ذهب أحد أقطاب الإخوان وهو عبدالمنعم خلاف إلى القائمقام أنور السادات في مقر المؤتمر الإسلامي للتحدث معه بشأن الإخوان، مشيراً إلى أن مكتب الإرشاد قرر بعد مناقشات طويلة إيفاده إلى جمال عبد الناصر فرد عليه أنور السادات قائلاً: “هذ ه هي المرة الألف التي تلجؤون فيها إلى المناورة بهذه الطريقة فخلال السنتين الماضيتين اجتمع جمال عبد الناصر مع جميع أعضاء مكتب الإرشاد بمن فيهم المرشد العام حسن الهضيبي، ولم تكن هناك أي جدوى من هذه الاجتماعات لانهم كما قال عبد الناصر يتكلمون بوجه، وحينما ينصرفون يتحدثون إلى الناس وإلى أنفسهم بوجه آخر”..ويمضي السادات في مذكراته قائلاً: “كان عندي وفي مكتبي الأستاذ خلاف يسأل عن طريقة للتفاهم.. وفي مساء اليوم نفسه كانت خطتهم الدموية ستوضع موضع التنفيذ أي يوم الثلاثاء.. كان هذا اليوم نفسه هو الذي ضربته موعداً لكي يقابل فيه جمال عبد الناصر الأستاذ خلاف موفد مكتب الإرشاد”!!كان عبد الناصر يلقي خطاباً في ميدان المنشية بالاسكندرية يوم 26 أكتوبر 1954م في احتفال أقيم تكريماً له ولزملائه بمناسبة اتفاقية الجلاء.. وعلى بعد 15 متراً من منصة الخطابة جلس السباك محمود عبد اللطيف عضو الجهاز السري للإخوان، وما أن بدأ عبد الناصر خطابه حتى اطلق السباك الإخواني 8 رصاصات غادرت من مسدسه لم تصب كلها عبد الناصر ، بل اصاب معظمها الوزير السوداني ميرغني حمزة وسكرتير هيئة التحرير بالاسكندرية احمد بدر الذي كان يقف إلى جانب جمال عبد الناصر.وعلى الفور هجم ضابط يرتدي زيا مدنياً أسمه إبراهيم حسن الحالاتي الذي كان يبعد عن المتهم بحوالي أربعة أمتار والقى القبض على السباك محمود عبد اللطيف ومعه مسدسه.. وبدأت بهذه الحادثة مرحلة جديدة وحاسمة من المواجهة بين ثورة 23 يوليو وتنظيم الإخوان المسلمين!وزاد من تعقيد الموقف ان التحقيقات كشفت سفر المرشد العام حسن الهضيبي إلى الاسكندرية قبل يوم واحد من محاولة الاغتيال، ثم ظل مختفياً منذ الحادث لفترة طويلة.. وعندما صدر الحكم ضده وضد المرشد العام بالإعدام قام جمال عبد الناصر بتعميد الحكم على محمود عبد اللطيف وتخفيفه على المرشد العام حسن الهضيبي إلى السجن مع وقف التنفيذ.. وبعد ذلك ظهر الهضيبي إلى السطح من خلال رسالة خطية بعث بها من مخبئه إلى جمال عبد الناصر حاول فيها التبرؤ من الذين خططوا ونفذوا هذه الجريمة.[c1]* عن صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]