في عام 1967، وفي أعقاب هزيمة يونيو (حزيران)، أذكر أننا خرجنا من مدارسنا في مظاهرات عارمة تستنكر الهزيمة التي جرحت كبرياءنا المجروحة، وذاتنا المكلومة، فأخذنا نهاجم كل أميركي أو بريطاني نجده في طريقنا. لم يكن تمييز الأميركي أو البريطاني سهلاً، لذلك انصب جام الغضب على كل أبيض نجده في طريقنا، لدرجة أن الكثير من العرب البيض كانوا يتعرضون للضرب لمجرد كونهم بيضاً. كان الجميع غاضباً تلك الأيام على ما حدث، وكنا من المراهقين وقتئذ، فكنا ننفس عن غضبنا بالعنف ضد كل ما هو أميركي أو بريطاني. لماذا هاتان الجنسيتان بالتحديد؟ بكل بساطة لأن إعلامنا العربي حينذاك، وخاصة الإعلام المصري رد الهزيمة إلى التدخل الأنجلو أميركي إلى جانب القوات الإسرائيلية المحتلة، وأن مؤامرة قد دبرت بليل حالك السواد للقضاء على «المارد» العربي، أو ما قيل لنا أنه مارد عربي، ومنع نهضة العرب من جديد. وفي حرب اكتوبر عام 1973، كان إعلامنا يصدح ليلاً نهاراً بأنه لولا التدخل الأميركي إلى جانب إسرائيل، لكانت جيوش العرب قد وصلت إلى شواطئ حيفا وسواحل تل أبيب. بل وقبل كل ذلك، وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية تحديداً كان كل شيء نرجعه إلى تلك المؤامرة التي يحيكها الغرب ضدنا لضرب القومية العربية، حين كان المد القوموي هو سيد الساحة، أو لضرب الإسلام، حين أصبح المد الإسلاموي هو سيد الساحة، وعد بلفور، التعاون البريطاني مع العصابات الصهيونية، الاعتراف الأميركي بإسرائيل، العدوان الثلاثي، إلى آخر الأدبيات التي يعرفها كل عربي. بل إن الجميع، قومويين وإسلامويين، يتفقون على أن الكيان الصهيوني ما أقيم على أرض فلسطين إلا لشق الكتلة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، كخنجر غرز في الجسد العربي الواحد، في الخطاب القوموي، أو لمنع قيام كيان إسلامي واحد وامتهان مقدسات الإسلام والمسلمين، وفق الخطاب الإسلاموي. قد يكون في كل ما قيل شيء من الصحة، ولكنه لا يمكن أن يكون صحيحاً كل الصحة فيما لو أردنا القيام ببحث موضوعي في هذه الناحية. والحقيقة أنه ليس مجال الحديث هنا فلسطين والقضية الفلسطينية، بقدر ما أنه مدخل لمناقشة قضية أصبحت شاغل الجميع هذه الأيام، ألا وهي قضية الإرهاب وما يقف عليه من أساس نظري هو التطرف وفكر التطرف. ففي معظم الأحوال تشخص هذه الظاهرة، أي ظاهرة الإرهاب، من قبل إعلامنا ومؤسساتنا الرسمية على أنها ظاهرة معزولة أو وافدة أو غير ذات جذور في التربة الاجتماعية والثقافية المحلية، المعبر عنها بخطاب إعلامي يتجاهل ما هو دون سطح الأرض ليدين ما هو فوق السطح، فنكون بذلك كذاك المريض الذي يحاول إقناع نفسه أن ما يعاني من ألم هو مجرد صداع بسيط يذهبه قرص من الأسبرين، بينما هو يعاني حقيقة الأمر ورما في الدماغ يحتاج إلى عملية جراحية كاملة كي يُستأصل. قناعة المريض، أو حتى رغبته في أن يكون الأمر كذلك، بأن ما يعاني منه مجرد صداع بسيط لن يقضي على المرض، بل إنه سيجذره أكثر، ويكون المريض في النهاية هو الجاني على نفسه. ما نحتاج إليه في معالجة هذه الظاهرة المتصاعدة من الإرهاب وفكره، هو الشفافية المطلقة في مناقشة الأمور، ووضع الإصبع على الجرح مباشرة، دون محاولة لخداع النفس لن يكون ضحيتها في النهاية إلا ذات النفس. مشكلتنا لا تكمن في مجرد عدد من الأفراد يقومون بعملية إرهابية هنا وعملية إرهابية هناك، بقدر ما هي أزمة عامة انفجرت في آخر المطاف على شكل فعل إرهابي، وستبقى تنفجر بين الحين والآخر بشكل دوري ربما، فيما لو لم تعالج جذور هذه المشكلة، ومن هنا تكمن أهمية الشفافية وعدم تجاهل أي شيء وكل شيء. هذه الأزمة ليست وليدة اليوم، بل هي كامنة في مجمل خطابنا الثقافي والإعلامي المعاصر، لا فرق في ذلك بين قوموية أو إسلاموية أو حتى يسارية، ففي النهاية كلها آيديولوجيات تقوم وتحيا على وجود عدو إن لم يكن موجوداً فيجب خلقه. فالقومويون في أدبياتهم كانوا يلقنوننا دوماً أن الغرب الاستعماري هو عدو الأمة والمانع لتحقيق أحلامها في الوحدة والنهضة، سواء كانت أوروبا هي من كانت تمثل الغرب بالأمس، أو هي أميركا اليوم، المهم أن هذا «الآخر» الغربي الاستعماري هو العدو. والإسلامويون في أدبياتهم يقولون إن الغرب لم يتغير ولن يتغير، فهو صليبي دائماً وسيبقى صليبياً معادياً لدين الإسلام لأنه، أي الإسلام، هو ضده الحضاري القادر على زحزحته عن مركزه في قيادة البشرية اليوم. وبمثل ما أن عالم الأمس تحرر بظهور الإسلام، فإن عالم اليوم لن يتحرر إلا بعودة الإسلام. الغرب الصليبي هو العدو وهو من تجب مقارعته في النهاية. واليساريون يبشرون بأن الإمبريالية هي العدو، سواء كانت إمبريالية أوروبا بالأمس أو إمبريالية أميركا اليوم. الإمبريالية هي التي تقف في وجه تحقيق التقدم والتحرر والمساواة، وبالتالي فإنها هي العدو الذي تجب مقارعته. وبذلك فإن كافة هذه الآيديولوجيات تنتهي في النهاية إلى مصب واحد، لتكون خطاباً واحداً في النهاية يُصب في العقل العربي بمختلف الوسائل، هو معاداة الآخر، والآخر الغربي بشكل خاص. لُقّنا ذلك في مدارسنا ومساجدنا وجامعاتنا وأنديتنا ووسائل إعلامنا، فهل من العجيب أن لا ننشأ ونحن ننظر إلى العالم من حولنا نظرة شك وريبة وعدم ثقة؟ يضاف إلى ذلك كله أن هذا الخطاب اختزل كل آليات الآخر المعادي «الاستعمار أو الصليبية أو الإمبريالية» لإخضاعنا في آلية مستديمة واحدة ألا وهي المؤامرة. فهذا العدو لا يكل ولا يمل من التآمر علينا خاصة، لأهمية ديارنا في مقابل كل ديار العالم. فلدينا النفط وكل تلك الثروات الهائلة، ولدينا الموقع المتوسط الفريد، ولدينا فوق كل ذلك الحضارة التي لو «بعثت» من رقادها، كما في الأدبيات القوموية، أو كانت هنالك «صحوة» دينية تنفخ الروح في الجهاد، تلك «الفريضة الغائبة»، وتعيد الأمة إلى مركز القيادة في هذا العالم، وتعيد العالم إلى الأمة التي هي خير الأمم، كما هو منطق الإسلاموية المعاصرة. كل هذا النفخ المبالغ فيه في الذات، جعلنا نتوهم، أو نصاب بفوبيا شنيعة من أن كل شيء حولنا يتآمر علينا، فلا نثق بأحد ولا يثق بنا أحد بالتالي، فينبع من ذلك كله آيديولوجيات على مختلف الأنواع، وحسب مختلف الظروف والمراحل، التي تدعو إلى تدمير هذا المتربص بنا دوماً، فتجد الكثيرين ممن يؤمن بها دون فعل، ولكنها في النهاية تجد من يؤمن بها بفعل، وهنا ينفجر الإرهاب في حالتنا. الإرهاب ليس وليداً يتيماً أو عديم الأب والأم، بقدر ما أنه نتيجة لمقدمات كانت تحاول الإفصاح عن نفسها في كل حين، ولكننا كنا نغض البصر ونصم الأذن عن كل ذلك، ولأسباب مصلحية، سياسية وغير سياسية آنية حيناً، أو هي لأسباب تتعلق بكبرياء ذات نُفخ فيها حتى أصبحت لا تريد أن ترى حقيقة وضعها أحياناً أخرى، أو كلا الأمرين معاً. فإذا أردنا أن نعالج هذه الظاهرة حقاً وفعلاً، فعلينا الاعتراف بأننا جميعاً أسهمنا في مثل هذا الوضع، حين تجاهلنا مشاكلنا حتى وصلت إلى مستوى الأزمة، وحين حاولنا علاج تلك المشاكل بالانتقال من آيديولوجيا إلى آيديولوجيا مختلفة شكلاً، ولكن المضمون خطاب واحد في النهاية. كلنا أسهمنا في تلك الأوضاع التي أدت إلى الأزمة التي كانت أساس الفعل، حين بحثنا عن الحلول في الخطاب، وتبين لنا أن الخطاب هو المعضلة، ومع ذلك لا نزال من المكابرين، فلا نعترف بمكمن الخطأ، فنعمق الأزمة وتدوم العلة. بطبيعة الحال لن يختفي العنف من حياة الإنسان مهما فعلنا، فهو جزء من قدر الإنسان، ولسنا نعيش في جنة الخلد. ولكن عندما ينتقل عنف ذو طبيعة معينة، من حالة الحادثة إلى حالة الظاهرة، فلا بد أن هنالك مشكلة..لا بد أن هنالك مشكلة.[c1]-----------------* مفكر سعودي[/c]
|
فكر
ما هو أبعد من الإرهاب
أخبار متعلقة