لم يكن العم عطا الله النجار , الرجل البسيط , يدرك أن محله الصغير سيكبر ويتسع ذات يوم وعماله سوف يزداد عددهم الى ثلاثة غير ابنه الأكبر.جاء إليه اليوم رجل يبكي وبيده بضع وريقات مالية :- لا أملك سوى هذه .ووضع الوريقات في كف العم عطا الله وأجهش باكياً .أعاد المال للرجل وقال :- كم عمره ؟!رفع عينيه الى السقف وتمتم بكلمات مختلطة بالدموع :- لم يبلغ محمد بعد السادسة عشرة .. وجد اليوم مذبوحاً كالنعاج .وبكى .- إنا لله وإنا إليه راجعون.اليوم باع سبعة صناديق ذات مرة باع عشرين صندوقاً الأمر موجع ومؤلم بالنسبة له .الليلة لا تختلف عن بقية الليالي الماضية .. حجر زوجته أفضل مكان يضع رأسه عليه ثم يبكي كالأطفال حيث تواسيه زوجته وتربت على رأسه.- النعوش تزداد كل يوم يا أم نديم.- ربنا كريم .. ربنا كريم .قالت أيضاً .. وقد ترددت في قولها :- إن ابن جارنا نصر لم يعد منذ ثلاثة أيام من المعسكر .رفع رأسه نحوها وتنهد بألم :يا الله .. لقد قلت له أن لا يرسل ابنه الوحيد الى المعسكر .- وماذا يعمل ؟ .. حالتهم تسوء كل يوم!- طلبت منه يعمل معي .ثم وضع رأسه على حجرها مردداً:رحمتك يارب .. رحمتك .ذات صباح ..وقف نصر .. أمام باب محل العم عطا الله جثته الكبيرة حجبت ضوء الشمس رفع عطا الله رأسه وبقيت يده مرفوعة إلى الأعلى ممسكة مطرقته والمسمار محشور بين أصابع يده الأخرى.- جاءني اتصال قبل قليل من مدير المستشفى .. طلب مني أن أحضر لأستلم جثة ابني .سقطت المطرقة من يد العم عطا الله .. تقدم بخطوات تعبة نحوه.قال نصر دون أن يهتز :السيارة تنتظرني .. سأخذ معي صندوقاً.ذات ليلة ..الأجراس تقرع بحزن .. العراق لا ينام .. أصوات المؤذن تزيده حزناً وألماً لم تصمت أبداً .. عطا الله النجار البسيط صانع الكراسي قديماً .. صانع النعوش حديثاً يضع رأسه على حجر زوجته ويبكي كما يفعل كل ليلة .تحدق زوجته في صورة .. ثم ترسم علامة على صدرها وتتنهد بألم.- منذ أيام وأنا أصنع نعشي !- ماذا تقول يارجل ؟!تابع كأنه لم يسمعها :أردت أن يكون صندوقاً مختلفاً كبيراً .. قوياً قادراً على حملي .تغمض عينيها لتمنع فرار الدمعة :لا تقل ذلك .. إنك تؤلمني .تفر الدمعة من عينيها .. حين يرفع رأسه نحوها .. تسقط على عينيه وتمر بسرعة عبر وجنته لتسقط على الارض وتتلاشي:أشعر أن أجلي قريب جداً .ذات يوم ..الانفجار الذي حدث منذ دقائق قليلة جعل صناديق النعوش تسقط أو تتحرك من أماكنها .ركض العمال الى خارج المحل .. الانفجار يبعد عنهم بشارعين الحرائق التهمت كل شيء في الشارع .ناداهم عطا الله :حسن عزيز .. حارث عودوا الى عملكم .تمتم ببضع كلمات :ليحمنا الله.. ويحم العراق .ثم راح يحدق بصندوقه أو نعشه كم مرعب أنت أيها الموت عندما تتسلل إلينا ببرودة أحياناً وأحياناً أخرى بألم طرقات المطارق تزيد من تصدعه يود أن يأخذه الموت بأسرع وقت حتى لا يسمع مرة أخرى طقطقتها التي تذكره به كل يوم وكل ثانية .جلس على كرسيه القديم الذي صنعه قبل عشرات السنوات حيث كانت صناعة الكراسي كاسدة وغير مريحة وراح يتمتم بكلمات مبهمة غير مفهومه رسم علامة الصليب .كان .. وكأنه ينتظر الموت.عطا الله .. عطا الله .ظن أن الموت يناديه بقي ساكناً ينتظر أن ينزع روحه ببرودة كما يشاء .أفاق .. فتح عينيه , قال كأنه يحدث نفسه :هذا صوت زوجتي .واقفة أمام باب محله بردائها الاسود الفضفاض .. لم يعرفها من البداية .. بدأ وجهها كبركة ماء .ماذا حصل ؟!أشارت بإرتجاف الى الشارع .. وقالت بصوت متهتك :- ابنك .. ياعطا الله .. مات .التفت الى عماله وطلب منهم تجهيز صندوقاً لابنه ومن ثم خرج بخطوات ثقيلة وكأنه يجر الصندوق خلفه .
|
ثقافة
صانع النعوش
أخبار متعلقة