في دار الإغاثة لرعاية النساء السجينات المفرج عنهن وضحايا العنف في محافظة عدن
تحقيق : نادرة عبد القدوس المرأة في معظم بلدان العالم تواجه صنوف القهر والاضطهاد وظلم المجتمع والرجل في آن (الزوج أو الأخ ،حتى وإن كان الأصغر منها سناً ، أو الابن ) وهذه حقيقة نعيشها ونشهدها كثيراً في مجتمعاتنا العربية ، ونقرؤها ونشاهدها عبر وسائل الإعلام المختلفة ، وبالذات القنوات الفضائية من خلال التقارير الواردة حول أوضاع النساء في العالم ، بعضهن يصل بهن الحال إلى الموت جراء العنف الممارس ضدهن أو اللجوء إلى الانتحار، والبعض منهن يتمكنّ من إيصال قضاياهن إلى القضاء ، في حين أن هناك من تُلصق بهن تُهم فينتهي بهن المطاف جوراً في السجون . وإن كانت هناك تهم حقيقية أحياناً ضدهن ، فهي في الغالب ضحية مجتمع أو أفراد يدفعونهن إلى القيام بجريمة ما أو فعل شائن ما . [c1] دار لإغاثة ضحايا المجتمع والعنف[/c]في سجن عدن المركزي توجد مثل هؤلاء النساء اللاتي قمن ببعض الممارسات اللا أخلاقية أو المشينة،في عُرف المجتمع المحافظ المسلم في اليمن ، الذي يُحرِّم الزنا وتعاطي المخدرات والمشروبات الروحية . غير أن الاستثناء يكون هنا جلياً إذا ما كانت المرأة هي المتهمة بالقيام بهذه الأفعال المُحرَّمة ، إذ تتعرض لإساءة المجتمع والقضاء في آن ، ويُنظر إليها وكأنها فيروس أو جرثومة يجب التخلص منها على الفور ، لذا كثيراً ما نقرأ أو نسمع عن جرائم شرف في عدد من المجتمعات العربية ، واليمنية كذلك ، وتكون المرأة الضحية فيها ، حتى وإن كان أحياناً الشك والظن هما الدافع لقتلهن والتخلص منهن . ولكن ، أين ينتهي الحال بهؤلاء السجينات ، اللاتي يتم الإفراج عنهن بعد انقضاء مدة الحكم عليهن؟ كان هذا السؤال نصب أعين عدد من الناشطات الحقوقيات والاجتماعيات اليمنيات في عدن . وكانت الإجابة عند المحامية والناشطة الحقوقية البارزة عفراء الحريري التي قررت إنشاء دار لإغاثة السجينات المفرج عنهن في محافظات الجمهورية اليمنية ، لتشرف عليها المؤسسة العربية لمساندة قضايا المرأة والحدث بقيادة رئيسته الفخرية الأستاذة المحامية والناشطة الحقوقية المعروفة راقية حميدان التي تقدم للدار ـ بصفة شخصية ـ دعماً مادياً بشكل دائم ومستمر. وبذلك تكون «دار الإغاثة لرعاية النساء السجينات المفرج عنهن وضحايا العنف» أول ملجأ في اليمن يؤوي النساء السجينات المفرج عنهن أو النساء اللاتي يتعرضن للعنف الجسدي والنفسي من قبل الأهل أو المجتمع بشكل عام. [c1]نشاطات لإعادة تأهيل النزيلات في الدار[/c]للدار فريق من المتطوعات المحاميات والمدرسات والاختصاصيات الاجتماعيات . كما أن للدار شبكة محلية لمساندتها في تحقيق أهدافها وتتمثل في منظمات المجتمع المدني المحلية غير الحكومية ، والسلطات والهيئات المحلية الحكومية ، وشخصيات اجتماعية ، وتجد الدار مساندة من وزارة حقوق الإنسان وهو تعاون معنوي منها ، وكذلك دعماً مادياً من الوزارة الألمانية للتعاون الاقتصادي من خلال التعاون الفني الألماني في اليمن ، وسيستمر هذا الدعم ، كما علمنا من المديرة التنفيذية المحامية عفراء الحريري ، حتى يونيو(حزيران) 2009 م . لم نتمكن من الدخول إلى الدار بيسر ، إذ يمنع الدخول إلا بإذن من مديرته التنفيذية ، حتى وإن تم تحديد موعد المقابلة مسبقاً ، وذلك تجنباً لتعرض النزيلات لأي أذى من أحد ما ، من أفراد أسرهن أو نحو ذلك ، كما يُمنع التصوير في الدار. وأنا أرتقي سلم الدار باتجاه مكتب المديرة استقبلني عدد من الفتيات العشرينيات بابتسامات جميلة مرسومة على محياهن ، وبكل لطف أشرن إلى مدخل المكتب الذي رأيته خالياً من أي مباهج مكاتب المدراء . تحدثنا المحامية عفراء عن الأهداف التي دفعتها إلى إنشاء هذه الدار قائلة : « بعض النساء والفتيات المفرج عنهن لم تقبل أسرهن عودتهن إليها واستلامهن . وهناك نساء بلا مأوى وأخريات يرفضن العودة إلى أسرهن ، وفي معظم الأحيان أغلبهن ضحايا عنف ، فيكون مصيرهن الشارع ومصدر عيشهن التسول أو الدعارة والزنا ، ومن هنا كان لا بد من التفكير بحل لهذه الظواهر ، فكانت دار الإغاثة هي المأوى لهؤلاء النساء ، حيث بلغ عدد النزيلات خلال عام من الافتتاح في مارس 2004 م ( 27 ) نزيلة ، أما الآن فعددهن (13) نزيلة» . وعن نشاطات الدار تقول الحريري : « لا تقدم الدار للنساء المعنفات والمفرج عنهن الإيواء فحسب ، بل إننا أيضاً ننفذ برامج مختلفة بهدف إعادة تأهيلهن ودمجهن في المجتمع كمواطنات صالحات يعشن حياتهن بدون أية منغصات ويبنين حياتهن بشكل طبيعي كأي فرد من أفراد المجتمع ، فتقام في الدار المحاضرات القيِّمة في القانون وحقوق الإنسان والتربية الدينية بهدف غرس القيم والمبادئ والأخلاق التي جاءت بها شريعتنا الإسلامية السمحاء، وتحصل النزيلات على الرعاية الصحية والاجتماعي والنفسية ، ونقوم أيضاً بتمكين الفتيات الصغيرات اللاتي انقطعن عن المدارس من إعادة تأهيلهن التعليمي ، ومحو الأمية الأبجدية لدى الأخريات ، كما تقوم الدار بتدريب النزيلات على المهن والحرف اليدوية والتشجيع على الإبداع الفكري والحسي وفقاً لميول البعض منهن ويتم تمكينهن من الحصول على أعمال مناسبة «. وتوقفت الحريري عن الكلام لتنادي إحداهن طالبة منها إحضار كراسة الرسم التي تخصها ، وبعد هنيهة جاءت فتاة في مقتبل العمر ، متأبطة كراسة الرسم .. فتحتها أمامي لتريني ما رسمته .. فوجدتها جلها رسومات تمثل مكوناتها النفسية، ومن خلال التفرس في بعضها أدركت تماماً ما عانته هذه الفتاة من عنف جسدي ونفسي من قبل الأهل. أردفت الحريري مبتسمة ، وبتفاؤل ، قائلة : « سنلحق ابنتنا (ش) في معهد جميل غانم للفنون الجميلة في قسم الفنون التشكيلية ، وقد تم التنسيق لذلك مع إدارة المعهد للعام المقبل « . [c1]نازلات من الدار إلى بيت الزوجية [/c] وأثناء الحوار مع المديرة المحامية الحريري دلفت إلى الغرفة فتاة يبدو من هيئتها أنها مابين السادسة عشرة والثامنة عشرة ، واتجهت مسرعة إلى محدثتي معانقة إياها بحب وتمطر خذيها بالقبلات. التفتت إليّ المحامية عفراء تسألني ضاحكة إن كانت ابنتي مجنونة مثل ابنتها هكذا ؟ بعدها علمت أن الفتاة الصغيرة ( إ ) كان خطبها أحد أبناء العائلات المعروفة في مدينة عدن وأن يوم الخميس القادم سيتم عقد قرانها . سألت ( إ ) ـ وهي بالمناسبة تتمتع بمسحة جمال ـ عما إذا كانت سعيدة بالزواج ، فردت عليّ بالإيجاب وبأنها حزينة فقط لأنها ستفارق أمها عفراء وزميلاتها وصديقاتها في الدار. ثم بدأت تحكي لي الحريري قصة ( إ ) الحزينة ، بعد أن غادرت المكتب : «كانت سجينة في سجن عدن المركزي قبل سبع سنوات ، وكانت طفلة صغيرة غُرر بها من قبل بعض صديقاتها الأكبر منها ببضع سنين ، حيث أخذنها من منطقتهن في إحدى المحافظات الشمالية إلى عدن ، وكان مصيرهن جميعاً السجن ، وبعد نجاحي في الإفراج عنها اتصلت بأسرتها للعودة إليها فرفضت الأسرة ذلك ، بل إن أخوتها الذكور أقسموا على التخلص منها بالقتل، فاضطررت إلى أخذها إلى بيتي والبقاء بين أفراد أسرتي طوال السنوات الماضية قبل إنشاء الدار» . لذلك فإن ( إ ) التي غدت شابة يافعة تعامل المحامية عفراء كأمها ، بل ربما أكثر ، وقد لمست ذلك من المعاملة المتبادلة بينهما . « كيف يتم تزويج الفتيات في الدار» ؟ كان هذا سؤالي للمديرة الحريري فردت قائلة : « هناك عائلات تحب عمل الخير والستر ولديها علم بالدار وظروف الفتيات فيه ؛ فتتقدم أم الشاب الذي يرغب بالزواج من إحداهن ، وبعد التشاور مع الفتاة وأخذ رأيها وبحسب إرادتها ورغبتها يتم التعارف بينها وبين المتقدم بحضورنا والاتفاق على المهر المقدَّم والمؤجل وكل ما يتعلق بالزواج الشرعي ، ثم نسأل بدورنا عن الشاب المتقدم وعن أسرته للتأكد من أخلاقه وظروفه المادية وبيت الزوجية وغير ذلك. وأؤكد لك أن كل الزيجات التي تمت ، وعددها أربع ، كانت ناجحة والحمد لله ، وتستطيعين الالتقاء بأي من المتزوجات أو الأزواج الذين اقترنوا بهن « وأشارت لي بإحداهن القاطنات في بيت الزوجية في إحدى مديريات محافظة عدن ، التي هاتفتها في اليوم التالي والتقيتها فوجدتها زوجة سعيدة تنعم باحترام وحب زوجها لها ، وعند لقائي بالزوج أكد لي سعادته بالاقتران بـ ( ع ) التي تغدقه حباً واحتراماً وترعى بيتها. [c1]نساء بلا إثبات الهوية[/c] جلست أمامي فتاة في العقد الثالث من العمر وهي ، كما قالت لي ، الأكبر سناً من زميلاتها النزيلات ولنعطها الحرف ( س ) سألتها عن سبب تواجدها في الدار ؟ ولكنها من شدة خوفها على حياتها لم تفصح عن أية معلومات ، وما علمت سوى أنها ضحية عنف الأسرة التي لا تعلم بوجودها في الدار ، وأنها هربت من البيت وإلا كان مصيرها الموت والهلاك ، وتؤكد ( س ) أنها سعيدة جداً في الدار إذ وجدت فيه الحياة الأسرية والتعاون بين زميلاتها اللاتي تعدّهن كأخواتها التي حُرمت منهن قسراً ووجدت الرعاية والتعليم والتثقيف وغيرها من أوجه الاهتمام . فسألتها عن مستواها التعليمي ؟ ردت بأنها لم تكمل المرحلة الثانوية وأنها بدون أية وثائق تؤكد هويتها .. وبالمناسبة ليست ( س ) الوحيدة في دار الإغاثة التي لا تملك ما يُثبت هويتها .. فالنزيلات كافة لا يحملنها ، وكانت ولا زالت هذه المشكلة هي التي تنغّص حياة المحامية والناشطة الحقوقية عفراء الحريري ، التي ما انفكت تثيرها في مناسبات ومحافل عديدة ، بل رفعت العديد من الرسائل إلى الجهات العليا في الدولة وتابعت وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية في المحافظة وقامت بزيارات عدة إلى مكتب محافظ محافظة عدن الأسبق د. يحي الشعيبي والمحافظ الذي تلاه والحالي للإسراع في حل هذه المعضلة باستخراج وثائق إثبات الهوية ، فالفتيات يمنيات أصلاً ، ولديهن أسر وعائلات ، إلا أنه « لا حياة لمن تنادي » كما قالت لي الحريري وتنهيدة حراء تصدر من أعماقها ، وسؤال طلبتْ أن يُكتب بالخط العريض وهو : « إلى متى ستظل نزيلات دار الإغاثة لرعاية النساء السجينات المفرج عنهن وضحايا العنف بدون وثائق إثبات الهوية ؟ وبدورنا أخذنا السؤال لنوجهه إلى السيدة نورة ضيف الله رئيسة نيابة استئناف محافظة عدن التي أنكرت معرفتها بأي قضية من قضايا السجينات المفرج عنهن أو ما يخص دار الإغاثة . ولكنها ضربت وعداً بزيارة الدار وتلمُّس هموم نزيلاتها ، كما أكدت على حل أية إشكاليات تواجههن. وخلال متابعاتنا للقضية بين دار الإغاثة والجهات الأمنية والمدنية وجدنا أنفسنا ندور في حلقة مفرغة لا أحد لديه الجواب الشافي عن سبب التلكؤ والمماطلة في استخراج وثائق إثبات الهوية .. ووجدنا أنفسنا وكأننا نسير وراء سراب .. إلا أننا لن نغلق هذا الملف وسنبقيه مفتوحاً حتى تنبلج شمس الحقيقة التي نشعر بدنوها .