لم تعد عدن كما كانت. كانت المدينة، قبل أن تنهكها الفوضى، تعرفك من مشيتك، ومن ريحة عطرك وهندامك الأنيق، وتحييك بابتسامة صافية ومن القلب، وتستقبلك برائحة البحر الممتزجة بصوت المارة، ودفء الجيران الذين كانوا يربون أبناءهم كما يُربى النخل على الثبات والعطاء.
أما اليوم، فشيء ما انكسر في الشارع العدني، ليس فقط في الأرصفة المتآكلة، بل في النفوس التي فقدت حسها بالآخر.
لم يعد الاحترام فضيلةً، ولا الحياء عنواناً، ولا الكلمة الطيبة شفيعاً بين الناس.
في الأسواق تسمع لغةً خشنة لم يألفها أبناء عدن من قبل، وفي الطرقات تلمح سلوكاً عدوانياً صار مألوفاً حد الوجع.
سباق السيارات، شتائم المارة، تحايل الباعة، ولا مبالاة من قبل المسؤولين، كلها مظاهر تنذر بتآكل القيم التي كانت تميز هذه المدينة الفاضلة عن غيرها.
ولأنه حين تنهار الأخلاق يضيع التعايش فما يحدث في الشارع ليس مجرد انفلات سلوكي؛ إنه انعكاس لانهيار منظومة تربوية واجتماعية بأكملها.
حين تغيب القدوة في البيت، وتفشل المدرسة في التربية، ويتحول الإعلام إلى مصدر للفوضى بدلاً من الوعي، يصبح الشارع هو المعلم الأول، بكل ما فيه من ضجيج واحتكاك وعنف لفظي وسلوكي.
هكذا ننتقل من المدنية” إلى العدوانية”، ومن الذوق العام” إلى الوقاحة اليومية”، دون أن نشعر أننا نخسر شيمنا كل صباح.
العدني، بطبيعته، مسالم، متسامح، يحب النظام والنظافة ويحترم الآخر.
لكن ما يكابده اليوم من فساد وغلاء وظلم، وما يبتليه من قهرٍ يومي، دفع الكثيرين إلى فقدان أعصابهم قبل أخلاقهم.
فكيف نلوم الشاب الذي يصرخ في وجه رجل المرور، أو السائق الذي يفقد أعصابه في الزحمة، أو المواطن الذي يرد الشتيمة بأقسى منها، وهو يعيش في مدينة بلا كهرباء ولا أمل ولا عدالة؟
ومع ذلك، يظل الخطر الأكبر حين نبرر سوء الأخلاق بفساد الواقع، وكأن القيم باتت رفاهية لا يطيقها الفقراء.
وحين غابت الهيبة وارتبكت الملامح، وتشابكت الثقافات، ما عاد الصغير يحترم الكبير، وما عاد الكبير يتحفظ في تصرفاته تجاه الآخرين.
الابتسامة التي كانت تمنح دون مقابل أضحت تُقابل بالريبة، والنصيحة التي كانت تُقال بحب باتت تُفسر كتدخل في الخصوصيات.
تبدلت لغة الشارع، وصارت المفردات قاسية كالحجارة، حتى بين الإخوة والأصدقاء.
ولم تعد النظرة الحنونة في العيون تُرى، بعد أن غطاها الغبار اليومي، وأرهقها ضجيج الباعة وازدحام الطرق وضيق الحال.
صار كثيرون يتباهون بقسوتهم، كأن الخشونة صارت معيار القوة، والاحترام دليل ضعف.
يتحدث البعض بغلظة، ويصرخ آخرون لأتفه سبب، بينما في دواخلهم خوفٌ ووجع لا يعترفون به.
عدن كانت تهدئ الغاضب بنسيمها، واليوم صارت تغضب معه، كأنها انعكاس لوجوه أبنائها المنهكة.
ما أحوجنا اليوم إلى إعادة تثبيت مؤشر بوصلتنا الأخلاقية وترميمها، وأن نستعيد ذاك الإحساس القديم، حين كانت الكلمة الطيبة تُصلح ما أفسدته السياسة، والحياء يسبق الخطوة، والعذر يُقبل قبل أن يُقال.
نحتاج إلى أن نُذكر أنفسنا أن الأخلاق ليست ترفاً، بل هي هوية المدينة التي لا تُشترى.
أن نعيد الاحترام إلى الشارع، والذوق إلى الحوار، والرحمة إلى القلوب.
المجتمع الذي يفقد أدبه العام يفقد بوصلته أولاً، ثم إنسانيته لاحقاً.
عدن كانت وما زالت قادرة على استعادة روحها، لكن ذلك يبدأ من دواخلنا، من طريقة حديثنا، ونظرتنا لبعضنا، وتعاملنا في الشارع والمقهى والموقف والمدرسة.
فليس من الشجاعة أن تصرخ، بل من الرجولة أن تضبط نفسك.
وليس من الذكاء أن تسيء، بل من الكرامة أن تحترم غيرك حتى في الخلاف.
عدن لا تحتاج قرارات ولا شعارات، بل تحتاج أن نكون كما كنا: ناساً بسطاء، محترمين، نحب بعضنا دون مصلحة، ونعذر بعضنا دون حساب.
فالأخلاق لا تُدرس في المناهج، بل تُورث في السلوك اليومي، في طريقة السلام، وفي نظرة العين، وفي بسمة الوجه التي تقول:
ما زلنا بخير، ما دامت عدن بخير، رغم كل شيء.”
حكاية واقعية من هذا الزمن الرديء
ولكي لا يبدو الكلام تنظيراً، إليكم قصة من الواقع شهدتها بنفسي وكنت شاهداً عليها:
توفيت جارتنا، امرأة مسنة كانت تعيش وحيدة بعد أن أقعدها المرض، لا قريب يزورها، ولا ابن يسأل عنها.
كانت تكتفي بابتسامة الجيران، وطرق خفيف على الباب يحمل لها طبق طعام أو دواء.
وفي يومٍ حزين، فاضت روحها إلى بارئها بصمت. لم يخرج في جنازتها سوى الجيران، أولئك الذين شاركوها الوحدة في حياتها، والوداع في مماتها.
غير ان المفارقة المؤلمة حدثت بعد يومين، حين امتلأت الحارة برجالٍ ونساء لم نعرفهم، قالوا إنهم من أهلها”.
تهادوا لا لزيارتها، بل لاقتناص تركَتها” من الشقة المتواضعة وبعض الأثاث القديم.
يومها أدركت أن الفقر الحقيقي ليس فقر المال، بل فقر الأخلاق، حين تموت الرحمة في القلوب، وتُصبح المودة ذكرى من الماضي.
وسلامتكم،،
