حرب العصيد جنايات يحيى حميد الدين على اليمنيين




- هذا السفر يذهب بنا نحو الجوانب المجهولة من تاريخ الصراع بين سلطة القهر المذهبية- الطائفية ومحاولة إسقاط هذه القوى التي لا تنطلق في الحكم إلا من نظرة السادة والعبيدنجمي عبدالمجيد :
حين يرحل الباحث نحو تلك الزوايا البعيدة والمجهولة من التاريخ لا يكون فعله هذا مجرد استطلاع لما قد غفلت عنه الذاكرة.
بل يتحول إلى مواجهة صادمة مع وقائع كان عمادها الدم والموت والأصعب في هذا حين يظل هذا التاريخ حاضراً حتى اليوم بل يرجع إلى تلك المساحة من التحدي والتي كان الكثير يعتقد انها ذهبت مع رياح الماضي لكنها عادت بنفس الروح العدائية ضد المجتمع بل بقوة المشحونة بالحقد الدمي وكأنها تستعيد ما خسرت.
انه ليس كتاباً من ذاكرة الماضي بل هو طرح لتساؤلات عدة حول هذا الشرخ الكامن في الجسد اليمني.
ولعل أصعب ما في حقائق هذا الكتاب من أطروحات على التاريخ والأمة تكمن في هذا السؤال.
لماذا سقطت كل محاولات الخروج عن هذا التغول المرعب لماذا المناطق الشافعية في اليمن لم يكن لها حق القرار والسيادة كأمة؟!!
حين يصبح الدخيل هو من يحدد مسار التاريخ تتحول هوية الشعب إلى حالات من المسخ والتلاعب بها بل تساق مثل الانعام إلى سيف الجزار لينزل عليها بضربات تفصل العنق عن الجسد لتصبح مناظر الدم رسالة عنوانها اما الطاعة أو قطع الرقبة.
هذا النوع من تسلط السيف على الرقاب جعل تاريخ العلاقة بين الشوافع والمذهبية الزيدية حتى اليوم من أكثر الأحداث التي تبحث عن مخارج واجابات لكنها لا ترتد إلى نفس المربع من تسلط هذه الطائفة.
في صفحات هذا السفر لرائع ربما نرى تساولات المواجهة مع التاريخ هي من تذهب بنا نحو كل هذا الوجع منذ قرون وحتى الآن لم يكسر هذا الحصار الدامي على عامة الشعب اليمني من قبل هذه الطائفة التي جاءت إلى اليمن هروباً من مذابح صراعات دولة الخلافة الاسلامية؛ لتخلق لها في هذه الأرض مكانة راسخة كلما حاولت جماعة التمرد عليها دفعت بكل حقد العقيدة وشهوة الدمار في السلاح لتحول ما يملكه الطرف الرافض لهذا العسف إلى غنائم حرب، حتى أبسط الحرمات لا يكون لها من مكان وكل هذا يأتي باسم الحق الالهي في بقاء هذه السلالة في التسلط على رقاب الشعب اليمني.
هذا ليس سؤالاً بل هو أطروحة نجدها في اطار ما يسرده الكتاب من جراء تاريخ هذا النوع من الحكم.
حين ندقق في قراءة ما يطرحه لنا هذا الكتاب، نجده لا يقف عند حدود استرجاع الماضي بل يصبح شهادة في وعي الأمة ومواجهة مع الذات.
كيف يمكن لليمن ان تتجاوز هذا التراكم القاهر؟!
وحين نقارن بين الماضي وحادثة اليوم نشعر وكأن الكاتب يسعى إلى تحريك ما تصلب في الأنفس بفعل تلك الرهبة التي تتولد مع سكون النفس والتصالح مع الجريمة وكأنها القدر النازل من السماء وليس في الأرض من مقدرة على كسرها.
الكاتب لا يغفل دور المقاومة بل حروب لم تجعل الامامة تشعر بان هذه الأرض قابلة للخنوع، الذل بل هنا من يرفض أكذوبة الحق الالهي من التسلط على الأمة بل النظر إليها من دون منزلة الانسانية ربما أقل من الحيوان.
مما يطرحه علينا المؤرخ بلال في هذا السفر القيم: (كان المذهب الزيدي في ظل هذا المعترك الصاخب والمتجدد عاملاً سلبياً وهداماً ايضاً ذلك لانه ـ كما أفاد الباحث فاروق عثمان اباظة ـ أدى إلى تكوين طبقة عليا ذات سيادة كانت لها امتيازات معينة فاقت ما لبقية الطبقات الاخرى وابرزت نوعاً من الصراع الطبقي كانت له مساوئه الواضحة في المجتمع اليمني.
وأوجد المذهب الزيدي ـ وهو الأسوأ ـ فئة خانعة مشوشة ومغيبة عن حاضرها ومستقبلها ومناصرة لهذا الامام أو ذاك لضمان ـ كما تعتقد ـ حياة اخرى باقية وقد وقع أحد أفراد هذه الفئة الساذجة والمغيبة ـ في منتصف ستينييات القرن الفائت ـ أسيراً في أيدي القوات الجمهورية وحين حاول قائد تلك القوات اقناعه بان الثورة قامت من أجل مصلحته ومصلحة كل اليمنيين خاطبه قائلاً: انني لا أشك بأن الجمهوريين يريدون بنا خيراً ويريدون القيام باعمال هامة غير انهم لا يضمنون لي إلا هذه الحياة الفانية في حين ان الامام يضمن لي الحياة الباقية.
وتأكيداً لمقولته الصادمة اخرج من جيبه قصاصة ورق وقال: انها بخط الامام باعه في هذا الاخير قطعة من تراب الجنة.
في نظريته التي استخصلها حول نشوء الدول واستقرارها وتحللها واندثرها أكد عبدالرحمن ابن خلدون ان الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة.
وأضاف ان غاية العصبية غلبة الملك وانها ـ اي العصبية ـ اذا اقترنت بالدين لا يقف امامها شيء.
وتبعاً لذلك ـ وجدت دولة الامامة الزيدية في اليمن البيئة الخصبة التي تتفق وتطلعاتها غير المشروعة وبمعنى فصلها مؤسسها الأول الطامح يحيى بن الحسين الرسي لتتناسب وخصائص وطبائع سكان هذا المضياف.
وبتوصيف أكثر دقة قال بول دريس ـ وهو باحث بريطاني ـ ان الائمة لم يقبلوا ابداً بشرعية الاستقلالية والحماية القبلية إلا انهم كانوا في الممارسة يشذبون سياستهم لمجاراة حقائق الواقع المحلية الفارضة حضورها.
وأضاف: وللمطالبة بسلطان أوسع يراهن السيد على الإمامة اما غير السيد فلكي يحصل على نفوذ اكبر فإنه يساند الداعي للامامة.
وخلص بول إلى القول: ومع ذلك تبقى امامنا حقيقة ان الامامة كما تبدو لنا قادرة لا على إقامة دولة في بعض المراحل فقط ولكن ان تكون شبه دولة ومتممة واضحة للقبيلة رغم معرفتنا ان الامامة والقبيلة لا يمكن فصلهما من الناحية التجريبية).
مما يطرحه الكاتب بلال وعبر تقديم الرؤية التاريخية متحاورة مع الحدث، تتشكل لدينا نظرة في مسألة تركيبة المجتمع اليمني في هذا الأمر.
وهي ذات أهمية في قضايا التقييم وتحليل عمق الأزمة في نفسية الفرد والجماعة والأمة.
وكأن الباحث من خلال هذا الرصد الهام لا يفرغ المجتمع اليمني من حالة الاستسلام المطلق لمثل هذا النوع من القهر السلطوي.
هذا ما نجده في اسقاط كل منابر الفكر والتنوير التي قاومت شدة هذا الظلام.
بل شاركت عدة شرائح من العامة في طرد من حاول كسر حاجز العزلة بين الحضارة وهذا الجهل، بل من عمل على رفد هذه الأكاذيب بركام من التجهيل والرعب كي يجعل عقول العامة لا ترى في ظلام الامامة سوى نور الجنة.
لكن نعود إلى جوهر ذلك التساؤل الذي لم يخرج بعد من مأزق التاريخ.
لماذا اليمن هي المكان الذي يعيد انتاج قوة خرابه وتدميره؟!
ان اليوم وما يجري فيه لم يكن خارج هذا المسار الذي اصبح مثل الحلقة المغلقة محكمة الانغلاق ليست فيها نقطة تحدد البداية من النهاية، فهي تصالح التاريخ مع الأزمة كي يظل اليمن الحاضنة لمثل هذا النوع من سلطة صناعة الجهل والتحكم إلى حد بيع تراب الجنة في الآخرة بورقة.
لقد مارست سلطة الامامة كل انواع حروب الطحن الداخلي فهي تدرك ان التمزق والهدم هو من يعطي لها حق البقاء.
ان ساحة الحرب في عرف الامامة ليست صداما بين جماعات مختلفة على القيادات بل هي غنيمة للجنود الذين سخرت لهم شرعية القتل وجعل كل مافي يد العامة هو في اطار عقيدة النهب.
لكن هذا التاريخ لا يقف عند معالم القهر لسلطة الامامة بل سطرت المقاومة والمواجهات العنيفة مع جيوش هذه الفئة المتسلطة اروع الملاحم البطولية، وهزمت كل القوى القادمة من معاقل الظلام حتى وان تراجع المد الكاسر لها.
هنا تأتي ارادة الشعوب في حق تقرير المصير وما حرب الحديدة التي قادها الشيخ فتيني جنيد والتي وصلت إلى حد إعلان الاستقلال وقيام دولة لها سيادتها على أراضيها، إلا دليل على الرغبة في قطع عرق هذا التسلط عن من يبحث له في صنع مكانة إنسانية بعيداً عن ذلك التوحش.
وهذا الأمر لم يكن محصوراً في منزلة واحدة بل جرى في الكثير من مناطق الشوافع التي سعت بقدر ما تملك من قوة ومقدرة في رسم حدود لها.
لم تكن المناطق الجنوبية خارج هذه النظرة عند الإمامة، وفي هذا الاتجاه يقدم لنا الباحث بلال من سرديات التاريخ ما جرى من وقائع، لم تقف في أبعادها عند حقب أحداثها، لكنها وفي إطار عقيدة الهيمنة، تظل تعمل على الامتداد نحو كل الجوانب كي تمارس رغبتها في السيطرة. فلم تكن لها من أساليب سوى ما كان هناك ليكون هنا.
ومن صفحات تلك المرجعيات نقف عند بعض منها :( طيلة جولاته التفاوضية مع الإنجليز، كان الإمام يحيى حميد الدين دائماً ما يطالبهم بأراضي أجداده، رافضاً الاعتراف بمعاهدة الحدود الإنجلو ـ تركية، مستدلاً بسيطرة الأمير القاسمي احمد بن الحسن قائد جيوش المتوكل اسماعيل بن القاسم على الجنوب، وذلك قبل أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمن، ناسياً أن أبناء تلك المناطق تعاملوا مع أجداده كمحتلين، قاوموهم من أول لحظة، وطردوهم شر طردة وقتلوا منهم الكثير.
وفي عدن ثمة مقبرة باسم أحمد بن الحسن، احتوت ضحايا الحملة التي قادها ذات الأمير مطلع سنة 1055هـ يناير 1645م، وفي الشعيب رفض الأهالي دفع الجزية للدولة القاسمية عام 1650م، ثم عاودوا - بعد مرور عامين، وبعد خضوع مؤقت- تمردهم، ولم يستسلموا إلا بعد أن هدمت منازلهم.
وفي أحور قتل الأهالي القائد الإمامي محمد بن أبي الرجال ومعه عشرات العساكر عام 1658م.
وفي يافع العليا رفض الشيخ عبدالله هرهرة الخضوع لدولة الإمامة 1654م، واحتمى ومن معه بالشواهق العالية، وفي يافع السفلى قام أبناؤها بطرد العامل الإمامي شرف الدين بن المطهر من عاصمتهم القارة حافياً وقتلوا 15 من عساكره الذين عاثوا في تلك البلاد نهبا وخراباً، أرسل إليهم الإمام المتوكل إسماعيل ولده الأمير محمد بجيش قوامه 15,000 مقاتل، محرم 1066هـ نوفمبر1655م لتبدأ مع وصول هذه القوات لتلك الجهة حرب عصابات كلفت الإماميين الكثير.
لقد جعلت هذه العقيدة من قهر الآخر، ركيزة لخلق نوعية من مفهوم السلطة.
ولم يكن هذا الرسوخ في المعتقد، إلا عبر سلخ المقدس عن أصوله وإسقاط من أوهام الاجتهادات الذاتية على المواقع المظلمة من تكوينات لعقليات تبحث عن عبادة الفرد.
ولعل أخطر القضايا المطروحة علينا في هذا السفر الهام، ما يكشف سطوة الخرافة المذهبية التي تصاغ كأيديولوجية راسخة القناعة في أنفس من يقع في محيط هذا الطوق الذي ليس من السهل التمرد عليه طالما هو من يملك الحق الإلهي.
إن اليمن في هذا الجانب وعلى طول قرون من الزمن، دارت في هذه الحلقة المغلقة من صراعات المذهبية، وحتى اليوم، ما زال هذا الوهم مستحكماً في عمق عقليات لن تكسر هذا الصنم الوهمي، بل تعود إليه كلما أدركت إن التاريخ يحاول الخروج عن تلك الذات المتوحشة الناظرة نحو الغير من منطلق الترفع والإذلال.
هذا الكتاب الرائع، يجعل الوعي يعيد الحسابات في الكثير من القضايا، ولعل أهمها الكيفية التي تقام فيها الشراكة مع نوعية مثل هذه الأشكال من أزمات التاريخ.
وفي دور الوعي السياسي، يسقط الكاتب العديد من الأوهام عند من لم تكن بناء أنماط العلاقات مع اليمن دون إدراك هذه الأبعاد المظلمة من أدوار تلك الأماكن المعزولة والرافضة لأبسط مفردات التخاطب مع الوعي الحضاري.
إن الواقعة هنا لا تقف عند حدود تقسيم اليمن الى ساحة جهاد مذهبي وغنائم حرب. بل في صلة الاستمرارية عبر قرون، وكأن التاريخ هنا لا يصنع أو يغير بل هو فاعل وقوة حفاظ على هذا الصنف الدامي في تحديد العلاقة بين الحاكم والرعية.
لقد جعلت المذهبية الإمامية من اليمن ومن مرتفعات تلك الجبال الغارقة في ظلامات الزمن الموحش الحدود المقسمة لهذا المجتمع.
وهذا ما يكشف لنا عن جغرافية غير متقاربة ولا متجانسة بل فيها من الطرد والرفض ورغبة الإبادة عند كل طرف ضد الآخر.
وهو ما ظل مسكوتاً عنه في معظم فترات صنع الحوار السياسي الجامع لكل الأطراف في اليمن، حيث تصل الأمور في النهاية إلى ساحات الدم والنار.
هذا الكتاب يحمل شهادات للتاريخ، ويقدم لنا أكثر من رؤية لواقع ما يزال حتى اليوم تقوده عقيدة الانفراد الذاتي وطرد الغير.
- الإمامة المذهبية جعلت من أكذوبة الحق الإلهي السلالي عقيدة تخدير بين عامة الناس التي ظنت أن طاعة الإمام هي مفتاح الجنة
- الحروب في هذه العقيدة ضد الشوافع في اليمن من ركائز استمرارية شهوة الدم والنهب
- تاريخ هذه السلالات لم يخلُ من التناحر الداخلي وهذا يدل على أن طريق السلطة عندها لا يكون إلا عبر السيف
