الدكتور إدوارد سعيد
نجمي عبدالمجيد كتاب الاستشراق للدكتور إدوارد سعيد من المؤلفات الفكريةـ الحضارية التي تسعى لكسر حصار النص وإخراجه من فرضية المرحلة المنتمي إليها، والارتقاء في قراءة النص نحو اتجاهات تشكل في مرتكزاتها، مسافة الاتصال بين العقل والواقع.ومايدرك من قراءة هذا الكتاب الذي ذهب فيه إدوارد سعيد علمياً، إعادة استدعاء النص ـ الإستشراق ليس كأنتاج لحقب الهيمنة الاستعمارية الغربية على الشرق، ولكن من تعامل فكري مع النصوص التي أنتجت عصور الاستشراق، وهنا تصبح منهجية القراءة لنص الكتاب، إعادة اكتشاف لعلاقة التاريخ بالسياسة. كتاب الإستشراق لا يقف على حدود مربعات إنتاج الزمنية المنتمي إليها، بل هو يتحرك مع فضاءات الوعي الثقافي المرتبط بين المؤلف والمتلقي، فتصبح القراءة نقلة اخرى نحو اتجاه جديد، وذلك ما يعزز العالمية الفكرية لهذا الكتاب، وبالذات عند منزلة المؤلفات التي تعيد صياغة المستوى الثقافي في دائرة الإبداع، وهذا التجاور بين الفكرة والوعي هو الذي يجعل كل إعادة قراءة لكتاب الإستشراق، تطرح كشفاً جديداً لجوهر الإجتهاد العلمي والفكري الذي سعى إليه أدوارد سعيد في وضع الإستشراق كثقافة ساعدت على صنع رؤية سياسية، تطورت الى مبادئ وعقائد في علاقة الشرق بالغرب.يأتي استنتاجنا من هذا المنطلق الذي جعل منه الكاتب احدء خطوط المقابلة بين البحث الفكري الذي يصيغ خطاب الغرب نحو الشرق، وقوة السياسة الغربية في إنتاج مشرق جديد لا يتجاوز حدود البصمات التي تفرضها عليه دوائر صناعة القرار الغربي. في كتاب الإستشراق، يطرح علينا الدكتور ادوارد سعيد رؤية المفكر السياسي الذي يحث العقل على تخطي العلاقة القاصرة بين اللغة والوعي الذي ينتجه النص، فالقراءات عليها حق التحرر من الالتزام الواحد لمعنى النص، لأن درجات الوعي المتحررة من هذا الحصار تكتسب قوة ومقدرة إعادة إنتاج المعرفة، وهذا المقصد يتركه لنا ادوارد سعيد في ابعاد الفكرة، يتواكب مع كل إضافة جديدة يضيفها الوعي الثقافي عند القارئ لنص هذا الكتاب.كيف نجد في كتاب الإستشراق الفكر السياسي؟مايرشدنا الى هذا الجانب، النصوص الإستشراقية القائمة في متن الكتاب، فهي لا تقف عند مستوى التعبير اللغوي والفكري، بل تطرح قراءات سياسية لنفسية وعقل وحياة الإنسان العربي، والمسلم والتي على استنتاجاتها ترتبت أمور الهيمنة الغربية على الشرق، ومما جاء في كتاب الاستشراق نقدم هذا النص: (يوم الثالث عشر من حزيران 1910م ، القى آرثر جيمس بلفور محاضرة على مجلس العموم البريطاني حول المشكلات التي ينبغي علينا أن نعالجها في مصر، قال فيها أن هذه المشكلات تنتمي ، الى فصيلة تختلف اختلافاً كلياً عن المشكلات التي تترك آثارها على جزيرة وبث او منطقة وست رايدينغ في مقاطعة يور كشير. وقد تحدث بلفور بثقة نائب طويل العهد بالبرلمان، وأمين خاص سابق للوردساليزبري، ووزير اول سابق لشؤون ايرلندا، ووزير سابق لشؤون اسكتلنده، ورئيس وزراء سابق، ومتمرس خبير ممالا يحصى من الأزمات والإنجازات والتغيرات التي جرت في ماوراء البحار.وقد خدم بلفور، أثناء انهماكه في الشؤون الإمبراطورية، عاهلة كانت قد لقبت عام 1876م إمبراطورة الهند، وكان قد شغل مناصب ذات نفوذ غير عادي أهلته تأهيلاً خاصاً لتتبع حروب الأفغانيين، والزولو، والاحتلال البريطاني لمصر 1882م، ووفاة الجنرال غوردن في السودان وحادثة فاشودا، ومعركة ام درمان ، وحرب البور، والحرب الروسية ـ اليابانية.وإضافة الى ذلك، فإن سمو مكانته الاجتماعية، وسعة علمه، وحدة بديهته، فقد كان قادراً على الكتابة في موضوعات من مثل تنوع بيرغسن وهاندل، والإيمان بالألوهية، ولعبة الغلف ـ ودراسته في مدرسة إيتن وكلية ترينيتي في كمبردج، وتملكه الجلي لمقاليد إدارة الشؤون الإمبراطورية، كلها أضفت على ما أبلغه لمجلس العموم عام 1910م سلطة مرجعية كبيرة.غير ان خطاب بلفور كان ذا أبعاد أخرى او، على الأقل، كان ثمة أبعاد أخرى لكونه شعر بالحاجة الى إلقائه بهذه الطريقة التعليمية والأخلاقية.ذلك أن عدداً من أعضاء المجلس كانوا يتساءلون عن ضرورة وجود إنجلترا في مصر، الذي كان موضوع كتاب الفرد ملنر المليء حماسة الصادر عام 1892م، وإن كانت العبارة تشير هنا الى احتلال كان ذات مرة رابحاً ثم تحول الى مصدر للمتاعب، الآن وقد أصبحت القومية المصرية حركة صاعدة ولم يعد من السهل الدفاع عن استمرار الاحتلال البريطاني لمصر. وقد تحددت بلفور حينئذ ليخبر وليشرح).يأتي اختيار هذا النص الذي يجمع بين العمل السياسي والفكر التاريخي، ليضع أمامنا نوعية التركيبة التي قامت عليها رؤية الغرب الى الشرق، فالتاريخ هنا ليس مجرد نص ينقل من مرحلته كاستشهاد في الراهن، بل هو إحدى نقاط المواجهة في فعل التحدي الذي يسعى إلى جعل الهيمنة الغربية حقائق متسايرة مع شكل تلك العلاقة وأزماتها.ان بلفور هنا، من أحداث التاريخ، وفاعل السياسة البريطانية، والعودة إليه تنصب في عملية حث الذاكرة على استعادة كل ما فرض على الشرق ومن أساليب التعامل، فقد ظل الاستشراق في دائرة صناعة القرار الغربي، التقرير السياسي الذي يحدد على أي الطرقات تسلك خطوات المصالح.والنظرة هنا لبلفور، هي سبر أغوار العقلية البريطانية التي لعبت عبر تاريخها الاستعماري على مسارات متعددة فكان النص الاستشراقي يتشكل حسب تواكب السياسة مع المصلحة، فهي حالات من الإدراك الذي يضع مركزية الغرب عند درجات المقدرة المطلقة في إعادة هيكلة ليس فقط وعي امم الشرق، وكذلك إقناعهم بأن الهمجية تكون ذاتي لديهم، فهم اعجز من أن يرتقوا الى مستوى إنتاج الحضارة، لذلك تصبح نظرة بلفور في التعامل مع قضايا مصر مختلفة عن قضايا الغرب، فالفارق ليس في المسافات الزمنية مابين رقي تلك الحضارة وتدني الشرق في هذا الإتجاه، بل في عقلية شعوب الشرق التي ينظر إليها من زاوية القصور والعجز، وحق الغرب في الوصاية عليها، لأن التجاور الذي حدث بين صناعة القرار السياسي في الغرب والنص الاستشراقي، جاء بما هو اكثر من ذلك، حتى أصبح القاعدة العملية الموجب التعامل معها تجاه الشرق.يقرأ الدكتور أدوارد سعيد رؤية ضابط المخابرات البريطاني لورانس العرب تجاه الإنسان العربي، وهي عملية تشكيل لعلاقة إنسان هذه المنطقة مع التاريخ ومستوى الإنحسار الذي يربط بين العقل والزمان، وهنا يدخل الكاتب في مواجهة ليست نحو هذه العلاقة القائمة على ازمة ليست في فرضيتها التاريخية ، ولكن في استدامة مثل هذه العلة في العقل والضمير الغربي، حيث يقول: (يترابط مع ثبات العربي واستمراريته، كما لو ان العربي لم يخضع لعمليات التاريخ العادية.ومن المفارقة الضدية، ان العربي يبدو للورانس وقد استنفد ذاته في استمراريته الزمانية نفسها.وهكذا فأن العمر الهائل للحضارة العربية قد ادى الى تنقية العربي، والوصول به الى خصائصه الجوهرانية، وإنهاكه أخلاقياً خلال هذه العملية. ومايبقى لدينا هو عربي جرترود بل: قرون من التجربة ولا حكمة. فالعربي، إذن، من حيث هو كيان جمعي، لا يكتسب أية كثافة وجودية أو حتى دلالية. بل يبقى كما هو ، فيما عدا عملية التنقية المنهكة التي يذكرها لورانس، (من أحد طرفي سجلات الصحراء الداخلية) إلى طرفها الآخر.ويراد لنا أن نفترض انه إذا شعر عربي مابالغبطة، إذا شعر بالأسى لموت ولده أو والده، إذا كان لديه إحساس بلا عدالة الطغيان السياسي، فان هذه التجارب هي بالضرورة ثانوية الأهمية، خاضعة لمحض الحقيقة المستمرة العارية: حقيقة كونه عربياً.تقوم بدائية حالة كهذه على صعيدين أثنين على الأقل في آن واحد: أولاً، في التحديد وهو تقليص استخلاصي، ثانياً: (تبعاً للورانس وبل) في الواقع.ولم يكن هذا التصادف المطلق نفسه حدث مصادفة بسيط. فلسبب أول، لم يكن يمكن له أن يتم من الخارج إلا بفضل مفردات وأدوات معرفية مصممة لتحقيق غرضين معاً: الوصول إلى ألباب الأشياء وتجنب تشتت التركيز الذي يسببه الحدث العارض ، أو الظروف، أو التجربة، ولسبب ثان، كان التصادف حقيقة هي الى درجة فريدة نتيجة للمنهج، والترات، والسياسة في فاعلياتها المشتركة جميعاً.وقد قام كل منها، بمعنى ما، بإلغاء التمييز بين النمط ـ الأشرقي، الـ سامي، الـعربي ، الـشرقـ بين الواقع الإنساني العادي الذي وصفه ييتس بأنه (السر العصي على السيطرة فوق الأرضية الوحشية) والذي يعيش فيه البشر جميعاً.ولقد اخذ المكتنة الباحث نمطاً وضعت عليه علامة (شرقي) معتبراً إياه أي شرقي فرد قد يقابله.وقد قادت سنوات من التقاليد الى تغطية الإنشاء حول مسائل مثل الروح السامية او الشرقية بقشرة لها شيء من الشرعية. كما أظهر الحس السليم سياسياً انه في الشرق، بعبارة بل الرائعة (تتواشج الأمور كلها وتتماسك).ولذلك فقد تطبعت البدائية في الشرق، كانت الشرق، فكرة ينبغي على كل من يتعامل مع الشرق، اويكتب عنه ان يعود إليها، كما لو كان يعود الى محك ذهب يفنى الزمن والتجربة ويبقى.تزيح هذه القراءة عن النظرة السياسية لورانس العرب لحالة العربي حقائق التاريخ عن إمكانية خروج إنسان هذه المنطقة من حق الانتماء لحركة التطور التي تعد في الغرب الحتمية المحركة لكل منجز حضاري.فالشرقي هنا حالة محاصرة في ذاتها، التاريخ لديه استهلاك لقواعد تحد من تجاوز الذاتية.والنمط الذي يعاد تكراره، هو ماأفرغ عمق الروح فيه، فهي ان تخطت القشور، تعجز عن طرح البدائل في الأبعاد، وما حالة الخواء المعلقة فيه مرتكزات وعيه، الا إدمان العقل على استعادة الأشياء المعتادة والمفتقرة الى وعي الحضارة.فالترابط بين القصور ودوران التاريخ حول نفس النقطة، يعزز قوة الانقطاع مع الآخر، حيث تصبح (الأنا) هي الجميع على قاعدة نفي الآخر.تلك من جزئيات الصورة المتصلة بين السياسة والتاريخ الساعي الى سيادة نمطيتها في وعي الذاكرة عند الغرب، بينما يصبح وعي الشرقي هو ما تؤسسه هذه الذاكرة، فيدخل في دائرة الإستحواد على طرق صياغة الأفكار والقراءات ثم تأتي أساليب التعامل مع هذا الشرق.فالمعرفة في السلطة ليست فقط صناعة القرار، بل تقويم هذا القرار حتى يصبح الوضع المطلق والدائم للحالة هنا، الشرق صورة ترسم أبعادها وخطوط تقاسيمها من خارج الوعي التاريخي للمنطقة، فيأتي ذلك الشكل كحقيقة قائمة من ابديات الإفراز السياسي، العاجز لمنزلة الشرق.فالدكتور أدوارد سعيد في هذه القراءة يعيد لوعي الشرق حالة التمرد والتجاوز على هذا الحصار الإدراكي على قراءة التاريخ، وهو بهذا المستوى من الوعي، يجعل من كتاب الإستشراق، من أهم المؤلفات التي ظهرت في الفكر السياسي ليس على درجات الدراسات العلمية فقط، ولكن في تأسيس ثقافة فكرية جديدة في العلاقة بين السياسة والتاريخ، وهي احدى الإشكاليات الكبرى التي ظلت تتراوح بين الأزمات ونقد العقل، على مدار عصور صنعت مدونات الإنشاء في الغرب واقعاً متخيلاً لهذا الشرق.علينا إعادة إكتشاف كتاب الإستشراق، فهو من الكتب التي تمتلك القدرة على تجاوز حدود المعاني، فكل قراءة جديدة له تؤسس فهماً مغايراً لما سبق.إنها عوامل اخرى نذهب إليها عبر الأفكار وكان أدوارد سعيد ترك لنا فضاءات قابلة للإمتداد مع توسع مسافات الوعي الذي ينقل الصلة بين النص والمتلقي الى رؤية تجعل حالة المعرفة إعادة انتاج للوعي عند أعلى مستويات الحضارة.تلك قراءات تفرضيها علينا مؤلفات في منزلة هذا الكتاب الذي أصبح بحد ذاتيه مواجهة ثقافية، وهي ليست خاصية ينفرد بها دون أعمال ادوارد سعيد الأخرى والتي تمتلك القدرة على تحدي صدام الحضارات، وهذا ما يعطي لهذه الأعمال صفة الخلود في سجل الثقافة العالمية.