قصة قصيرة
كانت تلعب (الحجيلة) مع زميلاتها ، وما زالت تلبس زي المدرسة الابتدائي حينما أمسكت أمها بيدها وجرتها إلى حجرة في البيت تجلس فيها حلقة نساء غريبات ، فقفزت إلى نافذة البيت لتأخذ عروستها التي أهداها لها أبوها بمناسبة نجاحها في الصف الخامس الابتدائي ، والزائرات يتلسنّ : - ما شاء الله (حولك وحواليك) .- سلمي على الضيوف يا عروس .أمسكت (غناء) بكتف إحدى الضيوف وقفزت من النافذة ، خارجة عبر الباب إلى الشارع . وبينما (مها) تلعب على بصيص الشفق تراءى لها والدها والشيخ وهم يمسحون وجوههم بالصلوات . تبتسم (مها) في وجه الشيخ فيقول لوالدها :-- هذه البسمة ستسهل الأمر والله يفتح القلوب .الشيخ ينادي (مها) ذات الربيع الثاني عشر :- - أنت موافقة (يا بنتي) وموكلة أباك . حينها كانت (مها) مهزومة في اللعبة من زميلتها ، ففرحت لنجدة أبيها لها من الهزيمة ، وأعطته الحجر الذي بيدها ليلعب عنها وقالت للشيخ بفرح :- نعم يا شيخي رضيت وموكلة أبي . عادوا إلى البيت ، وحرروا العقد ، وحددوا يوم العرس الاثنين القادم . لتصبح (مها) بعد ليلة الحناء تلعب مع زميلاتها وتريهن نقوش حناء يديها الجميلة ، عند المساء تعود إلى البيت بزفة من جوار خطوط لعبة (الحجيلة) ، وتشكو لزميلاتها في الصف واللعب أنها سمعت أن بيت العريس يقع على تل صخري ، ولا يوجد تراب لتتضح عليه خطوط اللعبة ، وكذلك الأرض منحدرة لا تستقر عليها حجر (الحجيلة) . يوم الزفاف وعلى صوت (منى علي) الشجي : (خاطرك يا بيت أبي) . مرت سيارة العروس (مها) على خطوط (الحجيلة) ومحتها ؛ فصرخت في وجه السائق :-_ (ليش) ما تبعد عن الخطوط (خربتها) . خافت أمها بجوارها أن تبكي على خطوط اللعبة فتفسد مكياجها .وصلت السيارة فاستقبلهم العريس متشحاً سيفه ، ونافخاً وجنته بقات (شامي) ؛ لكي لا ينام ليلة (الدخلة) . والعروس بين زحمة النساء المستقبلات والشيء المخبأ في حذائها يعيق حركتها ، تخبطت بفستانها ، وضاعت بين أجساد ترتفع عليها بقوام فارع ، فما كان من العريس المستعجل للخلوة إلا أن حملها بين ذراعيه إلى غرفته . يقترب منها وهو يبتسم فيسقط سنه القاطع الذي ركبه عند طبيب الأسنان قبل العرس بأيام، فلم يأبه له ، ففزعت الزوجة التي فرغ كرسيها هذه الأيام هي وزميلتها (غناء) في الصف السادس الابتدائي . صرخت وهو يتقدم نحوها وكما أمرتها أمها بأن لا تخلع أحذيتها حتى يحرك جيب قميصه . أخذت تنظر إلى أسنانه المهترئة ، وعيناها تتوسلان أن لا يقترب منها ، وأمام إصراره على التقدم نحوها خلعت حذاءها ، وأخرجت منها حجر (الحجيلة) التي أرادت أن تحتفظ بها حتى ترى تراباً لتخط عليه لعبتها المفضلة ، فرجمت العريس المهترئة أسنانه في رأسه الأصلع؛ فأغمي عليه . فتحت شباك الغرفة الحديدي وباتت تنتظر موكب عرس زميلتها (غناء) ماراً بجوار البيت إلى القرية التي تبعد ساعة عن بيت (مها) الجديد ، وهي تلوح بيدها ولكن أنى لشباك محكم أن يسمح لخفقات أصابع ضعيفة أن تفلت عبر فتحاته المعينية الشكل . دلف الليل بسرباله الأسود وعيون (مها) يسرق النعاس قواها ، بعد يوم مُنْهِك يستفيق العريس المنتشي لليلة العمر ، ويرفع الحجر الأبيض المخضب بالدم الداكن إلى النافذة ، وبنشوة عارمة يقطع أزرار قميصه ، وإذا بصرخات (المها) تشق صمت الليل ، وكذا أنات (الغناء) تقطع نياط صوت الديك في مراحل الليل المتعاقبة . لتُؤخذ (غناء) إلى مشفى المدينة في الصباح فيخاط لها مناطق التهتك ، ويرجى من العريس التوقف ثلاثة أيام . عاد الليل وصوت الديك يستنكر صرخات (غناء) الصغيرة وهي ترتفع وتنقطع فجأة بصورة مكبوتة ، ولا يهدأ صراخها حتى يستلقي العريس على ظهره يمسح صدره المعشب بالغابة السوداء . وأيادي (غناء) ملطخة باللون الأحمر المقزز كما هي يد (مها) تماماً ، وتقلب يديها ، وتفرق بين أصابعها ، وترفض اللون الأحمر كما لون الشفق المدمي وجه السماء . دلف الليل بجلبابه الأسحم القاتم المتعطش لقطرات المزن الدامع ، ليفصح الشفق ذات ليل عن جنين يتكور في بطن (غناء) يفرق بين مولدها ومولده اثنا عشر ربيعاً مشوكاً أجدب .صوت (مها) يتعالى في صدر الغرفة كما جسدها يريد أن يأخذ حجر (الحجيلة) من النافذة ، ولكن لم تصل إليها لارتفاعها عن جسدها الصغير ، وترد عليه بصوت متنكر من نغمات الطفولة كرأسه المتنكر لشعره إلا فوق حافتي أذنيه :- لم أرض بك ولا أريدك ، هي فقط (مائتا) ألف ريال سأرجع إلى أبي ويعطيك (شرطك) ، وأعطني حجر (الحجيلة) .- ( هاه ، هي مليون يا حجة واثنين رؤوس بقر ) .لتذهب إلى بيت أبيها فتزجرها أمها بخوف : - لا يعلم أبوك بالخبر ، ما للمرأة إلا بيت زوجها يا (مها) . تعود وهي تتلمس على جنبات الطريق آثار خطوط الحجيلة وقد محتها آثار السيارات المتعاقبة . تخطت (مها) العام الرابع عشر فإذا بها تتلمس على صدرها بروزاً تؤلم ، وفي نجواها إحساس يجعلها تضم يديها إلى صدرها بدفء . فيدلف الليل سريعاً ، ويسكن صدرها برد قارس يثلج حبات العرق المتساقط على جسدها الغض . وهي في طريقها يوماً إلى أمها بعد شجار تعالى على موضع الحجر المخضبة بدم أحمر صار أسود لمرور السنين . تحسست الدفء والرغبة في مناجاة عصفور يعانق زهرة مهجورة ، ويغني على أطلالها الموحشة صمتاً ، فرأت (أنيس) زميلها في المدرسة، وقد أشحب صوته ، ومتن ساعده . فكتبت على رصيف مراهقته (ميم) محرومة و (هاء) هروب و (ألف) استغاثة ؛ فرد كما اسمه بالأنس والتلبية .لتمحو على صدر مراسيله لون الشفق المحمر بصفاء سماء ابتسامته . فكل يوم (أحد) تكون الزهرة المتفتحة أنساً ونمواً في موعد مع الشادي بلحن الحياة والحب ، وهما يمسكان كف السحاب ليدثرا قدر الشفق المرعب احمراره ، ويحملان كل أسبوع اللمسات الحانية ، وتنام على صدر نهاره كي تسهر ليلاً ؛ لتمانع الزوج من معانقة شفقه المنشود قائلة :- سأمنعك حتى تطلق أسري ، لم أعرفك عصفوراً يشدو لزهرة تذبل .ليوقف صوتها صفارة سيارة الإسعاف يمر من جوار الغرفة وصرخات العجوز (غناء) تخفت كلما قربت سيارة الإسعاف من غرفة الولادة في مشفى المدينة ؛ لتطل طفلة من رحم الطفلة (غناء) ، فيغيب شفق أنفاسها وتعقبها صرخات الطفلة الوليدة وشفق الغروب ينثر شرارته الحمراء على وجه السماء .*3 / 4 / 2010م .