ذاكرة التوثيق الغربي سجلت من تاريخ عدن ما حفظ لهوية هذه المدينة صوراً غابت عن الحاضر وذهبت ملامحها مع تغير الأزمنة، ومازالت هذه الذاكرة ترفد الراهن بالعديد من المعلومات والوثائق الهامة لمن يبحث عن عدن وحضورها في التاريخ.صدرت هذه المادة عن المركز العربي للدراسات الإستراتيجية العدد 40 أبريل 2011م، وتعود حقبتها الزمنية لعام 1939م وتقدم معارف عن حالة عدن كمدينة اقتصادية وموقع جغرافي عسكري في السياسة البريطانية الممتدة مصالحها عبر المنافذ البحرية العالمية، وعدن تظل في ماضيها وحاضرها محطة جذب وصراع بين القوى المتنافسة الدولية لما لمنزلتها من مقدرة على التحكم بوضع الطرق التجارية ما بين ميناء عدن وخليج عدن وحتى باب المندب، ذلك حكم التاريخ على عدن ومن هنا يتعامل هذا النص من خلال عهد هذه المدينة بصلتها مع العالم، فكانت الكتابة هي من يدون لتلك الأحداث وتساعد على استعادة ما مضى من معالم ذلك الطريق الذي رسم ملامحه على عدن وأهلها لعدة حقب من صروف الدهر. تبدأ رحلة آلان فاليارس إلى عدن بوصف شاطئ المعلا قائلاً: (تقف جبال عدن القاحلة تحت أشعة الشمس المحرقة بشكلها المكفهر حول خليج المعلا كما لو أنها قد صممت ووضعت في مكانها عن سابق إصرار وتصميم لحماية المياه من رياح المحيط الباردة.. وكانت الرمال عبر الخليج الضحل تبدو وكأنها تغتسل تحت سفح سلسلة الجبال، كما لو أن البحر قد ألقى بها هناك ثم تخلى إلى الأبد عن المهمة العقيمة إلا وهي محاولة ترطيب الصخور القاسية الموجودة في تلك المنطقة الجرداء.وكانت السماء زرقاء والشمس ساطعة محرقة، أما الرمال فكانت داكنة قذرة والشاطئ مليئاً بالأوساخ، وكانت الكلاب البرية تتربص خارج الأكواخ الفقيرة ولا تكف عن النباح حتى تنهار قواها، وأما الماعز فكانت تضج بثغائها، وقد أحيطت ضروعها بأكياس من قماش لا لون له ليمنع صغارها الجياع عن الوصول إلى الحليب.وكان الأطفال يتسابقون طلباً للبخشيش، حتى ليبدو أنهم لا يعرفون كلمة غير هذه، وعلى طول الطريق الممتد إلى جانب تلال رملية، كانت الجمال تمضي بعزم وإصرار تجر عربات صغيرة أو تنظم في قافلة لا تقل شيئاً، ويسير إلى جانبها عدد من البدو يرتدون أسمالاً مهلهلة ويتجهون نحو لحج أو أقصى أودية اليمن.وتقوم بيوت المهاجرين الصوماليين الذين وفدوا من بربرة الغربية، والذين أصبحوا الآن أكثر من العرب أنفسهم، تقوم بيوتهم على جانبي الطريق التي حلقت فوقها تشكيلة من الطائرات قاذفات القنابل، ذات الطراز القديم، وقد انسلكت في تشكيلات غير منتظمة تذكر بأن عدن على وشك الاحتفال بذكرى مرور قرن على خضوعها للحكم البريطاني.ولقد كانت عدن أحد مراكز التقاء الشرق بالغرب، وماتزال ميناء دولياً وعربياً مهماً، وذات أهمية خاصة للإمبراطورية البريطانية، حتى أنهم قد حددوا موقعها على الخارطة باللون الأحمر، ومازالوا يحمونها بالطائرات والمدافع، لقد كانت عدن في يوم من الأيام جنة البلاد العربية، واشتهرت بمركز مينائها الممتاز ومياهها العذبة التي كانت قبلة ربابنة القرن الأول من عصرنا، ومن المحتمل أنها كانت معروفة من البحارة العرب والهنود الذين كانوا يجوبون البحار الشرقية قبل قرون لا حصر لها، أما الآن فإنها مركز لتزويد السفن بالوقود وخاصة عابرات المحيط، ونقطة ذات أهمية في حراسة خطوط تجارة الإمبراطورية.ولقد سرت على شاطئ المعلا، حيث قام أحد التجار في القرن الثامن برسم خارطة دقيقة للمحيط الهندي على أرض تلك الرمال، وأبان عليها موانئ وخطوطاًَ بحرية تجارية ظلت غير معروفة لنا لمدة تقارب الألف سنة وعادت بي الذاكرة إلى الأمجاد القديمة لهذا الميناء العظيم أيام ازدهاره ونشاط الملاحة الشرقية، ولولا معرفتي بأن ثمة بقايا من تلك الأمجاد القديمة مازالت قائمة لما ذهبت إلى هناك لأن عدن ليست ذلك المكان الذي يؤمه الناس للنزهة).ويصف الكاتب، القوارب العربية التي كانت تعرف في تلك الفترة المحتفظة بشكلها العربي وهي أشبه بالقوارب الجميلة القديمة المعروفة في المياه الشرقية المسافرة فيها، وربما كانت على شكل أولي للقوارب المستخدمة من قبل البشر في ركوب البحر.وعلى طول الساحل شاهد أثني عشر قارباً في عدة أوضاع، فهي ما بين مرتكزة على قوائم من الخشب، أو مائلة نحو الماء، وكان عمال هذا النوع من صناعة السفن الخشبية يقومون بإصلاحها ويطلونها بالقار، وأما القوارب التي انتهت من الإصلاح فتقع بين أكوام من الأخشاب.يقوم عمال مهرة في صناعة هذه المقاصير، وسيلة عملهم المثقاب الهندي وكذلك بعض الأدوات البدائية لا غير، أما الأقواس المنحوتة بشكل رائع في القوارب الجديدة تخلق عند من يشاهدها الإعجاب بهذا الفن، وهي تبرز من بين وسط الأكوام الخشبية، كذلك شاهد الكاتب عدداً من هؤلاء الصناع المهرة وهم أقرب إلى الزنوج منهم إلى العرب من حيث اللون، وكانت تلك القوارب الصغيرة، قد قدمت من موانئ اليمن القريبة، وموانئ جنوبي شبه الجزيرة العربية إلى المعلا لتحمل إليها بضائع مختلفة بعد ذلك توزع على موانئ حضرموت والبحر الأحمر، وإلى جانبها كانت ترسو قوارب جاءت من الكويت، والسنابك من عابرات المحيط القادمة من صور العمانية وقد جلبت إلى عدن حمولة من تمر البصرة، وهي في حالة انتظار لتحمل بضائع في رحلتها إلى أفريقيا في فصل الشتاء. ويعلق الكاتب على تلك الحالة بأن القوارب البخارية لو توقفت لتترك المجال أمام البواخر وأقامت طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني لتتخذ لها قاعدة في مكان آخر، لكان ساحل المعلا أصلح مكان لرسو القوارب الصغيرة أو الكبيرة منها.أما الصغيرة فهي لإحضار وتوزيع البضائع على تلك الموانئ القريبة والكبيرة لحمل كميات من البضائع التي تعجز السفن الغربية عن حملها، وهذه تستطيع أن تنقل التمور من البصرة في العراق إلى الأسواق المحلية بأقل تكلفة مما تنقله سفن أخرى، وهي قادرة على نقل حمولة من الملح إلى مومباسا بتكاليف أقل من أية سفينة بخارية.وتلك القوارب كانت قادرة على القيام بالرحلات البحرية التجارية، حيث كان بحارتها يمارسون أعمال البيع والشراء وهم في عبورهم البحري مثل بيع التمور والملح والأسماك المجففة والملابس القطنية القادمة من اليابان بدلاً من الحرير الصيني النادر في الأسواق وكذلك الملابس الهندية، والسمسم والسمن وغير هذا من الزيوت العربية.أما أغاني البحر التي كان البحارة يرددونها وهم يجرون قواربهم الطويلة نحو رصيف المعلا، كان لها وقع الموسيقى على سمع الرحالة آلان فاليارس، وهو يسير على هذا الشاطئ، أما مشهد القوارب المعدة للرحيل فهو من الأمور الباعثة للسعادة في النفس، وكان ينوى أن يستأجر قارباً من هذه القوارب قبل أن يذهب ذلك النهار.ويستمر الكاتب واصفاً تلك الرحلة قائلاً: (قد يكون لشاطئ المعلا رائحة كريهة، ولكنه بالنسبة لي كان خيالياً ومكاناً يستدعي الاهتمام برصيفه المواجه لمكة حيث يولي المسلمون وجوههم عندما يصلون، وبذلك الأسطول من القوارب العربية لأن هذه القوارب قد تكون آخر وسائل الإبحار التي لم تطلها يد الفساد في العالم كله، فلم تعتمد بعد على الآلة في إبحارها، ذلك لأن آخر القوارب الشراعية الأوروبية كانت تلك التي تستعمل الأشرعة المربعة باسم “مأريها من” وتستخدم في نقل الحبوب من استراليا، غير أنه لم يبق من هذه القوارب إلا عدد قليل يعمل بعضها في البحر الأبيض المتوسط، ولعل منها على شواطئ البرتغال واحد أو اثنان، وثلاثة تعمل في بيرو، وواحد أو اثنان ما يزالان ينقلان النترات من تشيلي إلى ألمانيا وهذه هي كل ما تبقى من القوارب التي تسير بدون آلات أو محركات في عالمنا اليوم، فقوارب البحار الجنوبية قد دخلتها الآلة منذ زمن بعيد، وصار دخانها يعكر صفو أجواء كثير من الجزر النائية.أما القوارب الصينية فما تزال منهمكة في تجنب قنابل اليابانيين ولم تعد قوارب جزر الهند الشرقية لتقف أمام منافسة السفن البخارية التي تعمل على سواحل الهند تحت الإدارة البريطانية، كما أن القوارب البخارية قد أخذت منها معظم تجارتها وفضلاً عن ذلك فإن القوارب التي كانت تستعمل في غلو سيتر، وقوارب نقل الخشب في تسمانيا والقوارب الحربية في البلطيق، كلها قد أصبحت آلية.ويبدو - وقد ألقينا هذه النظرة الشاملة على تاريخ الملاحة البحرية خلال العشرين السنة الماضية - إن القوارب العربية هي وحدها التي مازالت لم تطلها يد الفساد ومازالت تعمل بانتظام، وأن العربي وحده هو الذي مايزال يقوم برحلات بحرية كما اعتاد أن يقوم بها منذ القدم على قوارب شراعية غير آبه لمحاولة الاستفادة من الآلة، وأن العرب وحدهم مازالوا يفتخرون بالإبحار في قواربهم الشراعية، محافظين على إتباع أهدأ المسالك التي كانت تتبع في الماضي وكما أن قوارب (ماريها من) الفنلندية التي كانت تستخدم في نقل القمح هي آخر القوارب الشراعية في أوروبا، فإن القوارب العربية تفخر بأنها ماتزال آخر ما تبقى من سحر الشرق، ولقد أبحرت في معظم الأنواع الأخرى من القوارب والسفن ولكنني لم أحظ بعد بفرصة الإبحار على قارب عربي، وبما أن القوارب الشراعية الأخرى قد انقرضت جميعاً فكان من دواعي سروري أن أتطلع نحو هذه القوارب، وأن أعرف أنها ماتزال باقية إلى اليوم.ولقد كنت دائماً معجباً بالقوارب العربية، كما أنني أكن تقديراً كبيراً للعربي نظراً لحياته النظامية الهادئة المستقلة عن البشر، ولقد كان العرب يبحرون، ويبحرون بمهارة، قروناً لا حصر لها قبل أن نعرف المحيطات ، وهم ما زالوا يبحرون متبعين الطرق التجارية ذاتها وبذات الوسائل الأمر الذي لايمكن إلا أن يعتبر دليلاً على كفاءتهم وإخلاصهم لتقاليدهم ولو أنني استطعت الإبحار معهم مرة في رحلة إلى شواطئ أفريقيا - لا تعلم منهم عن كتب طرقهم البحرية - لكان ذلك من دواعي سروري فعلاً.قام آلان فاليارس برحلة بحرية على متن قارب شراعي عبر مياه البحر الأحمر وهو ملك لشخص من اليمن يدعى احمد وكانت تلك مجرد محاولة وما أن توقف حتى يلقي نظرة على سطح مياه البحر الزاخرة بالحركة حتى شاهد تلك القوارب تتحرك حول مراسيها الواقعة خارج الخليج ، أو ترجع بعد أن أفرغت شحناتها من رحلة لها إلى جيزان. وليس من شك في أن الرحلة البحرية على ظهر أحد هذه القوارب سوف تكون بداية جيدة أما ما كان يصبو إليه من رحلات الإبحار على احد تلك القوارب الكبيرة التي تأتي من الكويت وصور والخليج العربي والموانئ الإيرانية إلى عدن تلك القوارب التي كان يرى فيها صوراً من بقايا عهد الحضارة الفينيقية وهي من أقدم ما عرف الإنسان من وسائل الإبحار وجاب عبرها البحار وهي تتراقص تحت أشعة الشمس في خليج المعلا وبحارتها ينشدون الأناشيد أثناء إفراغها من بضائع التمور القادمة من البصرة. تلك القوارب ربما كانت تستعد للقيام برحلات من مياه المعلا إلى أفريقيا وبما تسمح به الرياح الموسمية من ضمن رحلاتها العديدة التي قامت بها. كانت اسطولاً له منظر رائع وهي مدهونة بالزيت وتلمع تحت أشعة شمس عدن وفوق المياه الزرقاء في خليج المعلا وبصواريها المزدوجة البسيطة لقد كانت قوارب مثيرة كما شاهدها تبعث في نفسه الحماس كلما فكر في التاريخ الرائع والتقاليد الخالدة الكامنة وراءها وكانت الطائرات الحربية تحلق في سماء عدن أما السياح اخذوا يسرعون بسياراتهم للتحرك نحو الشيخ عثمان بينما تكون السفن التي جاءت بهم إلى عدن تملأ خزاناتها بالوقود من منطقة التواهي. ويقول في وصفه لمنطقة المعلا : ( وعلى كل حال فهانذا الآن - وكنت قد توخيت أن أتعلم بنفسي كل شيء عن هذه القوارب وكان المنظر ساراً - أواصل السير على شاطئ متمهلاً لأنني كنت أود أن أرى شيئاً ممكناً وكانت وجهتي مكتب القوارب الكويتية لصاحبها خالد عبد اللطيف الحمد وإخوانه وهم مستوردو تمور وأصحاب مزارع نخيل في العراق وأصحاب ومستأجرو سفن شراعية تتاجر مع أفريقيا واليمن وارتيريا والسعودية والصومال والهند وكنت اعرف أنني سأجد هناك تجمعاً لربابنة وبحارة السفن الكويتية وغير الكويتية لأنه كان من عادتهم التوجه الى مكاتب السفر كل صباح ولقد أحببت الذهاب سيراً على الأقدام رغم حرارة الجو لان المنظر يستحق أنعام النظر لا المرور به سريعاً في سيارة فالطريق المتعرجة المؤدية إلى ميناء عدن كانت تنبسط عن مناظر بهيجة وهي تطل على الميناء والبحر ولم أر الطرق المرصوفة والسيارات الأمريكية والبريطانية تجري عليها لأنني كنت في شغل شاغل بالتطلع إلى خليج المعلا حيث تتهادى السفن الشراعية على صفحة الماء ويستطيع المرء أن يقرأ فيها تاريخياً قديماً للرحلات العربية والحقيقة أن فكرة القيام برحلة على متن احد هذه القوارب من الأمور التي كانت تبعث السرور في نفسي). تظل مثل هذه الكتابات عن عدن وعبر فترات مختلفة من التاريخ ما يرفد ذاكرة الزمن بما كانت عليه هذه المدينة في الماضي وما غاب من معالم تلك الحقب شهادة على أهميتها في كل المراحل. وصورة المعلا التي يقدمها لنا آلان فاليارس في هذه الرسالة التاريخية ليست مجرد رحلة إلى مدينة من مدن الشرق نعرف عبرها كيف كانت هذه المنطقة من عدن قبل أكثر من نصف قرن من الزمان بل هي تعيد أحياء ذلك العهد في ذاكرة سكان عدن الذين لم يدركوا من تلك الأيام إلا بعض صورها العالقة في وجدان من عاصر بعض احداثها وخبرناسها وكأن التاريخ ليس كتابة بل كيان امة أن عادت إليه عادت إلى موطن الهوية والانتماء وتلك هي عدن.
|
ثقافة
آلان فاليارس .. رحلتي إلى شواطئ عدن وحضرموت على شاطئ المعلا
أخبار متعلقة