نجمي عبدالمجيد تقدم لنا قراءات الدكتور ادوارد سعيد حول المنفى كحالة قصرية مفروضة على الفكر والذات وهي عند أقصى محاولاتها للخروج من هذا الفرض التاريخي، رؤية لصراع الفرد المنفي ليس مع القمع السياسي الذي يجبر الإنسان على البحث عن المخرج حتى وأن أسقط هويته وأعلن أنه بدل حقوق الانتماء بغيرها من صور التعايش مع محيط آخر يكرس ثقافته وهويته بل قهره الحضاري على المنفي، القادم من مكان يعاني من أزمات تصاعدت إلى حد الإلغاء والانسلاخ الكامل عن معنى التاريخ. لا تقف حدود الكلمات عند مستوى المعاني، بل تخلق في داخلها درجات من الاتصال الروحي بين ما تركت من أثر على وصول الفكرة وبين ما تجسد في الذات عند الآخر من نظرة للغير جعلت حالات التقارب قائمة على مرتكزات لو سعى الآخر - الغرب للخروج عنها لأسقط هيمنته الحضارية التي أسس عبرها ومن خلالها كيانه التاريخي في تعامله مع الشرق.تأتي قراءات ادوارد سعيد لتجاوز هذا الحال من الهيمنة المولودة مع سلطة القهر الغربي للشرق وإزاحة المخيلة المختلفة والكشف عن صياغة مغايرة لمفهوم التواصل بين الشعوب والحضارات والثقافات وحتى القراءة عليها الابتعاد عن دائرة الأحكام التي شرعتها أزمات وصراعات والاعتراف بأن الشرق ليس حالة تخيل غربي تصاغ صوره حسب طلب المصلحة، بل هو كيان مشارك له منزلة الحضور والإسهام عبر حقب من التاريخ.يقول الدكتور ادوارد سعيد: (يجبر المنفى المرء على التفكير فيه ويا لها من تجربة فظيعة، إنه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي، فلا يمكن البتة التغلب على ما يولده من شجن أساسي، وإذا ما كان صحيحاً أن الأدب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، إلا إن هذه الحوادث لا تعدو أن تكون جهوداً يقصد منها التغلب على أسس الغربة الشال، فمآثر المنفى لا يني يقوضها فقدان شيء ما خلفه المرء وراءه إلى الأبد.ولكن إذا ما كان المنفى الحقيقي حالة فقدان مبرم، فكيف أمكن له أن يتحول بتلك السهولة إلى حافز قوي، بل ومخصب، من حوافز الثقافة الحديثة؟لقد اعتدنا النظر إلى الحقبة الحديثة على أنها حقبة يتيمة ومغتربة روحياً، عصر القلق والغربة.وقد علمنا نيتشه ألا نشعر بالارتياح للتقاليد، وعلمنا فرويد أن نعد ألفة العائلة ذلك الوجه اللطيف المرسوم فوق غضبة قتل الآباء وغشيان المحارم، والثقافة الغربية الحديثة هي في جزء كبير منها نتاج المنفيين والمهاجرين، واللاجئين، والفكر الأكاديمي والنظري، والجمالي في الولايات المتحدة لم يصل إلى ما هو عليه اليوم إلا بفضل أولئك الذين لجؤوا إليها هرباً من الفاشية، والشيوعية، وسوى ذلك من الأنظمة المجبولة على قمع الخارجين عليها وطردهم، بل إن الأمر قد وصل بالناقد جورج شتاينر حد اقتراح أطروحة ثاقبة مفادها أن أدب (المهجر) يمثل جنساً قائماً بذاته بين الأجناس الأدبية في القرن العشرين، أدب كتبه المنفيون وعن المنفيين، ويرمز إلى عصر اللاجئين، وهذا ما يشير إليه شتاينر بقوله: يبدو صحيحاً أن أولئك الذين يبدعون الفن في حضارة شبه بربرية، جعلت الكثيرين بلا وطن، لابد أن يكونوا هم أنفسهم شعراء مشردين، ومترحلين عبر حدود اللغة، شذاذاً متحفظين نوستالجيين في غير أوانهم عمداً.لقد كان للمنفيين في عصور أخرى ذات الرؤى العابرة للثقافات والقوميات وعانوا من ذات ضروب الإحباط والبؤس، وقاموا بذات المهام النقدية المستنيرة المثبتة على نحو المعي، مثلاً، هي دراسة إ. هـ. كار الكلاسيكية، المنفيون الرومانسيون، والتي يتناول فيها المثقفين الروس الذين تجمعوا حول هرزن في القرن التاسع عشر، غير أن الفارق بين المنفيين السابقين ومنفيي زماننا هو فارق في المقياس، فعصرنا - بحربه الحديثة وإمبرياليته ومطامح حكامه الشموليين شبه اللاهوتية - هو حقاً عصر اللاجئ، والمطرود والهجرة الجماعية).كيف للذات أن تخاطب النفي من داخل حصار النفي؟هل القدرة على وضع حدود فاصلة بين الانتماء والمفروض؟الاغتراب لا يصنع حالة الفقدان للأشياء، كذلك يعمل على إعادة بناء الشخصية وهي في حالة تجاذب الأطراف.وما يسعى إليه الدكتور ادوارد سعيد من خلال التفكير بواقع المنفى لا يعني الاستسلام لمأزق قدري أو إجباري يعاصره الإنسان ضمن ظروف وأحوال لم يكن له فيها حق الاختيار، بل هو ذهب بفعل مصاعب وأزمات تتجاوز حدود التأمل المرحلي.فالوطن في المنفى هو الذات الأخرى المفقودة، هو الوعي الذي يستعاد عبر المخيلة والتذكر كما يكون حالة استقامة والخروج من كسر الذات الذي يوجد ذلك الصدع بين شيء لم يعد خالقاً للشعور، وبين المغاير - الاغتراب الذي يؤسس في عمق الذات جزئيات جديدة لواقع آخر يصبح مع تعامل - الزمن هو المصدر لاستمرارية الوجود. التقاطع المرحلي الذي يطرح فيه ادوارد سعيد وضع المنفى في السابق، ومفارقات الراهن الداعية إلى البحث عن الوطن البديل، لم تخلقها حالات مصغرة من صراعات الفرد مع المجتمع، بل يطرحنا هذا المفكر مع فاجعة العصر، عصر الحدثة هو عصر القهر، زمن العلم هو زمن إعادة صنع أقدار الشعوب بواسطة الموت وسلاح الدمار، فكيف لعصر يحمل كل هذا الجنون لا ينتج كل هذا التشرد؟أما الثقافة والإبداع وما يخلق في صيرورة الوجود الإنساني القائم على التحدي، يصبح الفكر شهادة على وجهة الحقيقة التي لا تقهر في ذات الإنسان.إن المنفى كما يراه الدكتور ادوارد سعيد أرضية تتسع مداراتها في العلاقة بين الفكر والحياة، فالفرد لا يسقط عند مداخل المدن، ولكن في عمقها، هي من يبتلع الهوية، فلا منقذ غير الكلمات، الذاكرة التي تمد جسر التواصل بين الفراغ الذي يحدثه المنفى في الذات، وبين المكان الجديد - الإقامة، وهذه الأخرى تعيد تشكيل الملامح والمعالم الحاملة لعمق هويتها الحضارية، فينتج ذلك التجاوز في الأفكار والرؤية المساعدة على التصالح مع الذات ليست كفردية منعزلة عن المكان بل محاولة اجتهاد تسعى لرسم خطوط تتطابق بصماتها مع الإقامة في المنفى.والتاريخ الأدبي الذي يكتب عن هذا الإقصاء، يضيف نظرة في الزوايا البعيدة من المشهد، لأن الذاكرة الثقافية تقف على ثلاثة محاور: الأول: فضاء الاغتراب ومحاولة استعادة قواعده، الثاني: الذات للحظات منفردة تعاني من وحشة الابتعاد عن الانتماء، الثالث: الحنين إلى السابق، وهو الأكثر حضوراً في منازعات النفس مع حضور الاغتراب، وربما تصل الأمور إلى حالة القهر الفكري عند الفرد حتى يختار وضعية يستند إليها في مواجهة هذا الشيء - الاغتراب ليس في تكوين الروح بل في مواجهة التاريخ والحضارة، وتلك نقطة محوارية تتمركز عندها الثقافة.غير أن هذا المكان - المنفى لا تقف حدوده عند الاغتراب، بل تحول إلى تساكن مع الذات وعلاقة روحية وفكرية ربما تصل إلى حد الإيمان به كعقيدة مما يسحب عبر الفترات الإحساس بتساقط شعور فقدان الانتماء إليه وتتداخل عناصره المكونة لمسارات حضوره الثقافي والسياسي والفكري في ذات الفرد حتى يصبح بعدها حالة تنتسب إلى فضاء المهجر، فهو ما بين المشهد الداخلي والرؤية من المحيط.يرى الدكتور ادوارد سعيد أن المنفى قد أسس ذاته في ذات المنفي مما دفع الآخر إلى إنتاج وعيه الثقافي الجديد، وهنا يزول الفاصل بين الذات والمنفى، لأن الثقافة لا تقوم في الاغتراب عند فواصل الإلغاء، لأنها أن سلكت هذا المنعطف تشرذمت في متاهات صراع الرفض والقبول وإسقاط كل معالم السابق على الراهن بل تذهب إلى اعتبار أصلها هو الحق المطلق وما يحيط بها في الراهن - المنفى، لا يسلخها عن جلدها القديم.إن المنفى يعيد صياغة الفكر ويفتح للعقل آفاقاً مغايرة، وعملية تعامل مع الثقافة عبر مواجهة مع الأفكار والفنون والأدبيات والسياسة، فالغرب كما هو منفى كذلك هو معرفة لا يخترقها الغريب إلا عبر درجات من الوعي الحضاري والإحساس بأنه يقف على مساحة جديدة من الإدراك والتفكير، وهو في هذا مطالب بالتواصل مع هذه الكيانات الكبرى في الغرب عالم المنفى - الاغتراب.يعد كتاب (الاستشراق) للدكتور ادوارد سعيد من أهم المؤلفات في العالم التي صدرت في دراسة نوعية العلاقة بين الشرق والغرب، فهو من الكتب الفكرية التي تعيد تأسيس رؤية مغايرة لما كان سائداً في التعامل مع تاريخ وحضارة شعوب الشرق.فهو صورة تندرج في مسألة العلاقة بين الهوية والذات والمنفى، بين خطاب يضع تاريخ أمة في منظور المخيلة وتعيد تشكيل الغير حسب تصوره، وواقع الشرق الذي يمتلك كيانه الإنساني بما ترك من تراث عالمي أسهم إلى حد كبير في صناعة حضارة الغرب والتي لم تعد إلى الشرق إلا كقوة استعمارية قاهرة تريد فرض مرتكزاتها على الشرق من خلال السلطة الكونية لحضارة القوة.يقول في هذا الجانب: (تنبع المشكلات التي أود تناولها من القضايا العامة التي سبق أن تناولتها في الاستشراق، وأهمها: تمثيل الثقافات والمجتمعات، والتواريخ الأخرى، والعلاقة بين القوة والمعرفة، ودور المثقف، والمسائل المنهجية المرتبطة بالعلاقة بين أنواع النصوص المختلفة وبين النص والسياق، وبين النص والتاريخ.وعلي، بداية، أن أوضح اثنين من الأمور.. أولهما هو أنني لا استخدم كلمة الاستشراق للإشارة إلى كتابي بقدر ما استخدمها للإشارة إلى المشكلات التي ارتبط بها ذلك الكتاب، خاصة أنني سأعني بذلك النطاق الفكري والسياسي الذي غطاه الاستشراق (الكتاب) وما قمت به من أعمال بعد صدوره على حد سواء، أما ثانيهما، فهو أنني لا أريد أن يظن أن هذه محاولة للرد على منتقدي، فلقد أثار الاستشراق قدراً كبيراً من التعليق، أكثر ه إيجابي وبناء، وقسط منه معاد بل وبذيء في بعض الحالات.وواقع الأمر أنني لم أهضم أو أفهم كل ما كتب أو قيل، لكنني التقطت عوضاً عن ذلك تلك المسائل التي طرحها منتقدي وبدت لي مفيدة في التوصل إلى نقاش مركز، أما الملاحظات الأخرى، كاستبعادي للاستشراق الألماني الذي لم يقدم لي أحد أي سبب لأن أضمه، فقد بدت لي صراحة ملاحظات سطحية وتافهة، فلا أجد مبرراً للرد عليها.وبالمثل، فإن الزعم الذي أطلقه بعضهم، بأنني لا تاريخي ومفتقر إلى التماسك، كان ليكتسي مزيداً من الأهمية لو أن فضائل التماسك، كائناً ما كان المقصود بهذا المصطلح قد أخضعت لتحليل صارم، أما بالنسبة للاتاريخيتي، فهذه أيضاً تهمة وزن تأكيداتها أثقل من وزن براهينها. معروف أن الاستشراق بوصفه نطاقاً من الفكر والخبرة، يشتمل على العديد من الأوجه المتداخلة، أولها: تلك العلاقة التاريخية والثقافية المتغيرة بين أوروبا وآسيا، والتي ترجع في التاريخ إلى 4000 عام، وثانيها، ذلك الفرع العلمي الذي بدأ في الغرب منذ أوائل القرن التاسع عشر، وراح يتخصص المرء على أساسه في دراسة الثقافات والتراثات الشرقية المختلفة، وثالثها تلك الافتراضات الأيديولوجية والصور والاستيهامات المتعلقة بمنطقة من العالم تدعى الشرق، والقاسم المشترك بين أوجه الاستشراق الثلاثة هذه هو ذلك الخط الذي يفصل الغرب عن الشرق، والذي لا يمثل كما سبق أن رأيت، واقعة من وقائع الطبيعة بقدر ما يمثل واقعة من نتاج البشر، كنت قد أسميتها بالجغرافيا التخلية.وما يعنيه ذلك هو أن الانقسام بين الشرق والغرب ليس بالثابت الذي لا يتغير، كما أنه ليس مجرد اختلاف أو تخييل ما يعنيه - يقيناً - هو أن الشرق والغرب شأن جميع الأوجه فيما دعاه فيكو عالم الأمم، هما واقعتان من نتاج البشر، وبذا تتوجب دراستهما كعنصرين مكونين من عناصر العالم الاجتماعي، وليس العالم الإلهي أو الطبيعي، ولأن العالم الاجتماعي يشتمل على الشخص أو الذات التي تضطلع بالدراسة فضلاً عن الموضوع أو الميدان المدروس، فلابد من إدراجهما كليهما في كل تناول للاستشراق ما كان ليوجد لو لا وجود المستشرقين، من جهة أولى، ووجود الشرقيين، من جهة ثانية).تساؤلات يطرحها الاتجاه الفكري الذي صاغه الدكتور ادوارد سعيد في كتابه الرائد الاستشراق، لأن زوايا الرؤية تختلف في قراءة النص وتلك الاتجاهات هي الأخرى محكومة بما قامت عليه من صيغ واجتهادات فرضتها مكونات ثقافية وحضارية وسياسية لا تخرج عن سلطة الاحتكام إلى عصر الهيمنة الغربي الذي لم يكن صنيعة القوى الاستعمارية، بل هو من يحدد أشكال العلاقة والتقارب مع الشرق.ذلك لا يخرج عن خطاب المنفى والذات، يمارس الغرب المهيمن أشكالاً من الاغتراب على الآخر - الشرق الذي ما كان له أن يكون إلا في الإطار الذي حدده الغرب، وهو ما يولد مأزق فرض القهر المتسع المدى عبر حقب من الأزمنة.في ظل ما يخيل وما يعاد إنتاجه عند مستويات التصور الاستشراقي، تدخل ثقافات وحضارات ضمن المربعات المقسمة حسب المفهوم الغربي لهذا الخاضع والمشلول الإرادة - الشرق، فهو محور تقسيم وسلب تذهب فيه الرؤية الأخرى إلى حد وضعه تحت الوصاية والحكم.. فهو قاصر عن إنتاج تاريخه لأنه محاصر في ذاته - السابق.إن ما ينظر إليه الدكتور ادوارد سعيد استعادة الشرق ولكن ليست عبر ذاته - تاريخه، بل عبر فرضية الغير الساعية إلى قولبة كل المفاهيم والقيم والأفكار في إطار ما يمنحها حق الهيمنة على ذات الآخر، وبذلك تكون قد أوجدت أشكال لمنفى لا يمد جسور اتصال مع الشرق بقدر ما يعزل كل طرف داخل دائرة اغترابه.تشكل قراءة الاستشراق درجة في صياغة وعي ثقافي يسعى إلى استحضار الذات في مواجهة المنفى، فالاغتراب ليس حكراً على الفرد في واقع البعد عن مكان الانتماء، ولكنه امتداد لصراع حضاري وكسر لفكر لا يرى إلا ما تذهب إليه بصيرته المحكومة بسلطة الفرضية الغربية وهي حالة التسيد التي ظلت لعقود صورة الهوية لنظرة الشرق إلى الغرب، ومن تلك المسافات من العلاقة قدم لنا الدكتور ادوارد سعيد اجتهاد الفكر لديه كي يخرج الشرق من الإحاطة القاصرة عن إدراك مفاهيم الهوية والذات.
|
ثقافة
الدكتور ادوارد سعيد.. قراءات في خطاب المنفى والذات
أخبار متعلقة