ســطــور
كتبت/هبة خياري اعتراف..قصيدة رائعة.. أغرتني بقراءتها..جاء عنوانها اسماً وحيداً.. والاسم يرمز للثبات..فكأن شاعرنا هنا يقر مسبقًا بأنّ الذي سيقوله لاحقًا حقيقة ثابتة لا رجعة فيها.. ذلك أن المصدر لا يبين زمن الفعل.. ما يعني أن هذا الاعتراف لم يحدد بزمن معين.. فنحن لا نعلم متى كان ذلك بالتحديد؟لابد لي أن أعترفوسأعترففاتحة النص التي تكررت ثانية بخاتمته، ما ولد نوعاً من الانسجام بين البداية والنهاية.. وهو ما يجعلنا نحس أن القرار ثابت.. قرار الاعتراف..فهل كان الثبات من نصيب الشعور أيضا؟لابد لي أن أعترف... فلا مفر من الاعتراف في الزمن الحاضر، إنه أمر حتمي لا يمكن نفيه.ولكن شاعرنا يستعمل بعدها السين للتنفيس فيقول.. وسأعترفما يعني أنه يتراخى ويتأخر عن زمن الفعل الحاضر إلى زمن المستقبل..وهو ما يحتمل أن شاعرنا يرفض هذا الاعتراف بأعماقه.. إنه مجبر عليه.. ليس قوة.. ولكن استسلاماً..و ياله من استسلام جميل؟أني بدونك لا أساوي خردله، أني انتفاء في المعاني المهملة، محض امتلاء بالخواء..صورة بديعة للتعبير عن نفي الذات، إنه من دونها لا شيء، وهذه الكلمات جاءت هنا لتصب بمعنى الفراغ.. لا فراغ الشيء.. لا فراغ الروح.. ولكن فراغ الوجود.. وهي تباعاً : لا أساوي.. انتفاء.. المهملة.. الخواء.. فصل أخير من فصول المهزلةلحن رتيب كلهشعر يناجي ربه أن يقتلهوكأننا نقف أمام مسرحية..لكنها..مهزلة بفصلها الأخير.. ما يعبر عن نهايتها، ويخفي رغبة دفينة بقتلها،انظر معي.. ستجد أنّ كلمة مهزلة من الهزل.. والهزل نقيض الجد.. والهزل في معناه المعجمي يتعدد بالسياق بين الضرّ و الضعف والفقر والجدب والموت..مسرحية بلحن رتيب، لحن ثابت، لا حراك فيه، لا حياة .. مسرحية بشعر يتوسل قتله، وهنا تحدث المفارقة، فالشعر عنوان للخلود،ما يعني أن هذا الشعور سيظل حياً ولن يموت أبداً.. لأن الشعر قد خلده.. وهو ما يرهق صاحبه..وتأتي القصيدة لتقف بأنوثتها أمام الفصل واللحن والشعر.. فتهمس لشاعرها أن..لقد أطفأت برقي غيلةوخطفت من رعدي فتيل القنبلة.وكأنّ القصيدة جسم هامد غير قادر على الجهر..لقد قتلها الشاعر خدعة.. سلبها قوتها.. و وهبها الظلام والضعف.. وإن الشاعر بقتل القصيدة يعلن قتله..لا برّ ليلا بحر ليلا اسم ليليتأكد هذا القتل صراحة في الأبيات التالية.. ميت أنالا نبض بعدك في دميلا ماء يسقي السنبلةإذ كل من النبض والماء رمز للحياة وسبب لاستمرارها.. لكن الشاعر يسبقهما بنفي.. وهو ما يؤكد الرغبة السابقة..ويجعل من اللّيالي.. كل اللّيالي بالمواجع مثقلة.ولا بد لي أن أقول هنا، إن الوجع الكبير هو المسئول الأوحد عن مثل هذا الشعور.. أتراه عشقاً عادياً هذا الذي أتقن رسم هذه الصور؟لا تزال الإجابة غامضة...ليبدأ بعدها الشوط الثاني من الاعتراف..أن البلاد بلاقعوالريح وادعةوساكنة على أعقابهانسيت أوار الزلزلة.وفي ذلك عودة لمعنى الفراغ والسكون والجمود من جديد..وأعد حبات الحصىوأعد أوراق الشجربتلات زنبقةوجاردينيا مزنرة بعطر الأسئلة.ليصبح فعل العد هنا هروبًا آخر.. ومحاولة للانشغال وللتخلص من الذكرى.. من السؤال.. من الإجابة..وتحدث المفاجأة بكلمة مزنرة.. هذه التي تحمل دلالات خاصّة جداً.. أهي الفتاة المزنرة بالورد وبالشال المطرز بالجمال؟أم هي أرضنا المزنرة بالحروب والقتل والدمار؟أم هي الحبيبة المزنرة بالجدار والمستوطنات والحواجز والمعابر؟جردينيا هي؟.. أم أنها واحدة من الثلاث؟ تتمنى الأسئلة لو تطوقها.. لكنها لا تستطيع معها الاتحاد..فلا يبقى إلاّ أن يمر عطرها.. كخفقة حلم.. يلمسها دون أن يلمسها.. فيجهض الجواب! وكعادتك يا نضال..تبدأ الدهشة..يشتاقني؟... لا... ربماأو عله مثلي أنايحصي الكواكب بانتظار زيارة مستعجلةفيتحول الكلام إلى المذكر.. فمن يكون يا نضال؟هذا الذي سيتوج الشوط الثالث من الاعتراف..هذا الذي لأجله قلت:لابد لي أن أعترفأني ذبحت من الوريد إلى الوريدعلى شفير المقصلةلما نظرت إلى خطاه الراحلة.هذا الذي لأجله قلت:سأعود ثانيةلأكمل ما تخفى من ولهوهو ما يبعث فسحة من الأمل بالنص بعد ذلك الشعور الأليم بالفناء ونكران الذات..هذه الفسحة المستعجلة.. والتي لا نكاد نتمتع بها ونتلذذها حتى تحدث المفاجأة مرة أخرى:أو ربمايأتي من العشاق آخريعتلي هذا النشيد ليكملهويقول ما لم قد أقلما يفتح أمامنا مجالا للتأويل: أهو انسحاب عاشق كريم.. أم هو استسلام ورضوخ للأقوى.. أم هو إشعار بالعودة إلى الفراغ.. بالعودة إلى الفناء.. أم هو اعتراف صريح بأنّ القصيدة رغم كلّ ما قالته فإنّ هناك المزيد ولم تقله.. أو ربّما قالته حقًا وتحتاج عاشقًا يميط اللّثام عنه..لابد لي أن أعترفقبل الختام بمرحلةفأي ختام تقصده شاعرنا.. ختام القصيدة.. موت الشعور.. أم أنه مرادف الفناء!وأخيرًا.. يرتسم الاعتراف.. بأبسط ما يكون! وسأعترفأني أحبككم أحبك؟ويا له من اعتراف جميل لابد منه .. اعتراف مرصع بنكران الذات، ما يشكل أعذب لوحات العشق..هذا العشق الذي يتشظى بعدها على يد الكلمات فتتعدد أوجهه. فهنيئاً لمن كان له...أكان الحبيبة.. أم القصيدة... أم الشهيد... أم الوطن...