حميد الحريزي الشعر هذا الدفق الشعوري الإنساني، الذي جاء كالنبع الصافي من رحم ارض تغلي أعماقها فوارة بالحمم البركانية ، من اجل أن يخفف الضغط النفسي القهري عن الذات البشرية، وما تتعرض له من الضغوط ، البيئية، والمناخية والغذائية ووضعه تحت طائلة الخوف والتوجس والتوتر الدائم في حياته البدائية .كل هذه الظروف وتناغماً مع الظواهر الطبيعية وانسجاما مع حدوثها والإيقاع الموسيقي المصاحب لها .. هطول الأمطار، صفير الرياح، حفيف الأشجار ورفيف أجنحة الطيور وخرير المياه و..و..و..إلخ وَلدت لدى الإنسان إحساساً ((شعرياً)) معبراً عن هواجسه وإحساساته وتناغمه مع ما يحيط به من إيقاع كوني يتناوب بين زلزال عاصف أو بركان ثائر أو نهر جارف أو انسياب نبع هادئ ورفيف أجنحة فراشة هادئ أو تغريد بلبل ساحر.. كانت للإنسان إيقاعاته وتعبيرات النثر كونها الإيقاع المنتظم كابن لطبيعة يعيش في كنفها ويتأثر بمؤثراتها، أي بين الصراخ والانفجار وبين الانسياب والهدوء . يذكر مؤرخو الفنون أن الشعر الرقص ثم الشعر هو أقدم الفنون التي مارسها الإنسان قبل العصور التاريخية .. وقد مرت مسيرة التطور والتغير، عبر أساليب مختلفة وأجناس متنوعة من القول الشعري ابتداء بالملاحم وما قبلها ومن ثم الشعر المقفى والموزون انتهاء بقصيدة النثر والنص المفتوح وبهذه المناسبة الجميلة ليوم الشعر العالمي نود أن نعرج قليلاً على بعض ميزات ((قصيدة النثر)) فهذه النصوص الشعرية التي تعتمد الإيقاع الداخلي ،خلعت كل قيود ما سبقها من أنواع الشعر سواء العمودي أو الحر أو شعر التفعيلة فبدا كلاما ممغنطا ، يضمر موسيقاه ومعناه في داخله عبر مفرداته التي تجاوزت اللغة القاموسية المتعارف عليها، أثرت المفردات بمعاني ومضامين غير مألوفة، لتكون مولدة فاعلة لمفردات ومعاني ودوال غير متداولة، إنها لغة الصورة المخفية بين الكلمات التي تحتاج للفطنة والتفكر والقراءة المتأنية الناقدة لتفصح عن معناها، فيكون القارئ الناقد كالمظَّهِر الذي يظَّهِر الصورة السالبة في التصوير الفوتوغرافي، مما وهب اللغة المتداولة الراكدة روحا جديدة من حيث المعنى والمبنى، وهذه تعتبر من أهم خواص قصيدة النثر .. أنها المسحوق السحري الذي يعيد للغة شبابها وتجددها ... وهنا لا ننسى أن نشير إلى استسهال بعضنا كتابة هذا النوع من الشعر، فنقرأ قطعاً نثرية هي وثيقة الصلة بالمقالة بعيدة عن روح الشعر وإيقاعاته موسيقاه، فسهل على مناهضي قصيدة النثرالطعن في نسبها الشعري..الخاصية الثانية المهمة لقصيدة النثر كونها نص قراءة وصورة وليست نصاً شفاهياً سماعياً كما هو حال القصيدة العمودية والحرة والتفعيلة .. إنه نص تفاعلي تداولي بين الشاعر والمتلقي .. نص لا يمكن للشاعر أن يحصر معناه ومضمونه في ما ارتسم في مخيلته .. انه نص متعددة معانيه وتأويلاته مساوية لعدد قرائه وربما يتشظى تحت نظر القارئ لأكثر من معنى ليكون عند القارئ الواحد أكثر من نص.. وهو بذلك غادر منصة الخطابة فور مغادرته الخطاب السمعي للخطيب لينتقل إلى نص الصورة التي تمر من العين إلى المحللات الفكرية والخلايا المخية للمتلقي ومخزونه الثقافي والفكري ليظَّهِرها بأشكال ومعان ومضامين تنسجم مع ثقافة وفهم وقدرة الفرد الذات على التحليل والتأويل.. بالضد من القصيدة المنبرية الشفاهية السمعية التي يكون فيها الشاعر القائل هو سيد القول وقابض المعنى ومحدد المضمون في حين يكون السامع متلقيا سلبياً مستهلكاً يزدرد الكلم ويستنسخ الصور دون أن يكون له دور في تظهيرها أو تدويرها ألا بحدود ضيقة للغاية لا تبتعد كثيراً عن مراد الشاعر الخطيب .هذا الوصف لقصيدة النثر يتطلب رعاية وطقساً خاصاً للاستمتاع والقراءة، هو طقس ومستلزمات القراءة الناقدة المنتجة.. أي يفترض أن تنزل المنصة أو المنبر لتكون كرسيا بين كراسي قراء النص الجالسين حول طاولة مستديرة، يتوهج عندهم النص منتجا نصوصا بعدد القراء مضافا إليهم الشاعر كأحد القراء ... وبذلك فان قصيدة النثر تجعل من القارئ سيدا حرا مستقلا ومنتجا مشاركاً، وليس متلقيا مسلوب الإرادة مقفل التفكير محدد التعبير بأطر ضيقة محددة بفهم ومراد الشاعر.قصيدة النثر قصيدة الفرد الذات المتحررة من الوصاية والأبوية والهيمنة الإرسالية وليست قصيدة الجمهور الكتلة الصلدة ذات الوعي والعقل الجمعي الخرساني المتصلب..المستعد للهتاف والهياج والتهليل أو الاحتجاج .. تحركه عواطفه، ويتحكم فيه حبله الشوكي الذي يعتمد ردود الفعل الانعكاسية اللاإرادية المباشرة، وليس تلا فيف مخه المتبصرة الموزونة المفكرة ..لذلك نرى مدى الواقع القهري والمأساوي الذي توضع فيه قصيدة النثر حين تلوى رقبتها وتسحل سحلا لتلقى من خلال منابر القاعات الاحتفالية والمهرجانات الجماهيرية المعدة لقصيدة الخطاب التحريضي والترويضي المباشر، فتعيش قصيدة النثر غربتها وتعاستها وعدم انسجامها مع جو استفزازي عدائي ، يعمل جاهدا من اجل تشويهها وإذلالها أو عدم المبالاة بما تريد قوله ، تشعر بالغربة والاغتراب وكأنها تتكلم بلغة أجنبية غير معروفة من قبل الحضور الصاخب المحيط بها ..قصيدة النثر مخلوق لا يمتلك حنجرة قوية ولا آذاناً مفتوحة، أنها تمتلك عينين نافذتي البصر ومخاً متطوراً. نرى أن قصيدة النثر هي وليدة ونتاج شعور فردي يعيش في ظل مجتمع الحداثة وما بعدها، أي مجتمع تسوده قيم الفرد الذات الحرة، التي لم تعد مستسلمة للتقليد والقانون الصارم إلا بما يوفر للإنسان الحيز الكافي من الحرية للتعبير عن مشاعره ورغباته وأحاسيسه ، إنسان ما عاد يؤمن بأي ثابت سوى المتغير، عالم بلغ فيه التقدم العلمي مستوى فاق التصور وبسرعة كبيرة متسارعة دوما دون توقف ، مما تطلب كسر كل الحواجز والقوالب الجامدة والأسس الثابتة، في وسائل الإنتاج وفي المأكل والملبس والسكن ووسائل النقل .. مجتمع يطالب دوما بكسر التكرار والرتابة ..يعيش أزمة روحية ونفسية مؤلمة نتيجة لتناقضات المجتمعات الرأسمالية الاستغلالية التي تريد أن تقلب مسرى ومجرى التطور لتجعل من الإنسان عبداً مطيعاً للآلة وليس العكس، قيم الربح ثم الربح السائدة، أي أن الإنسان استطاع أن يهدم الحدود ويكسر السدود بين البلدان والشعوب والثقافات، وان يتحدى الموروث الجامد، ولكنه لم يستطع أن يخلص الإنسان من قيد الضرورة لينطلق إلى عالم الحرية ، وهي رياض ومسكن ومرفأ قصيدة النثر، النظم الرأسمالية أطبقت بآلتها الجبارة على روح الإنسان خالق جبروت وتطور الآلة وليس العكس ... مما جعله في حوار دائم ومتجدد مع ذاته من اجل أن يعيد للتطور مساره الصحيح بما يخدم الإنسان ويوسع من حيز حريته ويعطيه وقتا كافيا لاغناء متطلباته النفسية والروحية كالرياضة والموسيقى والغناء والإبداع الأدبي والفن التشكيلي وما إليه ...ولأجل هذا يجب أن يكون التطور التكنولوجي والعلمي لا بكونه يراكم الثروات في خزائن الأثرياء بل بمقدار ما يوفر للإنسان من الوقت الحر لاكتمال غناه الروحي والنفسي ... كل هذه المعاناة والتناقض الصارخ بين عالم تكنولوجي ومنتج مادي هائل محطم القيود ومختصر المسافات، ومنتج لتداخل الحضارات ، وبين حالة العوز المادي والقلق النفسي الناتج عن التهديد بالبطالة أوالتعرض للكوارث النووية والحروب والأمراض والتشرد والتغيرات البيئية التي تنذر بالأخطار الوخيمة على مستقبل البشرية، وفقدان الثقة بسوق العمل الاستغلالي المستعبد لعقل وجسد الإنسان باعتباره سلعة تباع وتشترى في سوق العمل الرأسمالي ومتطلباته .. فجر طاقات شعرية هائلة تجاوزت كل قوانين وثوابت المنتج الفني في مختلف المجالات ومنها الموسيقى والشعر وبقية الفنون.. أصبحت للصورة الهيمنة الكبرى في حياة الناس وتصنيع وعيهم وتوجيهه صوب الوجهة التي يريدها مالك مفاتيح وسائل الأعلام ودور الثقافة والتوجيه.. وبذلك فان قصيدة النثر والنص المفتوح وموت المؤلف أصبح منتجا وإفرازا طبيعيا لمثل هذه المجتمعات بالعكس مما هو حاصل في المجتمعات المغلقة التي لازالت قيم وتقاليد ما قبل الحداثة مشبعة في بنية ((مجتمعاتها))، متناغمة مع نزعة استهلاكية غير منتجة وحراك اجتماعي راكد مأيسن ... لا يصلح إلا لنمو وتكاثر الاشنات والطحالب، يستفزه كل جديد ... وهذا هو السبب الرئيس الكامن وراء غربة وعزلة قصيدة النثر وغيرها من أشكال وأنواع الفنون المتطورة ، وهو السبب الكامن كما نرى وراء ولادة قصيدة ((النثريلة)) كما سماها الدكتور عبدالله الفيفي في العديد من دراساته، وهي ثنائية النثر والتفعيلة في النص الشعري محاولة منها لإيجاد وسيلة تفاهم وانسجام مع النصوص الخطابية الشفاهية المهيمنة على الساحة الأدبية في بلداننا... فوضع منتجو هذا النوع أو الجنس من الأدب نخبة النخبة الغريبة غير المألوفة...التي لا يمكنها أن تندمج مع الكتلة البشرية الهاتفة بأمجاد القادة العتاة وأبناء الأجداد الأباة... كتل تيمم وجهها صوب القبور غير أبهة بحاضرها ومستقبلها...من ذلك نخلص إلى ضرورة فهم طبيعة قصيدة النثر وتوفير المناخات المناسبة لقراءتها وفهمها وتدا ولها ، وعدم دمجها مع فن الخطابة وقصيدة المنبر، كما نشهده الآن في العديد من المؤتمرات والأمسيات الشعرية .
|
ثقافة
اليوم العالمي للشعر(قول في قصيدة النثــــر)
أخبار متعلقة