المستر وليم هارولد إنجرامز
في المدونات البريطانية التي تركها المقيم السياسي البريطاني المستر وليم هارولد انجرامز، عدة وثائق تاريخية تسرد لنا ما كانت عليه عدن في تلك الحقبة وما حفظ في الذاكرة من صور لمدينة عاشت صراع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م) وكيف أعادت تلك الأزمة صياغة أحوال هذه المدينة لتنقل بعدها من حقبة إلى أخرى، وانجرامز بما ترك من مؤلفات حول عدن وحضرموت واليمن وبعض المستعمرات البريطانية، حفظ للذاكرة الثقافية، السياسية، التاريخية ما كان قد يسقط من سجل التدوين وهو ما أعطى لنا مسار العودة لتلك الفترات من تاريخ عدن وغيرها من المناطق التي مرت عليها خطوات وليم إنجرامز.ولد وليم هارولد إنجزامز بتاريخ 3 فبراير عام 1897م وكانت وفاته بتاريخ 9 ديسمبر 1973م، شارك في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918م)، وقد أصيب بجرح بليغ في إحدى المعارك، عام 1919م عين مساعداً للحاكم العام لمنطقة زنجبار في شرق افريقيا، عين في وظيفة ضابط سياسي في مستعمرة عدن عام 1934م وعن تلك الحقبة تقول زوجته دورين إنجرامز: (حتى عام 1937م فإن عدن لم تكن تحت إدارة وزارة المستعمرات، وهذا ما أتاح لإنجرامز الذي كان أحد موظفي هذه الوزارة أن يصل إلى تحقيق رغبته التي كانت تراوده منذ زمن بعيد في العمل في الجنوب العربي. إذ عين من قبل وزارة المستعمرات ضابطاً سياسياً في محمية عدن ولكنه كان ادارياً يتبع للمقيم السياسي بعدن الذي كان الى جانب توليه منصب الحاكم العام لعدن لحساب حكومة الهند، معيناً من قبل وزارة المستعمرات كضابط مسؤول عن المحمية).شغل منصب المستشار المقيم لبريطانيا في دولة حضرموت في المكلا من 1937م حتى عام 1944م، وكانت اول زيارة له لحضرموت من عام 1934م حتى عام 1935م. عام 1940م اصدر ملك بريطانيا الملك جورج السادس، الذي حكم من عام 1936م حتى عام 1952م امراً ملكياً بتعيين انجرامز مديراً عاماً لشؤون الدولة في عدن والمحميات وذلك لخبرته الواسعة في تلك المناطق وإليه يعود نشر الإصلاح والأمن في دولة حضرموت، كما أنه اشرف على تأسيس مدرسة أبناء الأمراء والسلاطين التي افتتحت في ابريل 1936 وتقع في المعلا دكة فوق جبل حديد، وقد كانت قبل ذلك مقراً لفيلق من الضباط الهنود، كما استخدمت كسجن، وكان زعيم مصر سعد زغلول سجيناً في هذا المكان 1921م، وكان الكابتن دار نغولد في عهد المقيم السياسي جنرال أي . دي. برت الذي حكم عدن من عام 1906م حتى عام 1910م قد وضع فكرة إنشاء كلية لهذا الغرض غير أنها لم تنفذ إلا في عهد كولونيل بي ، آر، رايلي الذي حكم عدن من عام 1930 حتى عام 1940 واختار انجرامز الثكنات الواقعة خارج عدن لتكون مقراً لتلك الكلية، كما شغل منصب وكيل اول لحكومة عدن من عام 1940م حتى عام 1942م.ترك عدة مؤلفات لها صلة بأعماله السياسية وفي المناطق التي عاش بها ونذكر منها: 1. لهجات سلطنة زنجبار صادر عام 1924م، 2. تاريخ الأسرة الحاكمة في زنجبار وأنسابها عام 1926م، 3. الدليل المرشد لأسئلة امتحانات اللغة السواحلية عام 1927م، 4. زنجبار تاريخاً وشعباً عام 1931م، 5. بلاد العرب والجزر عام 1942م، 6. هونج كونج عام 1953م، 7. اليمن والأئمة والحكام والثورات عام 1963م، وعدة تقارير عن عدن ومحمياتها الشرقية، كما شارك زوجته دورين في الدراسات والخرائط التي وضعت عن دولة حضرموت في تلك الحقبة.من أعماله في عدن في المجال التربوي والتعليمي، حيث فتحت مدرسة الحكومة في عدن في شهر ديسمبر 1940م وكان الإقبال عليها كبيراً وقد توافد الطلبة للاستمرار لمتابعة دروسهم، كما افتتحت المدرسة الابتدائية الحكومية للبنات يوم الاثنين المصادف 25 نوفمبر 1940م، وكانت قد اتخذت التدابير اللازمة ضد الغارات الجوية في المدرسة. اما الدوام المدرسي فكان من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة الواحدة ظهراً.ورغم ظروف الحرب العالمية الثانية ومامرت على عدن من احوال بحكم موقعها كقاعدة مهمة لبريطانية في الشرق الأوسط ظلت حكومة عدن تحافظ على سير الحياة فيها، ففي العدد 46 من صحيفة (فتاة الجزيرة) بتاريخ 17 نوفمبر 1940م نشر هذا الاعلان عن التعليم والمدارس في عدن وقد جاء فيه: 1 - ستفتح المدرسة الإبتدائية والمدرسة الثانوية للحكومة بعدن في يوم الأربعاء الموافق 20 نوفمبر1940م.-2 وقد اتخذت احتياطات من الغارات الجوية في بناية المدرسة ولآباء الاولاد واوصيائهم ان يزوروها إذا ارادوا.-3 وعلى كل والد او وصي يرغب في ان يحضر ولده للدروس ان يرسل خطاباً الى مدير المدرسة يطلب فيه ذلك ولن تقبل المدرسة أي ولد بدون هذا الطلب من والده او وصيه.-4 وتتخذ الاحتياطات من الغارات الجوية في مدرسة البنات بعدن التي ينتظر أن تفتح عما قريب.-5 وتتخذ مثل هذه الاحتياطات في مدرسة الحكومة الابتدائية للبنين في الشيخ عثمان.-6 وسيعنى بأمر بقية المدارس الحكومية في المستقبل).في عام 1940 أقام انجرامز وزوجته مأدبة عشاء فاخرة في ليلة الجمعة احتفاءً بقدوم السيد علوي بن أبي بكر الكاف إلى عدن، وقد دعي إلى تلك الحفلة عدد من أعيان العرب وهم الشيخ علي بن محمد بازرعة والسيد محمد بن البار والشيخ خالد عبداللطيف والأستاذ المحامي محمد علي لقمان ، وعدد من الضباط الانجليز وهم القبطان جالو واي والقبطان سيجر والسيد بالمر سكرتير الوالي والوجيه اثاناس كوبو لوس، وقد كان احتفاء المضيف الكريم وعقيلته الفاضلة بضيوفهم رائعاً وكانت المائدة عربية فاخرة والحديث بعدها ممتعاً بحث فيه القبطان سيجر عن اليمن والحضارمة واول قدومهم إلى عدن، وكانت السيدة دورين انجرامز تبحث عن بلاد العرب ومناخها، وأهلها وهي واسعة الاطلاع في هذا الجانب.كانت لا نجرامز علاقات تاريخية مع حضرموت وله فيها ادوار سياسية مهمة وحول هذا الجانب يقول المؤرخ صلاح البكري في كتابة (في جنوب الجزيرة العربية) حول صلة بريطانية بدولة حضرموت وإسهامات انجرامز فيها: (ترجع علاقة بريطانيا بحضرموت الى نهاية القرن التاسع عشر، فقد عقدت معاهدة سنة 1888م بين بريطانيا والحكومة القعيطية واهم ما في هذه المعاهدة ألا يرتبط سلاطين حضرموت مع أية دولة اجنبية إلا بعد اخذ رأي بريطانيا وموافقتها، واستمر الوضع السياسي لحضرموت على ذلك إلى ان جاءت سنة 1937م فقد قام المستر انجرامز مستشار الحكومة القعيطية الأسبق بمجهودات كبيرة لعقد معاهدة بين بريطانيا والحكومة القعيطية وعقدت المعاهدة ووقع عليها السلطان صالح بن غالب القعيطي بالنيابة عن حكومته السير برنارد رايلي حاكم عدن والمستر انجرامز بالنيابة عن الحكومة الانجليزية وذلك في 13 أغسطس سنة 1937م وسلمت بعد ذلك مذكرة لعظمة السلطان صالح توضح لعظمته انه ليس في نية الانجليز ان يقللوا من أهمية سلطة عظمته وان أهم اختصاص المستشار الانجليزي تقديم الإرشادات والنصائح النافعة للبلاد، وجاء في المذكرة أن المعاهدة ستطبق على النحو الذي طبقت به معاهدات ولايات الملايو في الشرق الأقصى، وجاء فيها أن من سياسة الانجليز أن تبقى سلطة الحاكم المحلي في كل الشؤون كاملة ماعدا الشؤون الخارجية فإن الأمر يختلف نوعاً ما.وانتهت المذكرة بأنه في حالة استحكام الخلاف بين المستشار والسلطان، فللسلطان ان يلتجئ إلى حاكم عدن.ولما كانت حضرموت لا تستطيع دفع مرتبات المستشار وموظفيه فقد تكلفت الحكومة البريطانية بالقيام بذلك. بتاريخ 17 نوفمبر 1940م كتب عدد كبير من سكان عدن عريضة إلى والي عدن طالبوا فيها بأن يتم تشجيع أبناء عدن على التوظيف في الإدارات الحكومية كإدارتي الشرطة والبريد بدلاً عن أبناء الجاليات الأجنبية التي كانت صاحبة النصيب الأكبر في هذا المجال.وفي الفترة نفسها بلغ ما جمعه أهالي عدن لمشتري طائرات هريكن المقاتلة (030. 366) روبية وظل باب التبرع مفتوحاً لفترة من الوقت وقد عبر انجرامز عن ذلك قائلاً: (إنا نشجع الأمة العدنية على المساهمة في العمل للدفاع عن وطنها وعن العدل والحرية فعلى كل شخص ذكراً أو أنثى أن يتبرع بروبية إذا لم يقدر على الأكثر).في كتابه (اليمن ـ الأئمة والحكام والثورات) يتحدث انجرامز عن وضع عدن في صراعات تلك المرحلة التي شهدت تحولات مهمة في مسارات السياسة العالمية جعلت من هذه المنطقة معادلات، أزمات دولية لا يمكن تجاوزها عند كل الأطراف التي جعلت من عدن وخطوط ارتباطها في الطرق البحرية والبرية، التي تصاعدت أهميتها بعد افتتاح قناة السويس في 17 نوفمبر عام 1869م ، وما قبل هذا التاريخ ظلت عدن في حسابات السياسة العالمية نظراً لمقدرتها الجغرافية في تقديم خدمات عسكرية واقتصادية لمن يصل نفوذه إلى هذا المكان وعلى المستوى الإقليمي ظلت عدن محل تصارع لا تعرف فيه من فرص الاستقرار سوى فترات قصيرة وعن ذلك يقول انجرامز : ( لم يكن الصلح مع السلطان يعني القضاء مباشرة على مظاهر التوتر. فعلى المرء أن يتذكر عند قراءة تاريخ العلاقات بين البريطانين والعرب، انه بينما كان البريطانيون يسعون جادين للمحافظة على سياسة ثابتة متوازنة كانت السياسة العربية تتغير بتغير الحكام. وكان المعتمد السياسي هينس هو الذي يحدد السياسة المتبعة في عدن ولكن هذه السياسة كانت منسجمة مع توجهات حكومة بومباي وحكومة الهند وإدارة شركة الهند الشرقية في بريطانيا وكذا مع سياسة الحكومة البريطانية. أما فيما يتعلق بالعرب فإنه بينما يمكن للمرء أن يتكهن بتصرفاتهم في منحاها العام إلا أن تصرفات الأفراد لا تخضع لمعيار ثابت فإن سلاطين لحج كانوا يختلفون كثيراً بعضهم عن بعض كالأئمة الزيديين . وهكذا فإن السلطان الذي استقل بالحكم في عام 1728م - ثم استولى على عدن عام 1735م أتى على خيرات المنطقة. أما ابنه فقد كان متعقلاً وكريماً ولكنه لم يكن حريصاً على متابعة شؤون الحكم فترك عدن تحت تصرف حاكم من أفراد الحاشية العبيد.وقد أتى بعده سلطان قاس حافظ على قوة مركزه ولكنه في أثناء ذلك قتل ابن أخيه. وكان أخوه الذي خلفه هو ذلك الرجل الرحيم المضياف المهتم بالزراعة الذي أحسن استقبال حامية بريم، وكان يميل إلى النصارى وعرض عدن على البريطانيين ووصلت لحج في عهده إلى مكانة سامقة. ثم خلف هذا السلطان ابن أخيه محسن بن فضل الذي احتلت عدن في عهده وكان ابنه علي بن محسن مثله بالإضافة إلى انه كان متقلباً في اتجاهاته. وفي الوقت الذي احتل فيه البريطانيون عدن، كانت تهامة ما تزال في يد محمد علي ولكن على الرغم من أن ابنه إبراهيم باشا تخلى عن الحديدة إلا أنها سقطت في اليوم نفسه الذي تركها فيه من ابريل عام 1840م في يد إشراف أبو عريش الذين ما فتئوا يثيرون القلاقل. ولم يكن الأئمة قادرين على فعل شيء في مواجهة هذه الأحداث لان قوتهم استمرت في التدهور. وفي عام 1834م خلف الإمام عبدالله ابنه الإمام علي الذي اتخذ لقب المنصور تشبهاً بالإمام الشيخ الذي كان قد توفي في عام 1809م ولكن علياً هذا أقصي عن السلطة في عام 1837م واختير بدلاً منه أمام آخر كان نصيبه الاغتيال في عام 1840م وعندما نصب إماماً عم الإمام السابق علي المنصور. وفي بداية عهد هذا الإمام الجديد خرج احد المتشددين مدعياً حملة لرسالة مقدسة من أجل تطهير بلاد الإسلام وإخراج الكفار من عدن، وقد استطاع هذا المتشدد الاستيلاء على تعز ومناطق اخرى، ولكن تم القضاء عليه وقتله نهاية العام.وعندما تم ذلك وجه الإمام اهتمامه لاستعادة تهامة من الشريف حسين شريف أبو عريش، فأرسل وفدين في عام 1841م إلى عدن لطلب المساعدة البريطانية وفي مقابل هذه المساعدة عرض على البريطانيين أن يتنازل لهم عن مدينة زيلع على الساحل الصومالي. ولكن البريطانيين امتنعوا عن تقديم هذه المساعدة).إن هذه المدونات البريطانية المتصلة بتاريخ عدن وما كان من إسهام انجرامز في كتابة موضوعاتها عن مناطق الجنوب العربي وعدن في فترة الحكم البريطاني، كل ذلك يقدم لمادة البحث التاريخي والسياسي مرجعية تكشف عن جوانب لم تزل مسألة الحسم في قضاياها لم تدخل مرحلة الإغلاق النهائي.فهي من الأحداث التي تظل عملية التنقيب والكشف عن حقائقها في حالة مستمرة وقابلة للتعامل مع الجوانب المجهولة من الأرشيف البريطاني وما به من وثائق متصلة بعدن والجنوب العربي والأحداث مع اليمن والصراعات الدولية على المنافذ البحرية والجزر ومناطق الثروات في هذا المكان، سوف تستمر مسألة الكتابة في هذا الجانب عن انجرامز وغيره من الشخصيات البريطانية لما في هذا من صلة مع مدينة عدن والجنوب لأنه التاريخ الذي لم تغلق أبوابه حتى الآن.