في الأسبوع الماضي احتفلت قيادة تنظيم " القاعدة " بمرور عام على تفجيرات لندن الإرهابية التي أزهقت أرواح عشرات المدنيين الأبرياء من مختلف جنسيات العالم بينهم مسلمون من الأطفال والنساء.بث تنظيم " القاعدة " شريطاً أحيا فيه ذكرى تلك المجزرة الدموية على نحو ما فعله في اوقات سابقة حين بث - عبر قناة " الجزيرة" أيضاً - شرائط مماثلة أحيا فيها ذكرى القتلة وسافكي الدماء الذين أزهقوا أرواح المئات من الأبرياء في مدريد وباريس وبالي وغيرها من المناطق التي اكتوت بنار الإرهاب. كعادتهم دائماً يبرز الإرهابيون القتلة في الشرائط التي تبثها قناة "الجزيرة" وهم يتحدثون بدم بارد عن جرائمهم الدموية الرهيبة التي ازهقوا فيها أرواح الأبرياء تحت بيارق الجهاد في سبيل الله ومقاتلة أهل الكفر ومن والاهم.. وكذلك يفعلون أيضاً في مشاهد مروعة ومرعبة على شرائط فيديو عبر الانترنت ، حيث يظهرون فيها وهم يجزّون رقاب ضحاياهم بوحشية غير مألوفة وبدم بارد غير مسبوق..ثم يهتفون فوق جثة الضحية الذبيحة بشعار التكبير :(الله اكبر ولله الحمد) !!ربما كانت أحداث 11 سبتمبر التي روعّت مدينة نيويورك والعالم بأسره قبل خمس سنوات هي الأكثر دموية في سجل الإرهاب الذي يقوده تنظيم "القاعدة" وقياداته وخلاياه النائمة والناشطة في مختلف بلدان العالم، بيد أنّ مياهاً كثيرة جرت في العالم منذ وقوع تلك الأحداث المأساوية التي سيحيي العالم بأسره ذكراها الخامسة بعد شهرين.ومن نافل القول إنّ تلك الأحداث أسهمت في تجويف مسار المتغيرات التي افسحت الطريق بعد انتهاء الحرب الباردة لإعادة صياغة النظام العالمي، وتسريع التحولات الديمقراطية على نطاق كوني، بالتوازي مع الإيقاع المتسارع لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.يقيناً أنّ أحداث سبتمبر أسهمت في تجويف مسار المتغيرات العالمية إذْ استبدلت المنظور القديم لتقسيم العالم إلى عالمين ( اشتراكي ورأسمالي )، بمنظور آخر يقسم العالم إلى قسمين:الاول يفترض ان نكون " مع الإرهاب اوضد ه " ، و الثاني يصر على ان نكون مع " فسطاط الكفر اوفسطاط الإيمان "، الأمر الذي يشكل نكسة مروعة للميول الموضوعية التي أوجدتها ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ونهاية الحرب الباردة باتجاه تأكيد وحدة وتكامل العالم الواقعي والحضارة البشرية .الأخطر من ذلك أنّ تداعيات أحداث 11 سبتمبر لم تهدد فقط وحدة وتكامل العالم، بل تجاوزت ذلك الخطر لتهدد أيضاً وحدة وتكامل الحضارة الإنسانية المعاصرة، حيث ارتفعت أصوات متطرفة من هنا وهناك تروِّج لأطروحات بائسة مثل (( صدام الحضارات )) بحسب هنتجتون و(( الاستحلال الحضاري )) بحسب سيد قطب ، وكلاهما عنصريان متعصبان بامتياز!!من السهل جداً تفنيد أطروحة تقسيم العالم إلى (( فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان )) .. ومن السهل أيضاً دحض مقولتي (( صدام الحضارات )) و(( الاستحلال الحضاري )) لأنّها تشكل منظومة من المفاهيم البائسة والمحبطة والمتعالية . بيد أنّ أطروحة تقسيم العالم إلى (( مؤيد للإرهاب اومناهض له )) تفتقر إلى الموضوعية، لأنّ الغرب - وفي المقدمة منه أمريكا وأوروبا - كان أول من أطلق عفريت التطرف والإرهاب من قمقمه ، حين أباح لنفسه توظيف الكنائس الشرقية وجماعات الاسلام السياسي في معارك الحرب الباردة ، وقدم الملاذ الآمن للإرهاب وسانده بمختلف أشكال الرعاية الاجتماعية والحماية القانونية والخبرة الإعلامية والدعم الاستخباري .وحين تكاثرت عفاريت الإرهاب واتسع خطرها المدمر ليطال عواصم ومدن الدول الكبرى مثل نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن بعد احداث 11 سبتمبر، بدأ الغرب يحصد ما زرعته دوائره السياسية وأجهزته الاستخبارية ومؤسساته المالية التي ابتكرت طرقاً مموهة لرعاية وتمويل الإرهاب على نحوٍ يعفيها من مساءلة المؤسسات الدستورية في بلدانها.. فصار لزاماً على هذه الدوائر والأجهزة والمؤسسات أن تفتح أرشيفها السري لتراجع قوائم المنظمات والبنوك والجمعيات التي تولت تنفيذ وتمويل الإرهاب برعاية أمريكية وغربية ... ولم تكتف بهذا الحد من ردود الفعل السريعة، بل تجاوزت حدود المعقول بتوجيه تهمة الإرهاب للعالم الإسلامي المنكوب وللإسلام المفترى عليه !الثابت ان ثمة حكومات وشعوب عربية وإسلامية اكتوت بنار الإرهاب والتطرف طوال العقدين الماضيين.. وكان لها سبق التصدي لهما وتجفيف منابعهما فيما كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في دول الاتحاد الأوروبي - على الجانب الآخر - تقف بسلبية مطلقة، وتقدم الملاذ الآمن للإرهابيين والمتطرفين، وتلاحق الدول التي كافحت أولئك المجرمين بتهم مصادرة الحريات الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان !ولسنا بحاجةٍ إلى إيراد طائفة من الأمثلة على رفض الدول الغربية تطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب، وامتناعها عن تسليم الإرهابيين إلى الدول التي اكتوت بنار أعمالهم وأفكارهم الشيطانية، وتماديها في تحويل أراضيها ليس فقط إلى ملاذ آمن للإرهاب، بل وإلى مراكز تمارس من خلالها الجماعات المتطرفة مهام القيادة والتخطيط والتوجيه والتمويل والدعاية للعمليات الإرهابية التي وقعت في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية.بوسعي القول ان أحداث 11 سبتمبر 2001م بقدر ما اسهمت في كشف الكثير من الملفات السرية لأجهزة استخبارات الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في مجال توظيف الكنائس وجماعات الاسلام السياسي في المعارك التي خاضتها خلال حقبة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي وحركات التحرر الوطني العالمية والبلدان ذات التوجه المستقل، بقدر ما اكدت حقيقة ان الولايات المتحدة وحلفاءها في اوروبا وآسيا هم المتهمون الحقيقيون بدعم الإرهاب وإيوائه، وهم في الوقت نفسه ضحايا لشروره ومخاطره كغيرهم من البلدان والشعوب التي اكتوت بناره.وتحت ضغط تلك الأحداث سعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الغرب إلى قلب الموازين بإصرارها على تحويل ضحايا الإرهاب من خارج الولايات المتحدة الاميركية واوروبا إلى متهمين بإيوائه ومتقاعسين عن محاربته، و ثباتها في الوقوف الى جانب حكومة إسرائيل وتبرير جرائمها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، واظهارها في صورة حرب عادلة ضد الإرهاب، فيما أصبح حق الشعب الفلسطيني في التصدي للعدوان والاحتلال، إرهاباً ينبغي محاربته والقضاء عليه، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على خلط الأوراق وتمويه الخطوط والظلال المتداخلة، وتغييب الحقيقة، والانحراف عن القضية الأساسية، وهي مكافحة التطرف والإرهاب وتجفيف منابعهما.[c1]* نقلاً عن/ صحيفة "26سبتمبر"[/c]
عفاريت التطرف والإرهاب
أخبار متعلقة