كانت السنة، أو بالتعبير الأدق الحديث الذي ينسب للرسول، هي الباب المفتوح الذي دخلت منه فرق وفئات من الناس ليثبتوا دعاواهم بحديث يضعونه على لسان الرسول ويجعلون له سندا عاليا. لقد أراد أعداء الإسلام، منذ أن بدأ أن يكيدوا له كما عرفتنا الآية «وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» «فصلت: ٢٦»، ولكنهم عجزوا عن اللغو في القرآن لأنه محفوظ في الصدور، مثبت على كل وسائل الكتابة، ولذلك التفوا حوله بأن وضعوا أحاديث تحلل الحرام وتحرم الحلال وتسيء إلى الإسلام ، وإلى القرآن نفسه.ولم يكن هؤلاء إلا فريقا واحدا من فرق عديدة، منهم الفرق السياسية ما بين أمويين، وعباسيين، وشيعة، وسنة، ومنهم المذهبيون من معتزلة ومرجئة وقدرية بل وجد فيهم «الوضاع الصالحون» الذين وضعوا أحاديث «حسبة» لإرهاف الحاسة الدينية ولتعميق أثرها في النفوس عن طريق أحاديث تقضي بالنعيم لمن يكرر أدعية أو يصلي نوافل، وتنذر بالجحيم لكل من يغني أو يلهو أو يغفل عن صلاة، ولما رأي بعضهم انصراف الناس عن القرآن وضعوا أحاديث في فضائل كل سورة.هذا ما تفيض به كتب الأحاديث نفسها والتي تصور ذلك بأن الحديث الصحيح كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ولما بدأ رجال الحديث في تدوين كتبهم وجدوا مئات الألوف من الأحاديث المتداولة ، فقد قيل إن أحمد بن حنبل كان يعرف ألف ألف حديث «مليون» ، وإن مالكاً كان يعرف ٦٠ ألفا، وإن البخاري كان يلم بخمسين ألف حديث، وبذل رجال الحديث جهدا بطوليا في استنقاذ الحديث النبوي من وهدة الموضوعات، فنزلوا بها من مئات الألوف إلى عشرات الألوف ومن عشرات الألوف إلي ما دون العشرة آلاف حتى انتهوا إلى خمسة آلاف أو أقل هي ما جاء في الصحيحين «البخاري ومسلم».ولكن هذا لم ينقذ الحديث لأن عوامل عديدة أخري كانت تدفع عملية الوضع مثل سوء النظام السياسي واعتماده علي التعصبات المذهبية ، ومن انغلاق المجتمع وسيادة الجهالة التي تجعل الجماهير تتقبل الخرافة أكثر مما تتطلب الحقيقة . وقد قرأت أحاديث عما دار بين النبي وزوجاته، في حين أن الرسول نفسه نهى المسلمين جميعاً عن أن يفضي أحدهم بما كان بينه وبين زوجته، فلا يعقل أن يكون الرسول قد قاله، كما لا يعقل أن تكون إحدي زوجاته قد أشارت إليه، ومع هذا فإن المحدثين الذين تحكمت منهم شهوة «الجمع» أثبتوها في كتبهم.ووضع البعض مقاييس متشددة للأخذ بالحديث، فواصل بن عطاء لا يؤمن بأحاديث الآحاد، ويتبعه معظم المعتزلة، ووضع أبوحنيفة ثمانية ضوابط للأخذ بالحديث، ولكن الشغف بـــ «التحديث» والرغبة فيه قضت علي كل هذه المعايير، ووصلت حد الفتنة عند بعضهم. قال ابن مهدي: « فتنة الحديث أشد من فتنة المال وفتنة الولد ، لا تشبه فتنته فتنة ، كم من رجل يظن به الخير قد حملته فتنة الحديث علي الكذب» . يقول ابن رجب الحنبلي : «يشير إلي أن من حدث من الصالحين من غير إتقان وحفظ فإنما حمله علي ذلك حب الحديث، والتشبه بالحفاظ ، فوقع في الكذب علي النبي وهو لا يعلم ، ولو تورع واتقي الله لكف عن ذلك فسلم ».وآية هذا أننا نري أحاديث عديدة تخالف روح الإسلام ، والأصول العامة له ، بل تخالف العقل والمنطق مما لا يتسع المجال لشرحه، وقد عرضناه في كتابنا «السنة» وهو الجزء الثاني من كتاب «نحو فقه جديد».ولكن ما يهمنا الآن ما يخالف صريح القرآن.ويستعظم البعض ذلك ويقولون : هذا مستحيل ، وها نحن نضع بين أيديهم أمثلة لذلك.فقد أورد البخاري حديث عكرمة مولي بن عباس « من بدل دينه فاقتلوه » ، وقد رفض الإمام مسلم كل أحاديث عكرمة لشبهات حامت حوله منها اتصاله بالسلاطين الذين كانوا يبحثون عن غطاء شرعي لقتل وتصفية خصومهم ومعارضيهم . ولكن البخاري أدرجه وأصبح هذا الحديث هو الأساس والسند في فرض حد الردة، فكيف لا، وقد جاء نص صريح به في البخاري؟!نقول كيف يستقيم هذا الحديث مع خمسين آية علي الأقل من آيات القرآن تقرر حرية العقيدة؟ إن قبولنا له معناه أننا ـ معاذ الله ـ ننبذ هذه الآيات وراء صدورنا ونضحي بالقرآن في سبيل عكرمة والبخاري .كيف يستقيم هذا الحديث مع الآيات المؤكدة «لا إكراه في الدين» (البقرة: ٢٥٦)؟كيف يمكن أن يتفق الحديث مع «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (يونس: ٩٩)؟بل كيف يمكن أن نتفق مع ذكر القرآن الردة مراراً وتكرارا دون أن يرتب عليها عقوبة دنيوية؟بل إن الحديث يناقض عمل الرسول ، فقد ارتد في حياته أعداد من المسلمين ـ منهم أحد كتبة الوحي ـ فما تعقبه بعقوبة ، بل رفض المساس بهم وقال لمن طلب إليه ذلك «لا إكراه في الدين».نعلم بالطبع كل ما يقولونه في تبرير هذه المخالفة أو المناقضة ، من دعاوي واضحة التكلف ، لا يمكن أن تستقيم، لأن الحق أبلج.هناك حديث رزق شيوعا، حتى لقد جاءت قرابة مائتي رواية عنه بألفاظ واحدة أو متقاربة هو «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله».هذا الحديث الذي يبدأ «أمرت» يخالف عشرات الآيات التي تأمر الرسول بأن لا يتعدي إطار التبليغ وتحدد صلاحياته في البلاغ أو البيان فحسب، فإذا آمن من بلغهم كان بها، وإذا رفضوا فليس له أي سلطان عليهم ، إنه ليس جباراً، ولا مسيطراً، ولا حفيظاً، بل ولا حتي وكيلا، فأين هذا من أن يقاتلهم، إن الآيات تقول:- «فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد» (آل عمران: ٢٠).- «وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون» (يونس: ٤١).- «فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين» (الحجر: ٩٤).- «فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين» (النحل: ٨٢).- «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر» (الغاشية: ٢١ ـ ٢٢).- «ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون» (آل عمران: ١٢٨).«فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم» (التوبة: ١٢٩).- «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما علي رسولنا البلاغ المبين» (المائدة: ٩٢).- «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما علي رسولنا البلاغ المبين» (التغابن: ١٢).- «قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما علي الرسول إلا البلاغ المبين» (النور: ٥٤).فهذه الآيات الصادقة توضح أن صلاحيات الرسول تقتصر علي البلاغ أو البيان، وأنه ليس من مهامه أن يتعسف الوسائل ليحملهم علي الإيمان به، دع عنك أن يحاربهم ليكونوا مؤمنين، فكيف تتفق هذه الآيات مع حديث يبدأ بـ «أمرت.. أن أقاتل الناس»؟ومن الناحية العملية ، فإن الرسول لم يحارب ليحمل الناس على الإسلام .. لقد حارب دفاعا عن الإسلام ودرءاً للمشركين الذين حاولوا استئصال الإسلام ، ولما فتح مكة ــ بعد أن نقضت عهد الحديبية ــ فإنه سامح أئمة الكفر وعفا عنهم . أما حرب أبي بكر فما كانت ردة عقيدة، فقد كان منهم من يؤمن بالله والرسول ويصلي ويصوم ، ولكنهم رفضوا الزكاة ورفضوا الحكومة المركزية وخلافة أبي بكر وأرادوا أن يعودوا إلى الأحكام القبلية والسلطة المناطقية .أريد أن أقول لأساتذة الحديث بكليات الأزهر وغيرها إن تحت يدي تحقيقاً لمائتي رواية لهذا الحديث لم تنج واحدة منها من مأخذ، بحيث لم توجد رواية واحدة صحيحة، وما ينبغي أن توجد، لأنها تخالف القرآن، والرسول مبلغ ومبين، وليس له أن يزيد علي ذلك لأن الهداية والضلالة إنما هي من الله، يعني أن لها أسباباً موضوعية، وليس منها القتال ، وقد قال للرسول صراحة «إنك لا تهدي من أحببت ، ولكن الله يهدي من يشاء ».قد يسأل سائل : إذن ماذا نفعل بهذه الأحاديث ؟ وكيف نبرر صدورها ؟إن الرد يمكن أن يأخذ صورتين: الأولي أن هذا أمر لا يعنينا ، ولا نتوقف عنده ، ولا نبحث عنه .. فمادام القرآن قد حكم ، فإن الأمر قد حسم ولا شك في أننا نأخذ بما حكم به القرآن .والصورة الثانية : هي أن الأمر مادام أمر قضية تغطي الملايين ، ومادامت المدة ما بين هجرة الرسول وتدوين السنة مائة وخمسين عاماً ، ومادام الأمر يمكن أن يحقق مآرب لحكام وسلاطين وفقهاء وعلماء وأعداء للإسلام يكيدون له بوضع أحاديث.. إلخ ، فهذا تحريف للإسلام بالأحاديث التي يزعم رواتها بأنها منسوبة للرسول .. وقد تكون قيلت بغير هذه الصورة، أو أنها قيلت في ملابسة معينة لا نعرفها، أو أنها قد تعرضت لتشويه وتحريف أو حذف أو إضافة .. وعلى كل حال فنحن لسنا مكلفين بتعليل أمر لم نضعه ولسنا مسؤولين عنه ولا يجوز أن يعلق بنفسنا ، أو يتسلل لضميرنا أي إثارة من عاطفة ، فالأمر بقدر ما لا يسمح بالتردد، بقدر ما إن احتمالات أخرى عديدة توجد.[c1]* القاهرة / 20 يونيو 2007م[/c]
|
فكر
أحاديث تناقض القرآن
أخبار متعلقة