روائع التراث العربي
نجوى عبدالقادر يُعد كتاب ( يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) والمعروف اختصاراً باليتيمة ، من أهم المصنفات الأدبية وأشهرها ، جمع فيه الثعالبي قدراً كبيراً من نتاج قرائح الشعراء والأدباء والمترسلين الذين عاصروه أو سبقوه قليلاً ، فهو يغطي حقبة زمنية تشمل القرن الرابع وصدر القرن الخامس الهجريين .يضم الكتاب عدداً كبيراً من الشعراء والادباء الذين انتشروا في رقعة واسعة من البلاد التي كانت يد العرب مبسوطة عليها يومئذ من بلاد الشام والعراق وجرجان ومصر والمغرب والاندلس وخراسان وماوراء النهر ، فجاء مرجعاً مهماً لمن أراد ان يدرس أو يطلع على شطر كبير من الحياة الادبية في تلك الاصقاع في ذلك الزمن ، ووفر على الدارس والقارىء جهداً كبيراً في تلمس بغيته من مصادر متفرقة متباعدة .قال الناقدون القدامى : ان كتاب اليتيمة اشبه ببستان فسيح الارجاء ، حافل بالاشجار المثمرة من كل صنف ولون وطعم ، تتخللها شجيرات الورد مازالت رائحته ، وماكان زاهي اللون عطراً من الشذى ، يجد الزائر في جنباته الظل الظليل ، والثمر الشهي وعبق الورد وشدو الطيور .وقد جعل الثعالبي مؤلفه في اربعة أقسام خصص كلاً منها لشعراء صقع من اصقاع بلاد العرب ، ثم جعل كل قسم ابواباً وكل باب فصولاً ، وكان توزيع الاقسام على النحو التالي :[c1]القسم الأول :[/c]في محاسن اشعار آل حمدان وشعرائهم ، وغيرهم من أهل الشام ومايجاورها ومصر والموصل والمغرب مع ذكر لاخبارهم ويضم هذا القسم مائة وعشرة شعراء.[c1]القسم الثاني :[/c] في محاسن أهل العراق واشعارهم ، وانشاء الدولة الديلمية من طبقات الافاضل وما يتعلق بها من اخبارهم ونوادرهم وفصول من رسائلهم ويضم هذا القسم ذكر تسعة واربعين شاعراً .[c1]القسم الثالث :[/c]في محاسن اشعار أهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان ، من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها وسائر فضائلها . ومايضاف اليها من اخبارهم وغرر الفاظهم ويحوي هذا القسم ثمانية وستين شاعراً .[c1]القسم الرابع :[/c]في محاسن أهل خراسان واشعارهم ومارواء النهر من إنشاء الدولة السامانية والغزنية ، والمتصرفين على اعمالها وما يستظرف من أخبارهم ، وخاصة أهل نيسابور والغرباء الطارئين عليها والمقيمين بها . وفي هذا القسم مائة واربعة وعشرون شاعراً ، يضاف اليهم ثمانية شعراء أورد الثعالبي اسماءهم دون ان يضمن لهم أية أبيات ، وذلك لأنه ، كما قال ، لم يحضره شيء من اشعارهم .ولعل أهم ما يميز كتاب ( يتيمة الدهر ) أن الثعالبي كان متقصياً لشعراء عصره ، يحاول الاحاطة بهم جميعاً حتى من قال منهم البيت أو البيتين ، لذا نجد ان بعض الشعراء الذين اوردهم في اليتيمة لاذكر لهم في أي مرجع أدبي آخر ، ولذلك ينسبون إلى اليتيمة ، فيقال فلان من شعراء اليتيمة .ويمكن لنا القول ان اليتيمة أشبه بموسوعة أدبية مصغرة لادباء عصر الثعالبي ، نستطيع من خلال مقتطفاتها رسم صورة تقريبية عن الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة من تاريخ الأدب العربي .صحيح أن المؤلف لم يهتم بالتراجم للشعراء الذين اقتطف من اعمالهم ، كما أنه لم يدرس القيمة الأدبية لاشعارهم ، ولكنه أولاً واخيراً لم يكن يؤرخ لفترة أدبية أو يدرس شعراءها وشعرهم دراسة أدبية نقدية ، وانما كان يحاول رسم الخطوط العريضة للحياة الأدبية فيها من خلال مختارات رأى أنها تمثل أجمل ما قاله شعراؤها وما كتبه بعض أدبائها ، ولكنه يقترب احياناً من النقد الأدبي وبخاصة عند المتنبي والصاحب بن عباد وقليل غيرهم وذلك عندما يعقد مقارنات بين الافكار والمعاني ويعلق على حسن المطلع في القصيدة أو قبحه أو حسن التخلص في الأبيات كما يذكر ان هذا البيت مأخوذ من ذلك الشاعر الذي سبقه ويصدر حكماً لصالح أحدهما .ولكننا يمكن ان نعتبر هذه الملاحظات التي يطرحها في سياق حديثه ـ مجرد ملاحظات ـ وليست مقصودة لذاتها ، ولاتشكل ظاهرة ثابتة أو نهجاً للعمل النقدي .صنف الثعالبي ( اليتيمة ) على مرحلتين كانت الأولى منهما سنة اربع وثلاثين وثلاثمائة حينما كان لايزال في مرحلة الشباب وقد كتبها كما يقول في مقدمته لكتابه هذا ، في مدة قصيرة لم يستطع معها ان يوفيها حقها . فلما رأى انتشارها في الآفاق ، وما لقيته من اهتمام واستحسان لدى العامة والخاصة ، بدأ يعيد النظر في كتابه ( اليتيمة ) في ضوء ما تجمع لديه من معلومات جديدة اتاحتها له قراءاته ودراساته الواسعة ، بعد أن نضج عقله وأدرك عصر السن والحنكة .فلما رضي عما بين يديه اطلقه في الآفاق ولكنها عاد على مر الزمن ليجد ان هناك بعضاً ممن اغفلهم من الشعراء وممن يستحقون ان يرد ذكرهم في كتابه ، ولكنه لم يشأ ان يعود إلى تحفته هذه فينقضها من جديد بعد أن طار في الآفاق ووصلت شهرته إلى جميع الاقطار وانتسخه الادباء والرؤساء ، فآثر ان يضع كتاباً على غرار اليتيمة وسماه ( تتمة اليتيمة ) .والثعالبي هو أبو منصور عبدالملك بن محمد بن اسماعيل ، علم من إعلام القرنين الرابع والخامس الهجريين . ولد في نيسابور سنة خمسين وثلاثمائة للهجرة لاسرة تحترف خياطة جلود الثعالب وصنع الثياب من فرائها ، فأتبع مهنة أهله ونسب أليها فلقب بالثعالبي . ولكن طموحه كان اكبر من أن يقنع بحرفة يدوية بسيطة كهذه ، فاتجه إلى طلب العلم تحدوه رغبة عارمة في الاطلاع والدرس ، فانصرف إلى كتب العلوم والمعارف والأدب .. واصبح واحداً من اصحاب الفكر والأدب .. وقد اتاح له علمه هذا وسعة أفقه وذكائه من الاختلاط بالادباء والوجهاء حتى وصل إلى قصور بعض الوزراء والامراء .. والثعالبي مع كل مؤلفاته الادبية إلا أنه مذكور في عداد الشعراء وقد ورد له شعر في كتبه وفي بعض من كتب الأدب .. ولكنه شعر أقرب إلى الصنعة منه إلى الشعر الرفيع .ومما يستغرب منه كل من قرأ حياة الثعالبي أو بحث عن انتاجه ومؤلفاته يجد أن للثعالبي عدداً كبيراً من المؤلفات الادبية وقد كان غزير الانتاج خلف حصيلة من المصنفات منها ما تم نشره بعد أن لقي العناية في التحقيق والطبع وبعض منها مايزال في المكتبات مخطوطاً أو مفقوداً أو منسياً وهي اكثر من اثنين وسبعين مؤلفاً ويرجع بعض الباحثين مؤلفاته إلى أكثر من مائة مصنف .. ولكن هذا الكتاب الذي نتحدث عنه وهو (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر ) هو سبب شهرة الثعالبي لاعتباره من أهم المراجع الادبية في دراسة الشعر العربي وتاريخه السياسي والاجتماعي لعصر يعد من أهم عصور الأدب .. عصر الاضطرابات السياسية واضمحلال دور الخلافة وعصر الصراعات الداخلية والخارجية .. عصر الدويلات .. حيث تقاسمت البلاد العربية عدد من الاسر كالحمدانيين والبويهيين والاخشيديين وغيرهم .. وهذا ما جعل لكتاب اليتيمة ميزة تاريخية بالاضافة إلى ميزته الأدبية .