ظلال الحياة والموت في (سبعة أيام فقط)
كتب: محمد عطية محمود تعد الكتابة عن التجارب المريرة للصراع مع ثنائية الموت/ الحياة، من النواحي النفسية والفلسفية المؤثرة على مستويي الحياة المعيشية والإبداع على حد سواء، فمن عمق الإحساس بالشجن تنفجر شلالات التعبير الدالة على توهج الحالة التي تتملك السارد/ المبدع، منطلقة من ذات مهجوسة، في الأصل، بآلية هذا الصراع وهذه التركيبة الإنسانية المغرقة في المفارقة بين اليقينية أو التسليم بحقيقة الانتهاء والزوال المتمثلة في الموت، إلى جوار حقيقة الوجود والاستمرارية/ الديمومة التي يملكها العنصر البشري بمعناه المطلق وليس المحدد على أية حال..فعندما رثت الروائية التشيلية “إيزابيل الليندي”، ابنتها “باولا” التي رحلت في ريعان صباها، كان الرثاء عملاً أدبياً ناضجاً ممتلئاً بالحماسة الإبداعية التي جعلتها تسرد فصولا وتفاصيل كانت مجهولة من حياتها، وجعلت منها عملا روائيا خالدا. فربما كان الرثاء توثيقا لحالة من الشجن، وإثباتا لها على خرائط البوح، كعلامة دالة وممثلة لحقبة زمنية، هي الأشد وطأة على النفس البشرية المرهفة الحس، والتي يجتمع فيها الإيمان باليقين، مع السعي الحثيث من أجل إدراك خلود ما. واستجلابا للخبيء والمتواري تاريخ ربما كان مجهولا بداخل دهاليز الذات الساردة التي تعاني ألم الفقد. ومن هذا المنطلق يغوص العمل الروائي الثالث لوائل وجدي (سبعة أيام فقط)، الصادر عن دار شرقيات ـ القاهرة ـ 2010، في تلك المنطقة المعتمة/ الجانب الآخر من الحياة، أو الحياة على هامش حياة أخرى تواجه شبح التلاشي والزوال. هنا يصبح الخلود أمراً مشروعاً على صفحات كتاب، ومن خلال مداد كلمات وسطور، تصنع ما لم تصنعه العلاقة الجدلية المثارة بداخل المبدع/ الإنسان، فيما بين الحياة والموت. فالسارد/ الراوي هنا يلعب دوراً أساسياً ومحورياً يتعامل مع ظلال الأشياء والأحداث والدلالات والإشارات من حوله، التي تعمل عملها في الزمن الحاضر/ الآني للسرد، متكئة على مخزون هائل من الذكريات التي تمثل أو تتوازى أو تشتبك مع حياة أخرى ذابلة في طريقها إلى التلاشي والزوال، هي حياة الأب، على مستويين: مستوى الحالة الراهنة والمؤطرة لحالة الرحيل/ ما قبل الرحيل مباشرة، واشتباكها مع الحالة الآنية للسارد، ومستوى( الحكي) الذي ينبثق من سمات الراحل وتشابك علاقاته الحميمة مع السارد في الزمن الماضي/ التاريخ المشترك والفردي لكل منهما على حد السواء بحيث تبدو تقنية النزول بالزمن/ العد التنازلي، من اليوم السابع إلى اليوم الأول أو الـ (صِفر) بمعنى التلاشي، الذي يواجه به الراوي طيف روح أبيه مخاطبا إياها في صورة الجسد الذي نال منه الفناء، معبرة عن رؤية الكاتب التي تتسق مع الإحساس النفسي للسارد/ الراوي، للتعامل مع سرد الحكاية/ سرد الحالة. فهو يبدأ بالتعامل مع الإشارات الدالة على الدخول في الحالة الكهفية التي تخلقها حالة الاحتضار الوشيك للأب، بما يمثله عش العنكبوت، كنموذج من النماذج التي يلعب السارد على أوتارها والتي تمتح أيضا من الموروث الشعبي والنفسي، لعملية التأويل أو التفسير للحلم والوقع معا أو الحالة الكابوسية التي يعيشها السارد، من دلالة:“أضغط على مفتاح غلق هاتفي المحمول وأدفع به في درج مكتبي، أرفع نظري، أتابع خيوط العنكبوت ونسيجه المتشعب على سقف حجرتي. أفكر في حديث شقيقتي. أهي صحوة الموت؟” بحيث تلقي هذه الافتتاحية بأمارات التمهيد للتماهي مع تلك الحالة المتغلغلة في النفس، والمهيئة لحالة من التوحد مع فعاليات مرحلة لها واقع أليم، هي حالة أقرب إلى الحدس الذي تفرضه الأجواء المحيطة، منها إلى نظرة التشاؤم. كما تلقي كل الأجواء المحيطة بالسارد خارجيا بظلالها على وجوده في تجواله، كما في حله أو أماكن وجوده وتطوافه، وهي الحيلة التي يسوقها الراوي ليخفف بها من آثار الجرعة المكثفة التي يسوقها من التاريخ السابق للوالد، أو التأريخ الحالي لحالة الاحتضار، وهي التي ربما تمثل درجات الانزلاق التي يدنو بها سلم العلاقة مع الحياة من الأعلى إلى الأدنى من الدرجات، والتي تتسق دائما مع بدايات الفصول أو الأيام المعكوسة؛ فهو يستهل المقطع الثاني/ السادس، بإسقاطه لدلالات حال الطريق على ذاته المظلمة:“ظلمة الطريق تحوطني من كل صوب وحدب، رغم أني أسير بسيارتي في هذا الطريق سنوات وسنوات إلا أنني أشعر بخفوت ضوء عواميد الإنارة، غلالة شفيفة تحجب رؤيتي، أفرك عيني لا فائدة ... “.هنا تفرض التحولات النفسية حضورها الطاغي على ما يحيط بالسارد، إمعاناً في التورط في الحالة الكابوسية التي تجلبها الأحداث، فالمحيط هنا يتمثل في الطريق المظلم، الذي تحول في نظر الراوي مع حالته النفسية الجديدة / الطارئة، بما يلقي بالظلال لتنوب عن الإحساس بخطر الفقد أو الوقوع في حالة الحدس أو التوقع البغيض، الذي تحركه دلالات اقتراب الموت من الشخصية النموذج لدى السارد، والتي تتماهى مع ماهية التاريخ الذي يحمل تفاصيل الماضي، والخيوط الأخيرة لاشتباك الحاضر المنسحب، مع الماضي الهارب، الذي يثبته السرد من خلال هذا التواتر بين الآني المتجسد في طقوس الغياب، والفائت في حياة ماضية مختزلة في هذه الومضات المطلة من خلال عملية استرجاع تاريخ العلاقة مع الوالد:“أرغب في مشاهدة فيلم (كينج كونج)، أذهب مع أبي إلى سينما (مترو) كي نشاهد الفيلم سويا. إبهار التصوير والإخراج الذي جعل الدمية الضخمة لكينج كونج، تتكلم وتتحرك وتبدي مشاعرها، تلفت نظري وتعجبني في آن. أقضي وقتا مسليا مع أحداث الفيلم،...”.هنا تتحرك العلاقة بين السارد والماضي، في خط متواز مع علاقته بالحالة الآنية على نحو من حالة الحنين أو الاستعواض التي يعادل بها السارد إحساس الفقد أو التسرب أو انسحاب الأب / الرمز الأكبر للاحتواء من على سطح الحياة، والذي تشكل هذه الاسترجاعات لحمة النص الذي يسعى إلى إحداث نوع من التأريخ أو تخليد الذكرى. مع هذه المراوحة الزمنية التي يلعب عليها النص كتيمة من تيمات التعامل مع الحالة المتشظية بين الماضي والحاضر/ الحالة، والآني الذاتي المرتبط بهذا الحاضر والماضي معا؛ فيأتي الانحدار الثالث / اليوم الخامس، محملا بالذاتي الذي:“الثانية صباحا، أدفع ملاءة السرير، أفتح نافذة حجرتي، أرى السماء شديدة السواد، يغيب القمر”. هنا يدفع بالإشارة الدالة على التورط الطبيعي الظاهري مع ما يعتلج النفس من آلام ومخاوف، كمرحلة تالية من مراحل الحدس للفقد والتلاشي، الذي يدفع كما قلنا إلى استجلاب منطقة أخرى من مناطق العلاقة القديمة / القائمة بين السارد والوالد، فيستدعي الماضي، ربما هربا من الحاضر الثقيل الوطأة:“أجلس مع أبي في ظلال شجرة التوت بحديقة النادي، يشرح لي دروسي، يخطط بالقلم والمسطرة تحت النقاط المهمة التي تستلزم الالتفات إليها...”.كما تطل الظلال القديمة التي لا تفارق النفس على مدار تفاصيل العلاقة الممتدة مع الوالد، فيركن السارد إلى استنطاق الصمت الدائر حوله باستدعاء الصوت الذي يرن في النفس، يشعل فيها هذه السمة من سمات الحنين والذكرى التي تلح مصاحبة لذاك الإحساس المتمترس بالفقد، والمتأثرة بتلك الحالة من الشجن:[c1]“أجلس على مكتبي شارد البال ...[/c]أسمع صوت حذاء أبي المنتظم الخطو، وهو يخرج مبكرا للذهاب للمحكمة، يعشق القانون ويبرع في المحاماة.. أذهب معه إلى محكمة النقض...” بحيث تسير الأحداث المسرودة على لسان السارد ـ في الماضي ـ بصورة تراتبية تتسق مع تطورات حياة السارد ذاته، انطلاقا من منابت الطفولة والتعلم، مرورا بأطوار الحياة ذاتها التي تنقل الطفل في ذهن السارد، إلى مراحل الرجولة المكتملة التي يصير فيها الراوي جزءا من التاريخ ملازما بشكل ما وآخر لوالده حتى في مهنته التي يعمل بها، وتترك تأثيرها البالغ على ذاته وسماته المتوارثة، فيقول بلسان الحيرة التي تتملكه:[c1]«حديثه الملغز نبوءة بقرب الرحيل»[/c]دلالة على التورط الكامل في الحدس المرتكن إلى ظواهر الحالة المتردية، التي تؤدي بالوالد إلى التلاشي والانزواء نحو الرحيل المحتوم، ذلك الحس المتضخم الذي يتحول مع التيقن من الحقائق الأزلية الراسخة، إلى شعور السارد باكتمال مشهد انتقال الوالد/ الرمز المتغلغل في ذاته وتاريخه إلى حياة جديدة، تمثلها هذا الشريط الممغنط بالعلاقة الآنية والسابقة مع تاريخ/ حاضر/ ذات الوالد، وتشابكه المتين مع ذات السارد وكينونته المستمدة من كينونة الجذر/ الوالد:“صخرة متعاظمة الحجم، تضغط على قفصي الصدري، أتنفس بالكاد، أشعر كأن نصلا حادا يقطع عيني، أنظر إلى المرآة، أرى عيني باللون الأحمر القاني...”.هنا تقفز الدلالات والشواهد لتغلف الجو العام/ الخاص للشخصية الساردة بظلال حالة الفراق (اليقينية)، تلك الظلال التي تمثل إلى حد بعيد من خلال هذا النص، سمة من سمات الكتابة التي لا تعتمد فقط على سرد الخط الطولي للحدث / الماضي، ولا ما يوازيه من حدث آني كما أسلفنا، بل تتخطى ذاك البعد إلى ما تثيره من استنباط الحالة النفسية الداخلية تلك الظلال الخارجية التي لا تتوقف، حتى نهاية هذا الاشتباك بين البوح والتقرير والتسجيل، للانغماس في أداء الحالة الإنسانية/ السردية في ذات الآن، فينتهي بتحول هذا التوحد مع معنى الذات الأخرى للوالد الذي رحل، إلى التوحد مع المفردات الدالة على حياة سابقة كانت تعانق المكان، الذي صار مناطا جديدا للتوحد، ومعادلا موضوعيا ماديا لحياة الوالد، ذلك الذي يدفع السارد كي ينهي نصه أو عده التنازلي/ الانحداري، بهذه الرسالة الموجهة بضمير المخاطب ـ للمرة الأولى من خلال النص ـ إلى تلك الروح التي غادرت، متمثلها حقيقة للمرة الأولى برغم غياب الجسد:“... أعود إلى شقتك، ألمح ضوء (الأباجورة) الكئيب، يسقط على سريرك. لا أستطيع أن أخطو عتبات حجرتك. كيف أدلف من بابها ولا أجدك؟”وبحيث تلعب الظلال هنا دورا فاعلا في تجسيد هذه الحالة من الحقيقة التي ألقت بظلالها على المشهد الحلمي/ الكابوسي، بانتقال معنى الموت من الحدس والتوقع والانتظار، إلى اليقينية التي لا مفر منها، ولا من التسليم بها، وبحيث تمثل الكتابة هنا تجسيدا لمعنى التخليد الذي ربما كان دافعا من دوافع هذه النوعية من الكتابة السردية.