أضواء
عبد الله المطيريمن أكثر المقولات انتشارا في ساحتنا الفكرية المحلية مقولة «الوسطية». والتي تعني دائما أن هناك متطرفاً في اليمين ومتطرفاً في الشمال والوسطي بينهما. الكل يرى نفسه في الوسط وشعوره بالتوسط شعور مريح فهو يرى دائما أن هناك ضالاً عن يمينه وضالاً عن يساره وهو بسبب اعتداله في الوسط الذي يمثل الحق باعتبار أن خير الأمور الوسط. وصف الوسطية هو دائما وصف يطلقه الفرد على نفسه أو الجماعة على نفسها ويندر أن يطلقه أحد على غيره وهو وصف يدل على الوثوق والانغلاق والقناعة المطلقة بالذات. فحين يصف الشخص نفسه بالوسطية فهو يعني أنه على الحق والطريق المستقيم والآخرين المختلفين معه متطرفون بالضرورة.يطرح بكثرة من قبل أدعياء الوسطية أن الساحة السعودية تحتوي على متطرفين في اليمين هم الإرهابيون التكفيريون الذين يرون الحل في التفجير والقتل. ومتطرفين في اليسار هم الليبراليون الذين ينادون بالحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة ، الذين ينتقدون المناهج وينتقدون الفكر الديني. طبعا بقي لنا الوسط الذي يضع الوسطيون أنفسهم فيه. وبما أننا قلنا إن وصف الوسطية هو وصف يطلقه الفرد أو الجماعة على ذواتهم فإن داخل مدعي الوسطية هناك نفياً عن الوسطية أيضا بحسب الاختلافات والتقسيمات الأيديولوجية المعروفة. هدف هذا التقسيم معروف وهو محاولة إبقاء ما كان على ما هو عليه ونفي التحول والتغير. وهذه سمة تغلب على فكر الوثوقي المنغلق فهو يعتقد أن الثبات هو الأصل وأن التغير هو الطارئ. ما يقوله تقسيم الحراك الفكري في السعودية إلى تطرفين متساويين يمين إرهابي ويسار ليبرالي هو أن التغيرات التي تمر بها البلد إنما أفرزت تطرفين بينما بقي الأساس كما هو وأن أي محاولة لتغييره هي تطرف. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن تشبيه الليبراليين بالإرهابيين هو موقف ضد حرية التعبير والرأي والحوار. فإذا كنّا نشبه من يقدم آراءه بطريقة سلمية وقانونية بالذي يقتل ويفجّر فأي حوار يمكن أن ندعيه وأي حرية يمكن أن نتقمّصها. كنت قد كتبت هنا مقالا بعنوان « دعوى أن في السعودية تطرفين» وقد حاولت فيه نقض هذه الدعوى وبيان تهافتها ولن أعيد هنا ما كنت كتبته قبلا بقدر ما أريد أن أقدم تصورا خاصا للتطرف أفرق فيه بين التطرف المعرفي والتطرف العملي أي بين التطرف داخل الإطار المعرفي العلمي وبين التطرف العملي الحركي الذي يهدف إلى تغيير في الواقع عن طريق القسر والغلبة والقهر. هذا التقسيم يذهب منذ البداية إلى أن التطرف المعرفي هو سرّ تقدم المعرفة والعلم وأن التطرف العملي هو سرّ بلاء البشر. هذا التقسيم يؤدي إلى إسقاط دعوى وجود تطرفين في السعودية وتشبيه الطرح الليبرالي بالإرهابي التكفيري. التطرف المعرفي هو أن يتخذّ الباحث والمهتم موقفا حادا من فكرة أو أطروحة معينة فهو داخل المواقف من هذه النظرية يعتبر متطرفا فلو أخذنا مثلا الموقف من النظرية النفسية الفرويدية وجدنا أن باحثاً مهتما ما يرى أن هذه النظرية خاطئة تماما انطلاقا من وجهة نظره وآخر يرى أنها صحيحة تماما وآخر يرى أن فيها الصحيح والخطأ فإننا نستطيع القول إننا أمام موقفين متطرفين وموقف متوسط ولكن التطرف هنا هو تطرف معرفي بمعنى أنه تطرف في الرأي العلمي. ولكن لو ذهب الرافض للنظرية الفرويدية إلى منع كتبها من التداول أو منع تدريسها أي إذا انتقل من مستوى الرأي إلى مستوى الفعل الإجباري فهو يخرج من التطرف المعرفي الصحي إلى التطرف العملي الخطير الذي يجب الوقوف في وجهه باعتباره اعتداء على الحرية. التطرف المعرفي هو سر تقدم العلوم والحضارات فلولا هذا التناقض في وجهات النظر والاختلاف بينها لما تشكلت الجدلية التي هي صيرورة التطور. التاريخ يقول لنا هذه الفكرة بوضوح ولو أخذنا أي مجال علمي لوجدنا أنه تغذّى على المواقف المتناظرة والمتقابلة. الفلسفة مثلا لم تكن لتتطور لولا المثالية والمادية. والفن لم يكن ليتقدم لولا الواقعية والرمزية والرومانسية والكلاسيكية والتقدمية. في الاقتصاد وجود متنافسين مختلفين هو سر التقدم والتطور حتى في الرياضة فإن وجود أندية مختلفة قوية تنافس بعضها البعض يؤدي بالضرورة إلى التقدم والتطور بينما لو انحصرت المنافسة في ناد واحد فإن هذا إنذار بانهيار المسابقة والنادي المتفوق أيضا فهو حين يفقد ضده المنافس القوي فإنه يفقد حماسه للنشاط والتقدم. والأمثلة على هذا كبيرة جدا ، كلها تثبت أن وجود الأطراف المتقابلة في أي مجال يؤدي إلى إغناء هذا المجال ونحن نعرف في المجال السياسي مثلا أن وصف دولة ما بأنها دولة «الحزب الواحد» هو وصف سلبي جدا فالديموقراطية تقوم على وجود أحزاب مختلفة ومتناظرة تتسابق في إقناع الناخب. المهم هنا وجود تنظيم قانوني واضح يضبط هذا الصراع بين الأطراف ليستمر دون أن يطغى أحدهم على الآخر وهذا الاستمرار يعني تطور الأطراف وتطور الفائدة المرجوّة منها. في هذا السياق نجعل مواقف الليبراليين السعوديين التي قد تتبنى وجهة نظر متطرفة مقابل وجهة النظر التقليدية المحافظة إلا أنها تبقى في إطار التطرف المعرفي الصحي فهي وجهات نظر لا يجبر الناس عليها ولا تمتلك سلطة غير سلطة الإقناع والمراهنة على التغيير والتجديد وعقلانية الإنسان. أما موقف الإرهابيين التكفيريين فليس موقفا معرفيا بل هو موقف حركي عملي يهدف إلى تطبيق الأفكار بالقوّة والقهر من خلال إهدار كل قيم الإنسانية والحرية والعقل. هذا تطرف عملي خطير جديد وهو نتيجة لمرض الوثوق وتزكية الذات والانغلاق. من أشهر أمثلة هذا التطرف ما قام به هتلر وحزبه في ألمانيا حيث قضى هؤلاء المتعصبون أولا على حرية التعبير والتفكير وحوّلوا المدارس والجامعات إلى ثكنات عسكرية تسبح بحمدهم وتدجن عقول المواطنين وكانت النتيجة الدمار لألمانيا الهتلرية وعدد مهول من الضحايا الأبرياء في العالم كله. لا ينشأ التطرف العملي إلا في أجواء القمع والكبت وبرأيي أن دعوى الوسطية تأسس لمثل هذه الأجواء فحين تجعل من موقفك مقياسا تجعل من خالفه متطرفا فأنت تقضي بهذا الشكل على الحراك والتنوع والحرية وحق الاختلاف. وبحسب هذا التفريق بين التطرف المعرفي والتطرف العملي فإن الأطروحات والأفكار المخالفة للسائد لدينا التي تقدم في إطار معرفي وتسعى للإقناع والانتشار عن طرق سلمية تعتبر دليل صحة وسلامة للمجتمع والوطن فهي تعني أننا شعب نفكر ونثق بأنفسنا ونمتلك أساسا وطنيا يوحدنا مهما اختلفنا. شعب نحب بعضنا مهما اختلفنا ونعتد باختلافنا وحريتنا كما نعتد بمشتركاتنا العامة. [c1]*عن/ جريدة «الوطن» السعودية[/c]