لقد كان للثورة السبتمبرية المباركة الدور الأساسي في تفجير ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة ودعم الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني بواسطة العناصر الثورية التي شاركت أولاً، في دعم الثورة السبتمبرية والقتال جنباً لجنب مع بقية الجيش النظامي وبلوكات النامونة وضباط الصف ومدرسة الإشارة بقيادة مجموعة من شجعان ضباط الثورة من الجيش والأمن، الذين قاموا بكل شجاعة وفدائية وخاضوا معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية في 42 جبهة عسكرية، على طول الخطوط الدفاعية التي بدأت في أربع جبهات على الحدود: مأرب، الجوف، صعدة وحرض في أيام الثورة الأولى. ثم تطورت لتشمل جبهات عديدة بعد وصول المؤن والذهب والسلاح للمرتزقة من عناصر الملكية المرتدة، وبعد وصول القوات المصرية التي جاءت بطلب من قيادة الثورة اليمنية للمشاركة مع القوات اليمنية للدفاع عن الثورة ونظامها الجمهوري بعد أن اتسعت رقعة المعارك ومشاركة قوات غير يمنية في تلك المعارك ومضاعفة المدد من السلاح والذهب بهدف إسقاط الثورة ووأد زخمها في مهده، وقبل ان يقوى ويترسخ ويتمكن الثوار من إقامة أعمدته الراسخة القوية التي تكسرت على أركانه كل الهجمات العسكرية وفشلت كل المحاولات لاختراقه حتى بعد خروج القوات المصرية وترك القوات اليمنية بوحداتها الحديثة من شباب وضباط وصف ضباط وجنود القوات المسلحة مدعومة بالقوات الشعبية من المشائخ والقبائل الأحرار والمقاومة الشعبية من شباب المدارس والمتطوعين صغار السن حتى توجت تلك الملاحم البطولية بالنصر المؤزر في حصار السبعين يوماً الخالد.وأسجل هنا للتاريخ أنه لولا قوات الحرس الوطني التي شارك بصفة رئيسية في صفوفها أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية ومحافظتي تعز وإب والمحافظات اليمنية الأخرى، لولا قوات الحرس الوطني والجيش النظامي ووحدات النامونة ومدرسة ضباط الصف والإشارة وفوج التحرير والمدفعية وسلاح الدبابات والمدرعات والقوات الشعبية من رجال القبائل وأبناء المشائخ الثوار الأحرار وكل الضباط الفخريين، لولا تلاحمهم وشجاعتهم في خوض معارك الدفاع عن الثورة ونظامها الجمهوري في أيام الثورة الأولى وقدرتهم على صد هجمات العدو قبل وصول القوات المصرية فإن الثورة كانت لاسمح الله ستتعرض لخطر الإجهاض خصوصاً بعد أن اتسع المعسكر المعادي للثورة فكان وصول القوات المصرية الداعمة بعناية نجدة عربية شقيقة وعلى نطاق واسع ساهمت بحق جنباً لجنب مع قوات الثورة في الانتشار في جبهات القتال التي كانت قد بلغت عند وصولها حوالي عشرين جبهة، وظلت القوات المصرية مع قوات الثورة تغطي كل الجبهات التي اتسعت حتى وصلت إلى 42 جبهة لم يحقق فيها العدو أي انتصار حقيقي يمكنه من تهديد العاصمة صنعاء أو اقفال طرق التموين لفترات طويلة او تهديد المدن الكبيرة كصعدة والجوف ومأرب وحرض او الاستيلاء عليها والبقاء لفترات تمكنه من إقامة قاعدة متقدمة بدلاً من قاعدتي جيزان بنجران، والتي كانت تسبب حرجاً ودليلاً واضحاً على تدخل السعودية ودعمها لقوات المرتزقة من الملكيين والمرتزقة الأجانب والخبراء العسكريين الأردنيين والدعم الذي اثبتته شرائط الفيديو الموجودة وكما كان للثورة السبتمبرية العملاقة فضل دعم ثورة الرابع عشر من أكتوبر احب ان احكي عن المعارك العسكرية التي خضتها مع أبناء المحافظات الجنوبية متطوعين ومنضمين إلى الحرس الوطني ومن تسعفني الذاكرة من أسماء الشهداء الذين سقطوا في هذه المعارك والبطولات النادرة والملاحم البطولية التي خاضوها مع قوات الثورة لما كانوا يتمتعون به من عفة ونزاهة وإباء حيث ظل معظمهم ولمدة ثمانية أشهر دون مرتبات، وعندما جاءت المرتبات وعندما أردنا أن نسلمهم استحقاقاتهم رفضوا وطلبوا من عشرين ريالاً مصاريف للعودة فقط على ان يحتفظوا بسلاحهم الذي وزعناه عليهم فثارت لأول مرة بيننا وبينهم مشكلة كادت تعصف بالتلاحم الأخوي وزمالة السلاح ورفقة النضال وسأروي قصة هذا الخلاف عند ذكر قصة مشاركتهم معنا في معارك الدفاع عن الثورة في المحور الشرقي بخولان والذي كان مقر قيادته في قرية تنعم.لقد تلقيت أمراً من القيادة فور عودتي من محور أنس جبل الشرق، وقد تضمن الأمر انضمامي للحملة العسكرية التي تقرر أن يقودها النقيب الراحل هادي عيسى قائد الحرس الوطني والمتجهة إلى المحور الشرقي في خولان لدعم قواتنا التي كانت قد سبقت بقيادة النقيب علي العمري ومعه النقيب محمد مرغم، ومعه الإخوة الزملاء النقيب محسن العلفي والنقيب عبدالله السنحاني والنقيب عبدالله حسين زبارة والنقيب أحمد الحلالي والنقيب محمد السراجي وغيرهم من ضباط القوات المسلحة والأمن بهدف قمع تمرد حصل في إحدى قرى خولان، حيث قام أهالي المحل، مع بعض القبائل الملكية بقطع الطريق على الحملة العسكرية المتجهة إلى قرية تنعم جبل اللوز للمرابطة بها، وتشكيل قيادة عسكرية لمواجهة جبهة عسكرية طويلة ممتدة من الجمرا حتى جبل اللوز مروراً بقرى شوكان والهجرة والدرب وشلال شاحك والمربك لم يتبق في المنطقة سوى قرية تنعم موالية للنظام الجمهوري ومتمسكة به وهي بحاجة للدعم والمساندة لأن أهلها قاوموا الهجمات المتوالية لاحتلال قريتهم وفتح الطريق لمرور القوات الملكية بقيادة الشيخ علي شعلان والأمير عبدالله بن الحسن، حيث قامت هذه القوات بالتعاون مع قبيلة سنحان للتمركز في الجبال المحيطة بصنعاء والاتجاه لقطع طرق التوين القادمة من مدينة تعز إلى العاصمة وإب وغيرها من المناطق حرس وطني دعم مادي، رجال قبائل من القوات الشعبية من الحداء ورداع وعنس والبيضاء من القبائل الجمهورية في المناطق الوسطى وغيرها.كما كان هدف قوات المرتزقة الملكيين منع قوات الثورة من الوصول إلى جبل اللوز الذي كانت القيادة تهدف من احتلاله إلى تمركز المدفعية الثقيلة فيه وتوجيه ضربات ناجحة وحاسمة لقوات المرتزقة الذين كانوا قد تجمعوا في هذا المحور، حيث إن جبل اللوز كان يعتبر منطقة استراتيجية مطلة على قرى المحور الملكي وسيكون في إمكان قوات الثورة، لو سيطرت عليه، أن تشتت القوات الملكية وتفشل مخطط فتح الطريق لمرورها عبر سنحان للسيطرة على الجبال المنيعة المحيطة بالعاصمة والتعرض لقوافل الإمداد والتموين القادمة من مناطق الجمهورية التي كانت ممتدة من ذمار حتى ماوية.لكن أخبار تلك الحملة انقطعت بعد أن قام رجال القبائل في المنطقة بالتقطع لسيرها والاشتباك مع رجالها قبل أن يصلوا إلى تنعم وكانت قرية شوبان هي التي جمعت الرجال وقاموا بالتقطع وإفشال الحملة وأخذ معظم ضباطها ورجالها اسرى وقتل مجموعة كبيرة من سرية أبين ويافع حوالي 45 فرداً وجرح مجموعة أخرى حوالي أربعين شخصاً ظلوا ينزفون دون أن يسمح لهم بشرب الماء أو تضميد الجراح أو المأوى فقد وجدنا معظمهم مختبئين داخل بساتين العنب وهم في حالة بائسة وبعضهم قد لقي حتفه من شدة النزيف، كانت حملتنا المساندة بقيادة النقيب هادي عيسى قد خرجت من صنعاء بعد أن تلقت القيادة أخبار مصير الحملة الأولى من العائدين والهاربين والناجين وخرجت حملتنا المزودة بمصفحتين 4 × 4 وسيارات النقل التي كانت تحمل الجنود النظاميين وأفراد الحرس الوطني المتدربين حديثاً وبعض رجال القبائل من بني الحارث بقيادة الشيخ حامد خيران والشيخ الحنبصي وحين وصلنا إلى محل الضبعات الواقع بين شوبان وتنعم توقفنا قليلاً لتدارس الموقف، بعد أن أخذنا في طريقنا مجموعة من الناجين الذين كانوا متجهين صوب العاصمة بعد ان سلبهم رجال القبائل اسلحتهم والذين اصروا على العودة معنا للقتال رغم حالتهم النفسية واستشهاد عدد من زملائهم ممن غدروا بهم .. واستقر الرأي بعد المشاورة واستشارة أحد قادة الحملة الأولى النقيب عبدالله قاسم زبارة والمرحوم محمد أحد الدقم قائد سرية الشرطة الاتحادية وضابط صف مصري اسمه الأول حبشي ضابط مدفعية هاون ومجموعة من الناجين، أستقر الرأي على مواصلة الحملة والتصدي للعدو بكل قوة للانتقام لزملائنا الضباط والجنود في سريتي أبين ويافع والقوات المسلحة أولاً، ولتلقين العدو درساً لاينساه مستقبلاً ثانياً، وأداء المهمة التي فشلت في ادائها الحملة الأولى، لظروف صعبة فهمناها فيما بعد ممن كان لهما الفضل في انقاذ حملتنا من المصير الذي لقيته الحملة الأولى وهما الأخ النقيب عبدالله قاسم زبارة أحد المشاركين في الثورة من ضباط الأمن والمرحوم الرائد محمد أحمد الدقم قائد سرية الشرطة الاتحادية مع المجموعات التي جاءت من المحافظات الجنوبية والشرقية للوقوف بجانب الثورة والدفاع عن نظامها الجمهوري.تحركت حملتنا نحو قرية شوبان بعد أن تركنا مؤخرة الحملة في قرية الضبعات وبدأنا بالتقدم بالمدرعات أولاً على أن تلحق بنا السيارات النقل بعد تجاوز الطريق الضيق الذي استخدمته القبائل لضرب سيارات الحملة الأولى بعد أن بنشروا السيارة الأولى والأخيرة فحوصرت قواتنا التي خرجت في الحملة الأولى وبذلك تمكنت القبائل من السيطرة على السيارات المملوءة بالذخيرة والسلاح وبدأوا في توجيه اسلحتهم نحو الأفراد الذين تمسك بعضهم بالسيارات فلقي حتفه أو جرح وقفز الآخرون وبدؤوا الاشتباك مع قوات القبائل دون خبرة بالطرق والمسالك والفخ الذي نصبه لهم رجال القبائل المدربون على حرب العصابات واصحاب الأرض والخبراء بمسالكها وطرقها وأين يمكن وضع فخ للقوات للوقوع فيه، وكدنا نقترب من الفخ المنصوب لنا حتى ترجلنا من المدرعات استعداداً للاشتباك مع العدو وأمرنا سائقي المدرعتين بأن يجعلوها في وضع العودة إلى الضبعات فيما إذا لم ننجح في كبح جماح القبائل الذين كانوا يطلقون النيران بغزارة وكثافة اذهلتنا وببنادق البشلي والجرمل ذات الاطلاق الفردي، لكن رشاشات المدرعتين حمتنا من الخلف واصلت العدو بنيرانها الكثيفة والمؤثرة مما دفعه للانسحاب من مواقعه.كان الليل قد بدأ يسدل ستاره على قواتنا وقوات العدو فقررنا الانسحاب والعودة إلى قوات المؤخرة في الضبعات لمراجعة خطتنا وإدخال سلاح المدرعات الثقيلة لأول مرة في خطتنا لاقتحام العوائق والألغام التي وضعها القبائل في الطريق، ولتجنب السير في طريق السيارات الذي كان العدو قد زرعه بالألغام بواسطة خبراء أردنيين واصبح من المستحيل اجتيازه بسيارة نقل أو مدرعة خفيفة، لذلك فقد عدنا إلى مؤخرة قواتنا سالمين لم نفقد أحداً بسبب النصيحة التي وجهت لنا من الأخوين عبدالله زبارة أطال الله عمره والمرحوم محمد أحمد الدقم رحمه الله.عسكرنا في الضبعات المسماة محل آل السراجي الذي كان أحد ابنائهم في مقدمة الحملة الأولى والثانية وهو الملازم محمد السراجي وأتخدنا لنا مواقع عسكرية فوق رؤوس الجبال المطلة على محل شوبان وقرية تنعم.بعد تدارس الموقف قرر القائد هادي عيسى القيام بالمهمة بنفسه حيث افهمنا أنه سيذهب للقيادة لاقناعهم بمدنا بالمدرعات الثقيلة “الدبابات” وسيعود خلال يومين على الأكثر، وبعد موافقتنا ذهب قائد الحملة رحمه الله ولم يعد لا بدبابات ولا أي نوع من الدعم الذي طلبناه، فقررنا انتخاب قيادة جديدة من الملازم علي عبدالله السلال قائداً والملازم علي علاية نائباً للقائد والملازم المرحوم أحمد خليل رئيساً للعمليات والملازم محمد السراجي مسؤولاً عن تموين الحملة، وايفاد الملازم عبدالله قاسم زبارة برسالة للقائد الأعلى تطلب منه مدنا بالدبابات وبعض القوات الداعمة لأن فترة بقائنا في الضبعات كانت عبارة عن معارك مستمرة يومياً وغزو أو محاولات غزو على طريقة حرب العصابات، وإطلاق نيران على مواقعنا ومواقعهم بدون توقف خصوصاً في المساء وكان ذلك مجرد اختبار قوة طرف للطرف الآخر.. وفي هذا المقام أسجل اعترافاً بجميل أهل الضبعات الذين خدموا قواتنا وهيأوا لها كل المواد التموينية من الأكل والشرب وإرسال الرسل للتجسس على قوات العدو وإمكاناته كما كان العدو يفعل أثناء فترة عسكرتنا في الضبعات فلهم شكرنا واعترافنا بجميلهم وما قدموه لنا.ورغم الضغط النفسي وتأثير البرد الشديد على قواتنا وامتداد فترة الانتظار للمدد، كانت قواتنا تتحلى بالروح المعنوية العالية والتطلع لساعة الإذن بالاشتباك مع العدو وإلحاق الهزيمة به والانتقام لجرحانا وشهدائنا في سريتي يافع وأبين.أخيراً جاء الفرج بوصول الملازم عبدالله حسين زبارة ومعه المدد دبابتان ومجموعة من أفراد الحرس الوطني من أبناء ردفان وحالمين والضالع ولحج يكونان كتيبة متراصة لم تكن قد تلقت التدريب الكافي لكنهم كانوا ينشدون الأناشيد الوطنية ويهتفون بحياة الثورة وقائدها، والزعيم جمال عبدالناصر ويتوعدون العدو بالانتقام.أرسلت لنا القيادة رسالة تواسينا في الشهداء من سريتي أبين ويافع وتطلب منا سرعة نقل الجرحى وإسعافهم إلى المستشفيات أو الخارج “مصر” لعلاجهم كما افهمتنا أنها لم تعد تملك كثيراً من الدبابات والأسلحة الثقيلة وأن الدبابتين التي ارسلتهما مع مدرعتين 6 × 6 هما من حراسة القيادة والمشير عبدالله السلال طالبة “القيادة” حسم الموقف العسكري وسرعة التحرك لدحر العدو وهزيمته.أزددنا قوة ومنعة بانضمام سلاح ثقيل لقواتنا ومجموعة من الحرس الوطني من ابناء المحافظات الجنوبية ومن عرين الأسد الشهيد راجح بن لبوزة “ردفان” وابناء الضالع الشجعان ويافع المغاوير ولحج الأبطال، وقررنا التحرك فجر اليوم الثاني لمفاجأة العدو أولاً وإصابته بالذهول والدهشة ثم الهزيمة عند استخدامنا لأول سلاح ثقيل في هذه المنطقة.وشهادة للتاريخ أسأل عنها أن أبناء المحافظات الجنوبية ممن تبقى من سريتي يافع وسرية حالمين وردفان والضالع ولحج كانوا يجرون خلف الدبابة كالأسود الكاسرة غير مبالين بنيران العدو الكثيفة رغم أنهم كانوا مكشوفين، واشهد أن الرائد محمد أحمد الدقم، رحمه الله، كان مندفعاً كالأسد الجسور رغم حمله رتبة عالية واقترحنا عليه أن ينضم إلى القيادة في الدبابة الأولى خوفاً عليه من الإصابة، مع بطل جسور آخر هو الملازم محسن وهاس وبدأت المعركة غير المتكافئة فقد كان العدو يعتقد أن الدبابة مثلها مثل المصفحة يمكن اصابتها وتفجير إطاراتها والاستيلاء عليها، وتركنا العدو يصب نيران غضبه على الدباباتين اللتين أمطرتا بوابل غزير من الرصاص بينما كانت الدبابة الأولى قد بدأت بضرب قرية شوبان ومنازلها، وكانت أول إصابة قاتلة هي إسقاط بيت الشيخ محمد الغفاري المكون من أربعة طوابق وهو شيخ شوبان ثم التصويب من قبل الدبابة الثانية على بقية المنازل .. كانت معركة طاحنة وشرسة وغير متكافئة ومفاجئة لم يكن أهالي قرية شوبان يتوقعونها، لذلك فقد أسرعوا بالفرار والنجاة بأنفسهم وترك القرية بنسائها وصبيانها وممتلكاتهم الكثيرة، وتركوها لدخول القوات الجمهورية التي تسابق أفراد قواتنا من الحرس الوطني والنظام والقبائل لاحتلالها بتطهيرها ونهبها.كان منظر القتلى من سريتي يافع وأبين مؤثراً للغاية لمن ساهم في الصلاة عليهم ودفنهم بدمعة حارة، وكان الجرحى في حالة يرثى وأقصى القلوب لولا أهالي قرية تنعم وما قدموه لهم من طعام وشراب حتى أن بعض الجرحى كانت الدود تأكل من أجسادهم دون أن يتمكنوا من مقاومتها لأن الجرح غائر وعميق ومعيق لصاحبه عن الحركة أو لأن الفترة التي قضوها ينزفون حالت دون تحملهم لآلام الجراح ومعاناته القاسية.استبد بي الغضب عند رؤيتي حالة القتلى والجرحى وقررت كقائد للحملة نسف القرية ومنازلها كاملة دون رحمة باستثناء الأطفال والنساء الأبرياء من هذه الجريمة البشعة التي ارتكبت في حق مقاتلينا من الحرس والشهداء وأيدني في ذلك كل القادة الميدانين، وبدأنا في وضع الألغام في كل بيت في القرية وفجرنا كل المنازل دون استثناء، حتى تصبح هذه القرية مجرد ذكرى وعظة لمن تحدثه نفسه الإعتداء على جندي من جنود الثورة، ومازلت أتذكر كيف كان رد الفعل في نفوس الأطفال والنساء الأبرياء فقد انخرطوا في البكاء لأنهم لم يرتكبوا ذنباً أو يشاركوا في قتل وإصابة جرحانا بجراح بليغة ومنع الماء عنهم والأكل وتضميد الجراح وهو ما يفعله العدو والفارس النبيل بصرف النظر عمن يمثل هؤلاء القتلى والجرحى.ورغم حزني الشديد عل مصير القتلى وحالة الجرحى إلا أنني تمالكت نفسي فأمرت بسرعة إسعاف الجرحى ودفن الموتى في موكب جنائزي مهيب ثم أمرت بالتحرك نحو قرية تنعم الهدف الرئيسي من خطتنا وتركت قرية شوبان نهباً من قبل قواتنا بعد أن أمرت بتخصيص سيارتين لنقل الأطفال والنساء وتسليمهم لشيخ الضبعات الأخ السراجي مع مبلغ من المال للصرف عليهم حتى يأتي أهالي المحل لأخذهم عملاً بالحكمة القائلة (إن الأطفال والنساء لايجب أن يؤاخذوا بذنب آبائهم).وهكذا كانت أخلاقنا ومبادؤنا رغم سوء أخلاق العدو وشرساته في معاملة قتلانا وجرحانا، ورغم الألم الشديد الذي كنت أشعر به بعد أن دمعت عيناي من مناظر القتلى والجرحى فإنني اعطيت أمراً لمواصلة الحملة والسير نحو بلوغ تنعم بعد أن تأكد لي أن أهاليها موالون للنظام الجمهوري ومتمسكون بالثورة ومبادئها، فكان لهم الفضل في تهريب العديد ممن وقعوا في كمين أهالي شوبان كما شاركوا في إسعاف الجرحى وتقديم الطعام والشراب الضروريين لاستمرارهم على قيد الحياة .. وكان أول عمل قمنا به هو تقديم الشكر لأهالي تنعم وتكوين سرية من أولادهم للمشاركة معنا في حماية مخازن الذخيرة والتموين العسكري والأسلحة التي كانت معنا، ثم اخترنا موقع القيادة، وهو عبارة عن منزل لأحد أهالي تنعم تنازل لنا عنه طواعية فأستأجرناه ورفضنا هبته لأن الأهالي كانوا قد بلغوا حداً من المتاعب بسبب إصرارهم على موالاة الثورة والنظام الجمهوري، رغم الحصار الشديد الذي ضربه عليهم اصحابهم فأردنا التخفيف عنهم وأشركناهم في الحصول على تموين يومي لكل فرد منهم، وكان عبارة عن أربع كدم وعلبتي تونة لاتسد الرمق، وهو ما كان يحصل عليه كل ضابط وجندي نظامي وحرس وطني ومتطوعون رجال القبائل ومشائخهم.وظلت المعارك بين رجالنا، من جيش الثورة والقبائل بطريقة الكر والفر.بعد مضي ستة شهور وبعد أن بلغ غياب إخواننا من المحافظات الجنوبية والشرقية مدة ستة شهور عن أهاليهم طلبت الرائد محمد الدقم وقادة سريتي أبين ويافع الناجية من الموت والذين كثر عددهم بعد عودة الجرحى من المستشفيات في صنعاء وإصرارهم على مواصلة القتال وأبلغتهم بأننا سنعطيهم إجازة لزيارة الأهل والأحباب في البلاد على ان يقوموا بتجنيد مجموعة أخرى تصلنا خلال شهر لسد النقص والعجز في قواتنا فاعترضوا في البداية لكنهم ابتهجوا عندما قلت لهم انها فرصة لزيارة الأهل وتفقد الأسرة، وأمرت بصرف مرتباتهم، وفوجئت برفضهم الاستلام مرتباتهم ورغبتهم في الاحتفاظ بسلاحهم ومصروف طريق فقط يوصلهم إلى قراهم فأجبت بأننا لانستطيع أن نعطيكم السلاح لأنه عهدة على قيادة المحور وعند عودتكم سنعيده إليكم مرة أخرى وسأكتب لكم هذا التعهد مني ومن قيادة المحور زملائي ونوقع جميعاً فرفضوا وأصروا على الاحتفاظ بسلاحهم مع الذخيرة بل إنهم طالبوا مضاعفة الذخيرة بدلاً من المرتبات وظللنا نتحاور حتى تطور الحوار إلى شبه نشوب قتال بيننا واتخذ كل منا مترسه وخندقه، فجاء نائبي الملازم علي علاية أحد ضباط الثورة من خلية الأمن ومن طوقني بمعروف لن انساه هو الذي افشى لي بساعة الصفر كلمة السر وطلب مني المشاركة دون أن أكون قد اصبحت عضواً فاعلاً في تنظيم الضباط الأحرار قال لي نائبي: نحن هنا مطوقون بالأعداء من كل جهة ولا يحتمل أي خلاف في صفوفنا إذ سينتهز العدو فرصة خلافاتنا وتقاتلنا ببعضنا فينقلب علينا جميعاً مما يضعف صفوفنا ويحد من وقتنا ويهدر ما نملكه من سلاح وعتاد اعددناه للعدو لضرب بعضنا البعض ونحن صف جمهوري واحد وإخواننا جاءوا للقتال معنا ومعاونتنا والمسألة تحتاج للتعقل وإمعان التفكير وبإمكانك “موجهاً الحديث إلى قائد المحور وأبن الرئيس السلال” أن تعود لوالدك وللقيادة في اجتماعك الأسبوعي بهم وتعرض عليهم المشكلة والورطة التي وقعنا فيها وطلب المخرج الذي يجنبنا المصاعب ولايطور القضية مع إخواننا إلى حد الاصطدام .. رأيت أن رأي نائبي صواب وفيه مخرج لنا من محنتنا فعدت لإخواننا قادة وضباط وأفراد سريتي يافع وسألتهم: هل تقبلون رأي المشير السلال القائد الأعلى وتوجيهاته في هذه القضية فأجابوا جميعاً نعم جرى هذا الحديث في أحد أيام الثلاثاء فانتهزت فرصة قرب الاجتماع الأسبوعي الذي يصادف الخميس من كل أسبوع وتحركت إلى صنعاء منتهزاً فرصة يوم الأربعاء لزيارة أسرتي وأولادي ووالدي وإطلاعه على الموقف العسكري برمته وطرح موضوع قضية السلاح العهدة على المحور والذي يريد إخواننا من أبناء المحافظات الجنوبية الاحتفاظ به على الاجتماع الأسبوعي يوم الخميس وبعد أن وصلت إلى العاصمة صنعاء أعدت التفكير في هذا الموضوع وخطرت لي فكرة طرحه على والدي عند زيارتي له.لم اطرحه بعد ذلك في اجتماع القيادة الأسبوعي وما كدت أذهب باكراً من يوم الأربعاء حيث وجدته مرهقاً ومجهداً ومهموماً فحدثت نفسي بالعدول عن طرح الموضوع عليه، لكن بعد ان استقبلني بابتسامة عريضة محيياً موقف القوات التي أصبحت مسيطرة على قيادة المحور وطالباً نقل تحياته وتهانيه لكل فرد وضابط ومقاتل.. وعندما أحس بانني مهموم ولا يبدو علي الفرح بتشجيعه لي ولزملائي ضباط وصف ضباط وجنود المحور سألني: ما تفعل بالله من هموم فلدي منها ما يكفي؟! فانا أواجه مشاكل وقضايا ومعوقات في عشرين جبهة موزعة في كل انحاء الجزء الشمالي من الوطن (هذا كان في بداية الثورة) فأجبته: بس هذا الهم الذي سانقله له ربما يكون أكثر الهموم وأشدها تعقيداً وحكيت له قصة إصرار إخواننا المقاتلين من أبناء المحافظات الجنوبية على احتفاظهم بالسلاح والعودة به الى الجزء الغالي المحتل من الجنوب ورفضهم لمرتباتهم وإنما يريدون مجرد مصروف يعيدهم الى قراهم، فضحك ضحكة عالية كما هي عادته وخشيت أن يحول الموضوع الى نكتة، كما كان يواجه كل المشاكل لكنه اجابني: “يامغفل احمد الله أنهم سيأخذون السلاح معهم لأنهم سيذهبون به ليحاربوا الانجليز وأنا أتمنى ادخال اسلحة لبقية إخوانهم حتى يتمكنوا من تفجير ثورة ثانية ضد المستعمر، كما فعلنا في شمال الوطن، دعهم يأخذوا الأسلحة واصرف لهم مرتباتهم كاملة وإياك أن تتعذر بالعهده فأنا مستعد لإخلاء عهدتك بأمر الى قصر السلاح وأكلفهم ان يصرفوا لك الكمية التي نقصت من عهدتك حتى تسلح بها القادمين اليك من ردفان وحالمين والضالع فقد وجهت إلى العمليات بأن يرسلوهم إليك بعد أن حقق الأولون انتصارات كبيرة وخاضوا معارك باسلة وملاحم بطولية كما تحكي بذلك تقاريرك إلي وإلى القيادة، وسوف أذكرك قريباً جداً أن أولئك الأبطال وغيرهم من إخوانهم الذين سيلحقون بهم سوف يفجرون الثورة بالسلاح الذي أصروا على الاحتفاظ به، فقدم لهم الشكر نيابة عني وأعطهم “فكوكاً” “تصاريح” بالعودة بسلاحهم وأصرف لهم المرتبات ولا حاجة لعرض هذا الموضوع على الاجتماع الأسبوعي. فاعتبر هذا أمراً من القائد الأعلى وما عليك إلا تنفيذه وأشكر لي نائبك الملازم الثائر علي علاية فلولا رجاحة عقله لحدث ما لا يحمد عقباه.أنزاح من صدري هم أثقله طوال أسبوع وما كاد الاجتماع ينتهي حتى عدت إلى محور خولان يوم الجمعة لأبشر الإخوة والزملاء بهذا الحل فاستبشروا وصاحوا بصوت واحد يحيا السلال يحيا الزعيم يحيا القائد وأمرت بصرف مرتباتهم، لكنهم كانوا فوق كرم السلال وسماحته وأخلاقه الوطنية مما جعلني أندم على أنني اختلفت معهم لأنهم رفضوا جميعاً استلام المرتبات وطلبوا من عشرة ريالات مصاريف عودة ووعدوا بالعودة بعد عدة أشهر وأصروا على الاحتفاظ بسلاح القتلى والشهداء ليسلموها إلى زوجاتهم وأبنائهم فوافقت وأعدت عليهم عرض تسليم المرتبات فرفضوا قائلين: إننا جئنا هنا لنؤدي واجب الدفاع عن الثورة الأم التي ستشعل ثورتنا ضد الاستعمار قريباً بإذن الله.. ووسط دموع الألم على فراقهم والفرحة بعودتهم سالمين ودعناهم وحملناهم على السيارات حتى صنعاء ليدبروا أمورهم أو تدبر القيادة نقلهم إلى أي مكان يستطيعون التسلل منه إلى قراهم.كان هذا النموذج من الأبطال من أبناء المحافظات الجنوبية وإنكارهم لذواتهم هو النموذج السائد في كل الجبهات، حتى أولئك الأبطال الذين قدموا إلينا من حالمين وردفان والضالع والحواشب والعواذل بملابسهم الجميلة كانوا في نفس المستوى من البطولة والشجاعة وإنكار الذات، حتى القائد الكبير والزعيم القبلي الشريف الذي شارك معي ومع الشهيد البطل محمد الرعيني قائد الحملة الشيخ راجح لبوزة في فك حصار حجة وفي محور الطور المطيان الأمان وأصحابه كانوا في نفس المستوى من الشجاعة والبطولة وإنكار الذات وعدم الرغبة في طلب المال أو امتلاكه، وكل ما امتلكوه هو السلاح الشخصي الذي وجهوه إلى صدور الجيش البريطاني في الرابع عشر من أكتوبر 1963م وأشعلوا الثورة المسلحة من جبال ردفان الأبية بقيادة القائد العسكري والقبلي الشجاع الشيخ راجح لبوزة بعد عودتهم من أداء واجب الدفاع عن الثورة الأم في شمال الوطن.وما زلت أتذكر، حين عدت إلى صنعاء لأقدم تقريراً حول فك الحصار عن مدينة حجة أن والدي المشير - رحمه الله - أمر زوجتي أن تنبهني من نومي بعد رحلة طويلة ومهمة شاقة وإرهاق وتعب، وعندما أمسكت سماعة التلفون قال لي مرحاً مسروراً كعادته، سمعت أخبار الجنوب؟ فأجبته بأنني لم أسمع شيئاً فأجابني السلاح حقك وحق المحاور العسكرية الأخرى الذي خرج به المقاتلون الأبطال من أبنائنا في الجنوب قطع ونفع فقد فجروا به الثورة مساء أمس الرابع عشر من أكتوبر بقيادة البطل لبوزة هل صدقتني؟ فأجبت فرحاً: نعم فلسنا في كياستك وحكمتك وبعد نظرك وامتداده إلى بعيد فما زلنا شباناً في مقتبل العمر تنقصنا التجارب ولا تنقصنا الشجاعة والإقدام. فرد مقاطعاً حديثي: لولا شجاعتكم وإقدامكم ليلة الثورة وفدائيتكم المتناهية لما كتب لثورة سبتمبر الخالدة البقاء ولما تفجرت ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة.هذه بعض الصفحات المشرقة من ملاحم الثورة الخالدة وتعبير بسيط عن عظمة المشاركة الفاعلة والمؤثرة لحماية الثورة من أبطال وشجعان أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية.الرحمة والخلود للشهداء الأبرار وعاشت الثورة والوحدة اليمنية قوية متماسكة ومتراصة الصفوف أمام أعدائها لتحقق آمال وطموحات شعبنا في إقامة تنمية واسعة وشاملة وفي شتى المجالات في ظل قيادة ابن اليمن البار القائد الرمز علي عبدالله صالح وطلب ورجاء أخير أقدمه هنا باسم كل تلك القوافل من الشهداء الأبرار أن يقوم القائد السبتمبري المتعاون والمتفاعل معنا برعاية أسر الشهداء والأحياء ممن تبقى من مناضلينا، رحم الله الشهداء وأطال بعمر الأحياء.
دور ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة في مناصرة ودعم الثورة السبتمبرية المباركة
أخبار متعلقة