الرقابة على تحقيق التراث .. وظيفة غائبة
القاهرة/14اكتوبر / وكالة الصحافة العربية في الآونة الأخيرة ارتفعت الأصوات والنداءات للمطالبة بحماية التراث العلمي والحضاري، باعتباره الثروة الحقيقية للأمة، ومن حق كل مواطن مثقف أن ينتفع به خصوصا التراث العلمي، لذلك ازدادت الحملات التي طالبت بحماية هذا التراث وحده، عدة مؤتمرات وندوات برعاية هيئات ثقافية عربية ودولية معنية بشئون التراث والمخطوطات.وإذا كانت قضية حماية التراث لاقت كل هذا الاهتمام، ووجدت العديد من النداءات التي تؤيدها، وتؤيد إنشاء اتحاد لمؤسسات حماية التراث، فكيف الحال بفكرة التحقيق، وكيف يسير هذا المشروع؟ وهل يتضمن مشروع حماية التراث، حماية تحقيقه من التزييف والتحريف؟ وحماية المخطوطات من أيدي العامة ومن لا يعرفون قيمتها؟ حول مدي الأمانة في تحقيق التراث، والرقابة عليه يدور هذا الموضوع في محاولة لمعرفة بعض ملامح الحماية المتمثلة في الرقابة علي تحقيق التراث، بمعني إلي أي مدي يكون المحقق أمينا في عملية التحقيق، ومن الذي يضمن هذه الأمانة، وبالتالي يضمن للتراث عدم التحريف أو الإهمال في نقله؟يشير عصام الشنطي خبير المخطوطات بمعهد المخطوطات العربية إلي الكثير من المعوقات التي تواجه محققي التراث منها، أن هناك بعض الكتب التراثية من الصعب التعرف علي هويتها أو هوية مؤلفها، وبالتالي يصعب ردها إلي أصلها، ويضيف: هناك بعض الكتب غير معنونة، أو لا توجد منها نسخ كافية، وفي الغالب لا توجد سوي نسخة واحدة لا دليل علي صحتها، هذا بالإضافة إلي وجود العديد من المخطوطات الناقصة أو الكتب المتداخلة التي يصعب فصلها.وعن الشروط التي يجب توافرها في محقق التراث حتي نضمن أمانته في عملية التحقيق يشير” الشنطي “ إلي أن هذه الشروط غير منصوص عليها في لائحة معينة، إلا أن الجهة المختصة بتحقيق التراث تعرف تماما كيف تختار محققيها، ويمكنها تمييز من يصلح لذلك، كما أنه لم يظهر بعد من يمتلك الجرأة الكافية التي تجعله يقحم نفسه في مجال كهذا لمجرد التلاعب بكتب التراث، والجهات المختصة بالتحقيق لديها إدارات رقابة تتابع عمل المحققين لكشف هذا التلاعب بكتب التراث، والجهات المختصة بالتحقيق لديها إدارات رقابة عمل المحققين لكشف هذا التلاعب الذي لم يحدث حتي الآن، لكن الأزمة الحقيقية تكمن في إمكانية حماية هذه الكتب وتوفير الجو الملائم لعملية التحقيق وجمع شتات الكتب التراثية من أماكن عدة تتعرض فيها للتلف والاندثار.ويطالب الشنطي بإنشاء مراكز هدفها حماية هذا التراث والإشراف علي تحقيقه للتغلب علي هذه المشكلات، علي أن تكون هذه المراكز تابعة للجامعات الإسلامية الكبري تحت إشراف متخصصين.[c1]قداسة التراث![/c]ويؤكد الكاتب والباحث المصري طه محمد كسبه أن هناك من يري أن التراث قيمة تعليمية وتثقيفية تعطي إحساسا بالعمق الثقافي والحضاري للأمة، وهناك فئة أخري تري أن التراث قيمة لا يمكن الاستغناء عنها كلية، لكن ليس من المعقول أن تكون للتراث قداسة مفروضة علينا مثل كتاب الله والسنة المطهرة، لذلك لا يصح أن يتحول التراث العربي والإسلامي برمته - والذي هو من نتاج البشر - إلي صنم.ويري كسبه أن الوعي بالتراث من أهم القضايا التي يجب أن نناقشها ولتكن البداية من الحفاظ علي التراث وإنقاذه من الإهمال والضياع والاندثار، ثم إحيائه، ويؤكد أن عملية الإحياء هذه تتطلب مجهودات مكثفة لما فيها من تداخل واحتياج للدقة، فمثلا رؤية نشر هذا التراث غير واضحة، رغم كثرة الكتب المحققة والتي نشرت، فلازال البعض يعتقد أن التحقيق هو نقل التراث دون فرز علمي له.. كما أن هناك مشكلة بالنسبة للمحققين ألا وهي عدم وجود مواصفات واضحة للتحقيق، أو وجود حدود له أو قواعد لنشر التراث.ويضيف كسبه: أكبر مشكلات تحقيق التراث، دخول غير المتخصصين في مجال التحقيق من أجل الشهرة والكسب المادي مما أدي إلي فساد الكثير من هذه المؤلفات، كما أن الناشرين من تجار الكتب يسعون إلي تحقيق الربح المادي دون مراعاة لأي اعتبار آخر.[c1]جهة مسؤولة[/c]ويؤكد أحمد شوقي بنبين خبير المخطوطات علي ضرورة وجود جهة رسمية تكون مسئولة مسئولية كاملة عن عملية تحقيق التراث وجمعه ونشره وحمايته من التحريف، مشيرا إلي المعوقات التي تعترض الباحثين والمحققين في هذا المجال، منها قلة المتخصصين، وصعوبة الحصول علي الكتب التراثية، مما أدي إلي عدم بلوغ عملية تحقيق التراث المستوي المطلوب والذي يتناسب مع أهميته.ويشير أحمد شوقي إلي أن ضمان الأمانة لدي محققي التراث لا يمثل مشكلة لكن المشكلة الحقيقية هي عدم وجود متخصصين في هذا المجال أو ندرتهم لأن مشكلة الأمانة يمكن حسمها بالمراجعة والرقابة، لكن ثمة مشكلة أكبر تتمثل في إمكانية جمع شتات كتب التراث العربي المتناثرة في كب بلدان العالم تقريبا، مشيرا إلي وجود مركز للتراث العربي في كل دولة أوروبية وهو مفتوح للقراءة والاستفادة، ومن ثم يطالب د. مرزوق بإنشاء مراكز لتحقيق التراث وحمايته في كل عاصمة عربية، كما يطالب بإنشاء كلية للتراث الإسلامي تحافظ عليه وتخلق أجيالا قادرة علي حفظه واستيعابه وتقدير دوره في حياتنا الثقافية.[c1]ثروة طائلة[/c]أما سمير غريب الرئيس الأسبق لدار الكتب المصرية فيشير إلي أنه مؤمن تماما تماما بقيمة الكتب التراثية وأهميتها، ويقول: (لدينا في دار الكتب ما لا يقل عن المليون ونصف المليون كتاب وأكثر من مائة ألف مخطوطة نادرة، وقد رأيت بنفسي السباق الدائر بين كل دور النشر علي مستوي الوطن العربي في إعادة تحقيق ونشر كتب التراث، لذلك لن أتردد في جعل الأسبقية لدار الكتب المصرية لما تمتلكه من ثروة طائلة من المخطوطات وكتب التراث، وقد ركزت في خطتي لتطوير دار الكتب بشكل خاص علي مسألة تحقيق التراث ونشره، خصوصا أن دور النشر الآن تكسب كثيرا من تحقيق التراث ونشره.. وقد طفت بنفسي في مركز تحقيق التراث، ووجدت به كوادر وكفاءات تعمل في صمت ودأب شديدين، وبإذن الله، سيتحقق ما نأمل في مجال تحقيق التراث من خلال تلك الكفاءات النشطة). أما الباحث والمحقق د. يوسف زيدان فهو يري أن دور المؤسسات الحكومية المعنية بتحقيق التراث ونشره لا يتعدي الدور الوظيفي والآلي الرخو الذي يشبع نهم القراء، ولا يتناسب مع ثراء الموروث العلمي الموجود لدينا في كتب التراث، مؤكدا علي أن دور الرقابة علي تحقيق التراث، مفقود بتجاهل فنية الصياغة وحرفية النقل والتطويع فهناك العديد من الكتب التي تم تحقيقها ونشرها ومع ذلك تحتاج إلي إعادة تحقيق.ويضيف: مسألة تحقيق التراث خرجت عن وظيفتها كوسيلة تخدم الثقافة، وأصبحت سلعة تتحكم فيها دور النشر، كما أن هذه الدور لازالت تمارس سلطاتها كاملة علي المحققين الجادين، وبالطبع المسألة بالنسبة لهم لا تتعدي الرغبة في الربح السريع بصرف النظر عن المادة المقدسة لهم ومدي صحتها، مدي جودة تحقيق الكتاب أو رداءة التحقيق.. باختصار تحقيق التراث يحتاج إلي رقابة حقيقية.[c1]تدليس متعمد[/c]ويتناول د. عبد الغفار هلال أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر هذا الموضوع من زاوية أخري ربما أكثر أهمية حيث يشير إلي دور الباحثين الغربيين ومساهمتهم في أزمة تحقيق التراث العربي والإسلامي مؤكدا أن هؤلاء المستشرقين استغلوا سلطة البحث المخولة إليهم، وقاموا بتنفيذ خططا محكمة لتحقيق التراث العربي بغرض النيل منه أو تشويهه، وبناء علي ذلك لا يمكن الاعتماد علي المستشرقين في تحقيق التراث لما أحدثوه من قلب للحقائق ونسبة العديد من الإنجازات العلمية المثبتة في التراث العربي إلي علماء الغرب.. ويضيف د. هلال: لذا ينبغي إعادة النظر في خطط تحقيق التراث، وأن أكبر خطأ ارتكب في حق هذا التراث هو تركه في يد الغير وخصوصا الغرب، فماذا تنتظر أمة تركت تاريخها العلمي بين يدي أمة أخري لتعيد صياغته سوي تاريخ مشوه وحقائق ملفقة ووجهة نظر تصور هذا التراث العلمي علي نحو ساذج بسيط، ينقل الاختراعات والاكتشافات من علماء العرب القدماء وينسبها لنفسه ويظل هو يبكي علي الأطلال كما يليق به، كل هذا وأكثر من هذا يحدث عند تحقيق أية مخطوطة تراثية تقع تحت وطأة مستشرق، حتي كتب التاريخ العلمي للبشرية فإنها منسوبة إلي الجنس الآري فقط، ويتم تجاهل كل إنجازات علماء الشرق والعالم الإسلامي بصفة خاصة.ويختتم د. هلال بالقول: إنه آن الأوان لنعيد صياغة تراثنا العلمي والحضاري بأقلامنا نحن من خلال إنشاء مؤسسة أو هيئة متخصصة لتخريج باحثين في التراث ودارسين له علي دراية كاملة بسبل تحقيقه، حتي نسترجع تراثنا الحقيقي ونخلصه من هذا التدليس الذي لحق به.وبرؤية موازية للرؤية السابقة يري د. سعيد مغاوري الخبيرفي مخطوطات التراث العربي ، أن الغرب اهتموا كثيرا بالتراث العربي وأنشأوا له متاحف ومؤسسات وأقساما في الجامعات الأجنبية خاصة به، ومن خلال هذه الهيئات أنصف البعض منهم هذا التراث، وساهموا في تحقيقه ونشره بأمانة، لكن هذا لا يمنع وجود طائفة أخري من المستشرقين الذين أساءوا إلي هذا التراث وراحوا يتصيدون أخطاءه لتكون هذه الأخطاء البسيطة الناتجة عن عدم الدقة في التحقيق هي معاويل الهدم الأولي التي يستخدمها المستشرقون للنيل من قيمة هذا التراث، بالإضافة إلي ذلك فإن بعض الباحثين الغربيين يسلكون مسلكا غير موضوعي أثناء نشر هذا التراث أو إعادة تحقيقه بغرض الإساءة إلي التراث العربي، لذلك لابد من حماية التراث العربي من أخطاء المستشرقين كخطوة أولي في سبيل تحققه ونشره للأجيال القادمة.